“ذات مرة في هوليود”.. تارنتينو في مهرجان كان لكن بشروط

محمد علال

أبطال فيلم "ذات مرة في هوليود" رفقة المخرج فوق بساط الأحمر لمهرجان "كان" 2019

“أحب السينما، أنتم أيضا تحبونها، إنها الرحلة التي نقوم بها عندما نكتشف القصة لأول مرة، أشعر بالسعادة لتواجدي في مهرجان كان، والمشاركة بفيلمي ذات مرة في هوليود، لقد بذل طاقم عمل الفيلم جهدا كبيرا من أجل تقديم عمل أصلي، أطلب منكم فقط الآن تجنب الكشف عن الأشياء التي من شأنها أن تحرم الجمهور في المستقبل تجربة الإحساس نفسه عندما يكتشفون الفيلم في القاعات”.

هذا جزء من رسالة المخرج الأمريكي كانتين تارنتينو إلى الصحافة في مهرجان كان قبل عرض فيلمه ضمن المسابقة الرسمية، ولا أحد من بين المخرجين الـ19 المشاركين في المسابقة الرسمية للمهرجان امتلك تلك الجرأة لتوجيه رسالة بمثل هذا النص.  

مشهد من النادر أن تعيشه في قاعات السينما، حيث يقف رجال الصحافة في طوابير طويلة لانتظار العرض الأول للفيلم، بينما يحمل شباب ورجال ونساء لافتات كتب عليها “من فضلكم، نريد دعوة لحضور فيلم تارنتينو”، هذه الثقافة “السينيفيلية” (عشق الأفلام) التي تتجدد كل عام في جنوب فرنسا جاءت بطعم أكثر تميزا مع موعد عرض فيلم “ذات مرة في هوليود”.

 

مخرج كبير منحاز لجمهور كبير

صعد المقدم إلى خشبة قاعة سينما “ديبيسي” ليخاطب الصحفيين: “تارنتينو يود أن يوجه إليكم رسالة”، ليحمل معه ذلك الطلب في وقت لم يعد هناك أدنى شك بأن الفيلم هو الأكثر ترقبا على الإطلاق، وربما الأكثر حظا في الحصول على السعفة الذهبية، أو على الأقل إحدى جوائز المهرجان الهامة، ربما جائزة أفضل إخراج أو لجنة تحكيم.  

لقد حملت الرسالة انحيازا من مخرج كبير لجمهور كبير ينتظر الفيلم بشغف ولهفة، فأفلام تارنترينو كانت دائما في صدارة “شباك التذاكر” ينتظرها الملايين كأنها عُملة سينمائية نادرة، لكن هذه المرة سينتظر الناس طويلا قبل النزول إلى قاعات السينما، فكما هو مبرمج لن يعرض “ذات يوم في هوليود” قبل شهر أغسطس/آب القادم، في وقت تم توزيع العديد من أفلام المسابقة الرسمية على قاعات السينما العالمية ومنها العربية.      

قد نفهم من رسالة تارنتينو أنها محاولة لعدم التأثير على الموزعين، وهو صراع آخر يعاني منه مهرجان كان في علاقته مع كتّاب الصحافة دائما عقب العرض الأول للفيلم، فمن سنتين اشتكى عدد كبير من المخرجين من تعليقات النقاد على تويتر وفيسبوك بعد مشاهدة الفيلم، فوفقا لهم إن ذلك يؤثر على قناعات الموزعين العالميين.

رسالة كهذه من مخرج سبق له أن ترأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية من شأنها أن تضمن عدم تشويش الأقلام على قناعات اللجنة، وهي رسالة قد تعكس ربما مدى اعتزاز المخرج بالفيلم وقناعته بأنه الأكثر ترقبا في كان، فقد قرر تارنتينو الالتحاق بكان في الدقائق الأخيرة، ليحيط فيلمه الجديد بالمزيد من الفضول، وقد جاء مرفقا باثنين من أبرز ضيوف المهرجان لهذا العام، على رأسهم النجم الحائز على جائزة أوسكار ليوناردو دي كابريو وبراد بيت ومارغو روبي.  

كانت الأصداء تشير إلى أن دعوات حضور العرض الأول للفيلم دخلت السوق السوداء

المفسدون للفرجة

تارنتينو وهو يخاطب من أسماهم بــ”المفسدين للفرجة” كان ذكيا حين طلب “تجنب الكشف عن الأشياء التي من شأنها أن تحرم الجمهور”، فالكتابة عن الفيلم مسموحة وفق شرط تارنتينو، لكن بطريقة لا تقطع حق الاستمتاع عن الجمهور أو التشويش على عناصر المفاجأة.

لهذا سنكتب بكثير من الحذر عن الفيلم حتى لا نخون تلك الأمانة التي تذكرنا بخطاب سبق أن وجهه الإخوة روسو شهر أبريل/نيسان الماضي ضمن حملة بعنوان “لا تفسد نهاية اللعبة” (Don’t Spoil The Endgame)، وذلك لدفاعهم عن حظ فيلم “المنتقمون.. حرب اللانهاية” في الوصول إلى الجمهور دون تشويش من أقلام النقاد.

