سينما ليست كالسينما

أسماء الغول

المخرج محمد خان أحد رواد الأفلام المستقلة والتي بدأها من خلال فيلمه "كليفتي".

الأفلام المستقلة تجربة سينمائية جديدة بدأت تلوح في الأفق، بتوجهات ولغة مختلفة عما اعتاد عليه المشاهد في السينما المصرية من تكرار المشاهد واللقطات والأسلوب. فهي أفلام تحكي وتحاكي الواقع بعيداً عن كل القيود المفروضة من الرقابة والمجتمع. فهل ستكون الأفلام المستقلة “اشتباك” مع المجتمع و”باب الوداع” للرقابة ؟ 

 البداية كانت عندما أقنع المخرج محمد بيومي طلعت حرب باشا بتأسيس شركة “مصر للتمثيل والسينما” والتي ينضوي تحتها “استوديو مصر” في عشرينيات القرن الماضي، إلا أن بيومي لم يستخدم هذا الاستوديو لتصوير أفلامه، بل أصر على أن يصور ويكتب وينتج هذه الأفلام بطريقته هو، وأسس عدة استوديوهات خلال حياته كان أولها “آمون فيلم” ومن ثم استوديو “بيومي فوتو فيلم”، وحين لم يكن عنده استوديو بنى الديكورات بنفسه كما فعل في فيلم “الخطيب نمرة 13” عام 1933، وساعده في صناعته طلبة معهد السينما في الإسكندرية الذي أسسه أيضا.

ولم يكفّ بيومي لحظة عن ممارسة هواياته التي تحكمها الصدفة فكان يزرع، ويصنع الأثاث والأحذية ويصور فوتغرافيا ويكتب ويخرج أفلاماً، وحين كان يريد أن يسافر، يترك كل شيء خلفه ويسافر، هكذا متتبعاً إحساسه.

 لحظة الحرية هذه التي يسعى إليها كل مرة في حياته، كانت هي اللحظة التي وسمها في أفلامه من كتابة وتصوير وإخراج وإنتاج، فهو يصنع الفيلم الذي يريد وقتما يريد وبالطريقة التي يرغب بها، وستكون هذه اللحظة لاحقاً التي ستحدد سمة الفيلم المستقل من عدمه، فسيصنع أفلاماً لا تنتمي سوى إلى المخرج برؤيته المتكاملة وليست رؤية الجمهور أو الشركات الإنتاجية، مهما كانت تسير عكس التيار في الإنتاج والفكر ولغة السينما.

بعد بيومي بسنوات عدة، يُخرج سيد عيسى الذي درس في موسكو الفيلم الروائي “جفت الأمطار” عام 1967 في استوديو بناه كاملا بنفسه في قريته قضاء المنصورة بمساعدة طلبة وفلاحين المنطقة، وقد اعتبره كثيرون رائد السينما المصرية المستقلة،  إلا أن الإحباط ما لبث أن أصاب عيسى بسبب فشل توزيع الفيلم، وسيتكرر الأمر بعد سنوات مع فيلم “المغنواتي” 1979 الذي سيختم مسيرته الفنية، وقد جاءت تفاصيل صناعة الفيلمين في كتاب “رسائل موسكو من سيد عيسى ومحمد كامل القليوبي إلى سمير فريد”.

إخلاص التجارب الأولى

تمر سنوات طويلة لا تحمل سوى تجارب قليلة لأفلام مستقلة، كفيلميّ “سرقات صيفية” 1988 و”المدينة” 1999 للمخرج يسري نصرالله، وصولاً إلى عام 2000 حين قام المخرج حاتم فريد الذي درس في أمريكا بإخراج فيلمه “حبة سكر”، وهو أول فيلم روائي طويل مستقل يتم تصويره دون خام السينما بل بكاميرا رقمية “دجيتال” إلا أن المخرج لم يصر على هذا الطريق، بل سرعان ما اندمج بصناعة أفلام شديدة التجارية كفيلمي “نقطة رجوع” 2007 و”مفيش فايدة” 2008، وتناسى تماما التجربة الأولى.

في عام 2004 صور المخرج محمد خان فيلم “كليفتي” بكاميرا “دجيتال” وبميزانية قليلة مصدرها المخرج ذاته، وتم عرضه على شاشة التلفزيون وليس في صالات السينما، وتضمن الفيلم مشاهد حقيقة وأخرى روائية حول يوميات شاب ينام بين المقاهي ليحصّل لقمة عيشه بالفهلوة والنصب، ويركز الفيلم على شخصية البطل الواحد “باسم سمرة” الذي يقود الفيلم إلى تتابع الأحداث وليس العكس، وهو ما ستتأثر به أفلام مستقلة لاحقة.

أما المخرج أحمد خالد صنع الفيلم الروائي القصير المستقل “الجنيه الخامس”عام2005، وقد استطاع في 14 دقيقة أن يناقش موضوع الكبت الجنسي لدى الشباب في مصر ويصنع ضجة لشهور طويلة، إلا أنه لم يستغل لحظة النجاح هذه في خوض طريق الأفلام المستقلة التي تحمل المغاير عن السائد في لحظته الخاصة من الحرية، بل انخرط في إخراج المسلسلات الدرامية للفضائيات العربية، ما يجعلك تشعر أن هناك من المخرجين من يصنع في بداية حياته المهنية الأفلام المستقلة لتكون بمثابة تصريح مغاير وقوي للدخول إلى عالم السينما التجاري والنمطي.

أحمد عبدالله السيد مخرج فيلم "فرش وغطا".

بداية بطوط

  إلى أن جاء المخرج إبراهيم بطوط وكسر السائد في السينما المصرية وأصر على صناعة أفلام مصورة بكاميرات “الديجتال”، وبميزانية فقيرة، ودون ممثلين نجوم.

 وكان أول أفلامه فيلم “ايثاكي” 2005 بميزانية فردية بسيطة، وساعده في إخراج الفيلم تامر السعيد، غير مبالٍ بسعي العمل السينمائي المتاح في السوق إلى الربح والتصوير في الاستوديوهات الكبيرة، أو استعراض الحبكات الرومانسية المبالغ فيها، والكوميديا الصارخة والنهايات السينمائية المعلبة، فهو لم يكن يفكر في كل هذا، بل حتى أنه لم يهتم بتقديم إجابات عن أي شيء.

 كل ما أراده أن يجرب ذاته وكاميرته بعيداً عن تصوير حروب العالم حيث قضى 18 عاماً من حياته يعمل مصوراً في المحطات الإخبارية الدولية، فقد أراد أن يرى كيف هضم العالم وويلاته إذا ما اتجهت كاميرته إلى أن تحكي القصص في الفيلم الروائي، وأن يؤرخ ذاكرته دون نرجسية المُخرج الراوي، أو تطويل الفيلم الوثائقي، بل وضع المتلقي أمام الواقع بسوداويته.

 لم يهتم أحد وقتها بـ”ايثاكي”، ولم يعبأ بطوط بعدم التأثير هذا، بل قام بعد سنوات قليلة بمحاولة تجريب أخرى في فيلم “عين شمس” عام 2009 مصرا على الميزانية المنخفضة، ومع تامر السعيد أيضا ولكن هذه المرة كمؤلف، كما عمل معه في المونتاج أيضا أحمد عبدالله السيد، وظهر تأثر بطوط أكبر بأرشيف عمله المسبق في التغطية الإخبارية، وقدم فيلما يمزج التسجيلي بالروائي، وكسر الإيهام عند المُشاهد عبر ربط الشخصيات الوثائقية الحقيقية بالشخصيات الروائية في صور ومقابلات أرشيفية لاحتلال الجيش الأمريكي لبغداد، وبداية قنابل اليورانيوم المخصب.

 وكما الفيلم الذي سبقه؛ لا توجد شخصية جوهرية بل يتشظى السرد بين عدة شخصيات قد يربط بينها شيء يتضح خلال الأحداث أو يبقى باهتاً، إلا أنها في النهاية شخصيات تبقى متروكة للحياة وتخمينات المُتلقي.

ويعتبر «عين شمس» أول فيلم روائي مستقل مصور عبر “الديجيتال” يعرض في قاعات السينما، وحقق نجاحاً جعله نقطة انطلاق قوية في السينما الرقمية المستقلة، فلم تمر أشهر على عرض فيلم “عين شمس” حتى تم الانتهاء من فيلم “هليوبوليس”2009  للمخرج أحمد عبدالله السيد الذي يستعرض مجموعة من الحكايات تجمع خيوطها شخصيات تعيش في “مصر الجديدة”، وتركض خلال ليلة وصباح وهو زمن الفيلم لتحقيق منشودها الذي تكسره منظومة الحياة في القاهرة بخيباتها وازدحامها.