أبطال فيلم "ذات مرة في هوليود" رفقة المخرج فوق بساط الأحمر لكان 2019

ملامح برجوازية وسوق سوداء

في هذه الأجواء كانت الأصداء تشير إلى أن دعوات حضور العرض الأول للفيلم دخلت السوق السوداء، وقد وصلت إلى مستوى خيالي جدا، كما أشارت صحيفة “لوفيغارو” في تقريرها المعنون بـ”تارنتينو يشعل السوق السوداء في كان”، فلهفة الأثرياء لمشاهدة الفيلم رفقة نجومه جعلت البعض منهم يدفع مبلغا قدره 1300 يورو من أجل الحصول على دعوة، والأكثر غرابة هو المبلغ الذي دفعه آخرون من أجل الحضور إلى العشاء الخاص بفريق الفيلم، والذي برمج في فيلا يملكها ديكابريو في كان، وقد وصل سعر الدعوة في السوق السوداء إلى 13 ألف يورو.

والمفارقة في هذا العرض الذي جاء وسط أجواء رسمت ملامحها البرجوازية الفاحشة قصة الفيلم الذي تناول جانبا من حكاية جماعة “الهيبز”، تلك الظاهرة اجتماعية التي نشأت في ستينيات القرن الماضي كحركة شبابية أمريكية مناهضة لقيم الرأسمالية ومظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك.

بين الكثير من التناقضات والأخبار المثيرة، يمنحها الفيلم تأشيرة السفر إلى هوليود وكواليس الحياة في لوس أنجلوس عام 1969، حيث نتابع حكاية النجم التلفزيوني “ريك دالتون” (جسد دوره  ليوناردو دي كابريو)، والممثل المغامر “ليف بوث” (جسد دوره براد بيت)، وهما شخصيتان افتراضيتان تعكس مسيرتهما المهنية مراحل مهمة من تطور هوليود. وفي قلب الحديث يخصص تارنترينو بعض اللحظات في الفيلم ليرفع التحية لروح الممثلة شارون تيت التي قُتلت على أيدي عاصبة تشارلز مانسون.

صورة تجمع ديكابريو مع براد بيت في مهرجان "كان" 2019

ديكابريو الذي حمل العمل على ظهره

في ذلك الوقت توقفت هوليود في محطة معقدة جدا من تاريخ الولايات المتحدة، لتجد نفسها وجها لوجه أمام جماعات “الهيبز” التي كان يقودها الشاعر ألن غينسبرغ، وقد شهدت انتشارا كبيرا بأفكارها المناهضة للرأسمالية.

في المقابل وُلد في أمريكا ظاهرة “المجددين في هوليود”، كحركة سينمائية تريد دفن السينما الكلاسيكية في هوليود، وتطالب بضخ دماء جديدة أكثر تحررا يفك أسرها من سلطة المخرجين الراديكاليين الذين كانوا يسيطرون على الأستوديوهات الأمريكية الكبرى، وسنوا قانون “هايز” الذي صنف بعض المواضيع في خانة المحرمات التي يمنع الحديث تناولها سينمائيا مثل “العنف والجنس”.

هكذا يعود تارنتينو “ذات مرة” إلى هوليود، ليخرج بفيلم من الواضح جدا أنه كلف الممثلين كثيرا من الجهد، خاصة ديكابريو الذي حمل العمل على ظهره، وقد جاءت التجربة السينمائية العاشرة في مسار المخرج كأنه رحلة عبر الزمن بأسلوب تارنتينو الخاص في الإخراج، والذي يُعرف عنه روايته غير الخطية عبر الاعتماد على الحوارات المعقدة التي تحمل دلالات الثقافة الشعبية الأمريكية، مع إعطاء أهمية كبيرة لجمالية الصورة والإثارة والتشويق عبر إبراز بعض المشاهد القتالية، وما نجده تقريبا في كل أفلامه منها فيلمه “مستر براون”، و”خزان الكلاب”، و”جانغو الحر”.

عاد تارنتينو بهذا الفيلم المثير للجدل إلى كان ليمنح "لاكروازات" دفئا من نوع خاص

مخرج مثير للجدل

بهذا الفيلم المثير للجدل عاد تارنتينو إلى كان ليمنح “لاكروازات” دفئا من نوع خاص، يرفع من رصيد الدورة الـ72 بعدد النجوم، ويُعيد الذكريات إلى خطواته الأولى فوق البساط الأحمر، حيث يستعد تارنتينو للاحتفال بمرور 25 عاما على فوزه بالسعفة الذهبية عن فيلمه “خيال اللب”، والذي شارك به في كان عام 1994 رفقة جون ترافولتا وبروس ويليس.

منذ ذلك اللقاء لا يزال المهرجان يحفظ للمخرج الأمريكي حضوره المتميز الذي يتجدد في كل مرة، فبعد عشر سنوات من حصوله على السعفة الذهبية عاد عام 2004 رئيسا للجنة تحكيم المسابقة الرسمية لمهرجان كان، وهكذا كبرت علاقة تارنتينو مع مهرجان كان منذ أول مشاركة له عام 1992 بفيلم “خزان الكلاب”.

فالمخرج الذي صنفته “مجلة تايم” عام 2015 ضمن قائمة المئة شخصية الأكثر نفوذا في العالم، يقف اليوم في دورة مهرجان كان التي تستمر من 14 وحتى 25 مايو/أيار الجاري على بعد خطوات من تتويج جديد، ويمكن القول إنه إذا كانت هناك جائزة لأكثر مخرج إثارة للجدل بحضوره في كان، فمن دون شك فإن تارنتينو هو الأجدر بها هذه السنة.