 ودون قلق من خلل السرد قدم الفيلم جانب معلوماتي تاريخي عن المنطقة لكن ليس انطلاقا من شخصيات حقيقية بل روائية ومنها شخصية الباحث “خالد ابو النجا” الذي يوثق المكان من شاشة “الدجيتال”، فيتمثل التغيير على المنطقة والناس خلال الفيلم من عدستين، وبذلك يعرض المخرج ثيمة التكنولوجيا وبداية سطوتها على المجتمع.

اليوم نجد أن هذه الأفلام كانت نوع من تمرد ناعم على تردي الأوضاع الاجتماعية قبل ثورة 25يناير2011، وقت فقدان الأمل بإحداث أي تغيير في النظام الرأسمالي بكل دكتاتوريته، وأيضاً استجابة لتطور عنصر التكنولوجيا، والتعبير البصري الذي يجعلك تصنع أفلاماً عن كل شيء وفي سرعة قياسية.

الآن بعد مرور حوالي عقد من الزمان على فيلمي “عين شمس” لبطوط و”كليفتي” لخان، يتضح أنهما كانا البداية الأقوى لتيار جديد من الأفلام المستقلة التي يبنيها المخرج برؤيته فقط.

 وهذا لا يعني بالضرورة أن المشهد السينمائي المصري لم يقدم أفلاماً جيدة تطرح تساؤلات مهمة، بل فعل لكنها كانت قليلة ونادرة أمام هيمنة إسفاف الأفلام التجارية بغرض الترفيه وجذب الجمهور إلى شباك التذاكر.

كابوسية المستقل

وسيقوى لاحقاً اتجاه الأفلام المستقلة، ليعيد المشهد السينمائي المصري إلى الحضور العالمي من جديد، وسيأخذ كل شيء حيزه في أفلام هذا الاتجاه سواء؛ الزمان، أو المكان أو التاريخ أو الموسيقى، فنجد اللقطات ممتدة إلى ما قد تصل إليه من الملل أو اللاحوار كما في فيلم “الخروج للنهار”2012 للمخرجة هالة لطفي، والذي بدأت تصويره قبل ثورة يناير بسنوات لكن تم عرضه بعدها.

ويحكي حكاية تفيض بالكآبة عن فتاة تعيش مع والدتها ووالدها المريض وتعتني به في مشاهد من العتمة والفقر، وتقضي هذه الفتاة يومها في كثير من الحيرة وما يشبه البحث عن هدف آخر غير الاعتناء بوالدها، والفيلم رمزي وجاء كمعادل موضوعي لحيرة الشخصية المصرية والتيه الذي عاشته حتى خرجت للنهار الذي تمثله الثورة.

ومثلت الثورة دافعاً مهماً لبروز هذا الاتجاه الجديد في السينما المصرية، فلم يكن المشهد السينمائي الاعتيادي ليملك القوة والجرأة ليعبر عما حدث من تغيير سياسي كبير في مصر بكل محظوراته وأولها انتقاد أجهزة أمن الدولة، لكن هذه المحظورات كانت بمثابة فاتحاً كبيراً للشهية السينمائية لدى الأفلام المستقلة.

وتوالت الأفلام؛ بداية بفيلم “18يوم” 2011 وقد صنعه عشرة مخرجين في عشرة أفلام قصيرة أغلبها كان نافذا وقويا، ولكن لا يمكن وصفها جميعها أنها تنتمي إلى الفيلم المستقل، وبعدها جاء فيلميّ “الشتا الي فات” لبطوط، و”فرش وغطا” لأحمد عبدالله السيد في العام ذاته 2013، ومن ثم فيلم “اشتباك” لمحمد دياب 2016، وقبله كان فيلم “باب الوداع” 2014 للمخرج كريم حنفي، وهو فيلم بديع بلغة بصرية شِعرية غلبت كثيرا على الحبكة والحوار، فقد اهتم بالصورة السينمائية عبر لوحات منفصلة في مزيد من خوض التجريب.

وكانت السمات المشتركة بين هذه الأفلام ليس فقط كآبة شخصياتها، وعكس الواقع بكامل كابوسيته، ولغتها السينمائية المغايرة، وجماليات من الصعب قياس نمطيتها كاختفاء الحوار أو ندرته، ووحدة الزمان والمكان، بل هناك أيضاً انخفاض الميزانية، وكسر للصورة النمطية التي تقدمها السينما الاعتيادية عن الفئات المهمشة والحارات الشعبية، كذلك جرأتها في التطرق إلى الدين والجنس والسياسة، ووجود شخصيات حقيقية في هذه الأفلام من واقع المكان، وغالبا ما تصاحبها أخرى روائية كما فيلم “فرش وغطا”.

هذا الاتجاه لا يطرح الحكاية كعنصر جذب بمقدار اهتمامه بكيف يحكيها، وإلى أي مدى للمتلقي أن يشارك بها عبر طرح الأسئلة على نفسه ��وال الوقت، فهي غير متوقعة ليس لأن هناك مفاجأة بالنهاية، فهي غالباً سينما اللامفاجآت، بل لأنك لن تعرف أين يأخذك المخرج بسرده السينمائي المفتوح على كل الاحتمالات ما يجعله أشبه بمختبر يشارك فيه المتلقي وبذلك يكون تحت التأثير البريختي في كسر متواصل للإيهام!.

لقطة من فيلم اشتباك من إخراج محمد دياب والذي تدور أحداثه داخل عربة ترحيلات تابعة للشرطة مكتظة بالمتظاهرين من المؤيدين والمعارضين لحكم جماعة الإخوان المسلمين .

سينما ليست كالسينما

وإذا عدنا إلى بدايات بطوط نجد أن انطلاقته تأثرت بالتطور التكنولوجي إلى جانب تطور آلة القتل والحرب، وهذان المنطلقان؛ الموت والتكنولوجيا ألقيا ظلالهما على أفلام بطوط لكن بمسحة تفاؤل، وإصرار على ملاحقة حكايات الشخصيات حتى بعد أن ينتهي الفيلم، في محاولة منه لزرعها في الواقع علّها كانت أو ستكون حقيقية، فمنذ أول أفلامه حتى آخرها، تلاحق العبارات كل شخصية بعد “تتر” النهاية لتخبرنا عن مصيرها، وكلها مجموعة من الشخصيات تعيش حيرتها في نظام عالمي ومجتمعي يهرسها نفسيا وجسديا، وبعد الثورة أصبحت شخصيات أفلامه تعيش في نظام أمني مستبد يهرسها أيضاً نفسياً وجسدياً.

وتتركك شخصيات أفلام هذا التيار الكئيبة والكافكية، بإحساس عارم من الفضول عن مصيرها المأساوي، وسؤال السعادة الذي لا يعرف طريقاً إليها، وربما هذا ما اعتادت السينما العادية زرعه في خيالنا السينمائي أن هناك طاقة أمل ما قادمة، وسعادة آتية، لكن هذه الأفلام تقوم بتغيير ذاكرتك السينمائية التقليدية وتستبدلها بأخرى تشبهك وتشبه واقعك إلى درجة تختنق وأنت تشاهد هذه الأفلام، وقد يعلق في ذهنك بعضا من هذه الشخصيات إلى الأبد؛ فذاك الذي مات فوق المقطورة برصاصة غادرة في فيلم “فرش وغطا”، لماذا تركه الجميع؟، وماذا حدث له؟، وهل مات الوالد المريض في فيلم “الخروج للنهار”؟، وهل انتهت العتمة؟.

كما أن هذه الأفلام تعيد إنتاج الصورة “البانورامية” عن مصر، بعرضها لقطات وصور بديعة للقاهرة تجعلك ترى المدينة بشكل مغاير عما زكم به أنفك طوال عقود من تكرار الكوادر والمشاهد ذاتها للأمكنة.

إنها سينما تريد أن تكسر المألوف عن عمد، لها توجهها ولغتها، فلا تستطيع القول أن الكاميرا كان يجب أن تكون هكذا أو أن اللقطات طويلة يجب تقصيرها، أو أن هذه المطاردة لا تنتهي، أو أن “الشوت ريكآشن” لا يتم تصوريه بهذه الطريقة، فهذه سينما جديدة يجب أن تتلقاها بشكل مختلف، كأن تستوعب أن كل لقطة تمثل زمن اللحظة في الحقيقة، وأن المُشاهد يصنع الفيلم أيضاً ذهنيا بأسئلته ومحاولة فهمه.

وقد تسخر أيضاً من طريقة تحقيق الضُباط مع المتظاهرين في فيلم “الشتا اللي فات” لبطوط بأن هذا لا يحدث بالواقع حيث يجلس كل ضابط على طاولة مع متهم خلف بعضهم كأنهم في فصل دراسي، وهو المنحى الروائي الفنتازي الخالص الذي انتهت إليه أفلام بطوط الأخيرة بحثا عن لغة سينمائية قد يجد معها الرضا الإبداعي.

كذلك لا تنتظر أن تجد الشخصية التي يمثلها آسر ياسين في “فرش وغطا” ما تبحث عنه، وهو فيلم بديع، بموسيقى خلابة. ويشكل البطلان في الفيلمين السابقين كينونة العمل ويتحكمان بتتابع الأحداث بحسب حركتهما وهو ما فعله خان في فيلم “كليفتي”.

 كما لا يمكن إنكار أن كل من آسر ياسين وعمرو واكد وأحمد مجدي وحنان يوسف وفرح يوسف وسلوى محمد علي وخالد أبو النجا وباسم سمرة، من الممثلين الذين خاطروا لتكرار تجربة هذه الأفلام دون البحث عن السوق وشباك التذاكر بل عن إيمان بأهمية هذا الاتجاه الجديد في السينما، على عكس البقية من الممثلين الذين انتظروا حتى يبرز هذا الاتجاه ثم شاركوا بأمل أن ينقلهم إلى مهرجانات عالمية، كالممثلة نيلي كريم، والممثل أحمد حلمي.

المُخرج أولاً

 

 

 وهنا نحن لسنا أمام ما يريده السوق أو شركات الإنتاج، وليس ما ينتظره المُشاهد بالضرورة، بل ما يريده المخرج وأحيانا المؤلف إذا لم يكن هو ذاته المخرج، ويفضل النُقاد تصنيفها تصنيفاً مريحاً بأنها أفلام مستقلة لأنها مبتعدة عن شركات الإنتاج المصرية والعربية الكبيرة، واعتمادها على تمويل ذاتي أو أجنبي، إلا أن مصطلح “مستقلة”، يضع هذه الأفلام في خانة محددة ويعزلها، وهو عكس ما يمثله هذا الاتجاه السينمائي فهو مندمج أكثر بالمجتمع كما لم تفعل السينما من قبل، وأفلامه ملتحمة مع الطبقات الشعبية، وأكثر جرأة في طرح أزماتها، كما تفرد أمامنا بؤس هذه الشخصيات وحزنها وانكسارها أمام الفقر والفساد دون أن تأخذ موقفا أخلاقيا صارخاً من أحد.

وعلى الرغم من أن البعض يذهب بعيداً فيما يقدمه ويعتقده في جماليات هذه الأفلام كما حدث في فيلم “اشتباك” للمخرج محمد دياب، فقد كان أداء الممثلين في البداية مسرحيا إلى أبعد حد، وكأنهم يقفون على خشبة مسرح وليس في عربة ترحيلات للموقوفين، وقدم حبكة معلبة قديمة لمكان يتواجد به أفراد من عدة تيارات سياسية تعبر عن نفسها وتناقضاتها، لكنه سرعان ما يسيطر على أداء الممثلين نحو مزيد من تمثل للواقع، وفي انزياح نحو التحكم بالمُشاهد؛ فحيناً يكره جميع التيارات، وطوراً يحبهم كلهم، وهذا من الصعب أن يفعله فيلم من المشهد السينمائي المصري الاعتيادي لأنه محكوم إلى المال المسيس، وهنا تكمن لحظة الحرية في أن يصنع المخرج فيلماً يشبهه وحده مستقلا عن محيطه في الفكر واللغة السينمائية، ولكن هذا لا يعني أن دياب لم يذعن قليلا مقابل عرض الفيلم في مصر، حين سكت عن وضع الرقابة لعبارة بداية الفيلم “أحداث الفيلم تدور عقب عزل محمد مرسي من رئاسة الجمهورية في مصر، عندما نزلت جماهير الإخوان المسلمين لإيقاف التحوّل (السلمي)  للسلطة”.

وإذا عدنا إلى ثيمة الاستعراض؛ نجده جليا في أول فيلم قصير “احتباس” تأليف وإخراج شريف عرفة من فيلم “18 يوم”، والذي قدم أيضا شخصيات من تيارات مختلفة في مستشفى الأمراض النفسية، ولم يكن ينقص هذه الفانتازيا غير العفوية و جمهور أمامها يصفق لممثليها، لذلك كان هذا الفيلم القصير أقرب إلى  المكرر والمعتاد خارج لحظة الحرية والإبداع.

في حين أننا نجد داخل فيلم “18 يوم” فيلماً آخر يستحق التوقف وهو “تحرير 2-2” للمخرجة مريم أبو عوف، يقدم سينما واقعية عنيفة في الألفاظ وتفاصيل الفقر لحياة بلطجي يخرج مقابل المال لقتل المتظاهرين في مظاهرات 25يناير، وتطرح المخرجة حكايته في الفيلم كانسان، وهي لحظة الحرية لمخرجة اختارت فكرة مغايرة وجديدة دون تكرار أو أن تخاف من ردة فعل الجماهير واتهامها بأنها تتعاطف مع بلطجي، وبذلك قدمت رؤيتها بحرية وبانتماء كامل لاستقلالية الفيلم حتى عن الحدث السياسي وساعدها في ذلك الأداء المبدع لهند صبري وآسر ياسين.

ونحت أفلام هذا الاتجاه الذي يحمل مفهوم استقلاله تمايز إنتاجي وآخر سينمائي، منحاً أكثرا استقراراً، وقوة في فترة ما بعد الثورة، وأصبح مسارها الروائي أكثر سلاسة، كما لم تعد مقتصرة على متلقي بعينه بل لها جماهيرية، وهذا ما شاهدناه جميعاً في فيلم ” علي معزة وإبراهيم”2016 قصة لإبراهيم البطوط، وإخراج شريف البنداري، إلا أن ميل الأخير لإرضاء السوق تجاريا في طريقة طرحه، وتكرار اللغة السينمائية السائدة ذاتها لم يجعله كامل الانتماء لهذا الاتجاه، وكذلك كان فيلمه السابق “حار جاف صيفا”2015 الذي أبدع فيه الممثل محمد فريد.

لعبة الفضيلة

وقد اعتاد مخرجو هذه أفلام المستقلة الاستعانة بالممثلين الهواة غير المحترفين أو من نجوم المسرح غير المعروفين، لكننا الآن نجد نجوماً يتوجهون إليهم، فيبدو أنهم عرفوا بأنها الطريقة الوحيدة لتقديم سينما عالمية بلغة إنسانية مشتركة، دون إسفاف والأهم دون استنساخ قصص الأفلام الأجنبية.

إنه التوجه الجديد الذي يقدم مصر كما يليق بحكاية الإنسان فيها، وبأصالة الإبداع والقص، وفي نفس الوقت يبتعد عن مصطلحات تم تطبيقها سينمائيا كي يقبلها السوق، والمُشاهد المحافظ، كـ”السينما النظيفة”، وهو نوع من الرشوة قدمته شركات الإنتاج كي يرضى عنها الجميع، وتدخل منازل المشاهدين بغض النظر عن جدوى مضمونها.

لذلك حدثت ضجة مفتعلة حول الشتائم التي استخدمت في بعض الأفلام القصيرة داخل الفيلم  الروائي “18 يوم”، كفيلم ” 19_19″ لمروان حامد، وهي ضجة في غاية التضليل، فكيف نطلب من السينما وضع “فلاتر” إذا كانت الحياة التي يخرج إليها المتلقي كل يوم ليست كذلك؟!.

 وتراجع الممثل أحمد حلمي الذي كان وزوجته الممثلة منى زكي من أبطال “السينما النظيفة”، عن دعوة جمهوره لمشاهدة فيلم “18يوم” الذي يمثل فيه، وحذف رابط الفيلم من على صفحته في “انستجرام” بحجة متابعيه من الأطفال، وذلك على الرغم من أن الفيلم كان يُعرض للمرة الأولى في يوليو من العام الجاري “أون لاين” أي بعد ست سنوات من منع عرضه وحرمان الجماهير المصرية والعربية منه.

 وهذا يشي بأن نجوم شباك السينما العربية غالباً ما يخافون من تحمل تبعات مشاركتهم في أفلام هذا الاتجاه، ويفضلون السينما والبرامج المُسلية ذات الدعم الخليجي وشركات الإنتاج المصرية الكبيرة، التي تشاهدها الرقابة قبل أن يشاهدها الممثل نفسه، وبذلك يحصل على جماهير مضمونة.

يتناول فيلم 18 يوم عدة قصص تدور حول ثورة 25يناير والذي تم عرضه في مهرجان كان2011.

أفلام الإنسان الجديد

إن تيار “أفلام المخرج” في السينما المصرية، تماهت مع إنسان ما بعد الثورة الجديد وبعبارة أخرى “تغيير الوعي”، ليصبح لهذه الأفلام شعبيتها وأرباحها، فلن يعود الزمن أبداً إلى الوراء، إلى زمن إحباط المخرج سيد عيسى بسبب عزلة أفلامه المستقلة، وفي نفس الوقت لن تكون لها ذات الشعبية التي تكتسبها أفلام المواسم الكوميدية والرومانسية، لكن حاضرها قوي ومن الممكن أن تسود المستقبل.

وهذه الرؤية يحقق جزء كبير منها فيلم “آخر أيام المدينة” للمخرج تامر السعيد، والذي حقق جماهيرية واسعة على مستوى العالم وحصل على عشرات الجوائز في المهرجانات الدولية.

 واستمر السعيد في تصويره عقد من الزمان، وكان عبارة عن ساعات مديدة من التصوير الوثائقي في مختلف المراحل السياسية المعاصرة التي مرت على القاهرة، لكن السعيد غامر ليختصرها ويعرض حكاية المكان وتأثره بالتغيير السياسي، وكانت النتيجة فيلماً ترك خلفه أينما عُرض عاصفة من الحب والجمال والجوائز.

 وكان السعيد يصور فيلمه هذا منذ أن كان يعمل كمؤلف مع بطوط على فيلم “عين شمس”، واعياً للتجربة بكاملها التي يخوضها صانعو هذه أفلام، وبالتوازي يعيش تغييراً في الوعي السياسي، ليخرج لنا بأيقونة “آخر أيام المدينة” متحدياً القاهرة؛ من الذي سيخضع للآخر؟ رؤيته للمدينة أم المدينة لرؤيته؟.

 وقد خرج بعيدا عن جدران الاستوديوهات الفلينية إلى العالم الحقيقي، فوضع لنا الوثائقي بين جنبات الروائي في رؤية تجريبية ولغة سينمائية جمالية تؤكد أن المخرج صاحب براءة الاختراع الأولى قبل المؤلف وشركة الإنتاج والممثل والمصور والجمهور.

أحيانا هناك أساطير تتحقق ذاتيا لأننا نصدقها فقط، كحكاية أن السينما المصرية الموجودة هي السينما المصرية الوحيدة، والتي دجنت ذاكرتنا السينمائية وخيالنا السينمائي وذوقنا أيضاً فاعتدنا على طرق تصوير وإخراج ومونتاج معينة، لم نعد نأخذ معها بجدية كل سينما مقدمة بعين جديدة، وروي مغاير للحكاية.

” آخر أيام المدينة” يمثل منحى رئيسي في هذا الروي المغاير، ففيه من هيكلية فيلم “عين الشمس” بين الوثائقي والروائي، كما يستعرض تيه وحيرة شخصيات “الخروج للنهار”، وجمال لوحات التصوير في فيلم “باب الوداع”، وحكاية العمارة التي تذوي من فيلم “هليوبوليس”، وفيه صمت “فرش وغطا”، وحيادية “اشتباك”، وتفكك “18يوم”.

 إنه كل ذلك، خلاصة تجربة سينمائية حديثة ردت السينما إلى المخرج والذي يرد بدوره إلى المدينة وشخوصها المشهدية السينمائية المستحقة، فتُرد هي الأخرى إلى اللحظة حريتها الأولى الأصيلة التي اجترحها المخرج محمد بيومي قبل تسعين عاما!.