صفقات شيطانية.. سينمائية!

ياسر ثابت

مثل صراعٍ مع قوة خفيّة، تجد في صدورنا ساحة ومساحة للاقتتال، تأتي الأفلام التي تتحدث عن الشيطان ومحاولاته للهيمنة على الإنسان وإغوائه أو شيطنته بشكلٍ أو بآخر.

شهدت السينما المصرية عشرات الأفلام التي تتصل موضوعاتها بكينونة الشيطان، مع تجسيد حالة الصراع بين الخير والشر، بوصف الشيطان رمز الشر في منظومة الخليقة.

أغلب الأفلام التي تقدم كينونة الشيطان بالتشخيص المرئي أو المباشر، هي أفلام تدور في فلك أسطورة فاوست، التي تُركز في مضمونها ذي الطابع الدرامي على فكرة التعاقد بين الشيطان وواحد أو أكثر من البشر، بحيث يحق الشيطان للطرف البشري أمنيات ومتعـًا معينة، مقابل ضمان الشيطان أن يكون مصير روح هذا الإنسان أو هؤلاء البشر التعاقد هو الجحيم أو جهنم.

يعتبر يوسف وهبي أول من قدم شخصية الشيطان في تاريخ السينما المصرية، في دور من تأليفه وإخراجه بفيلم “سفير جهنم” لعام 1945، حيث أدى دور شيطان يظهر لأسرة فقيرة تتألف من أب وأم وابن وابنة، ويُفرق بين أفرادها بمنحهم الكثير من الأموال والشباب ليثبت مدى سيطرته على البشر، فيستسلمون له، ويُنسيهم طريق الله، وتحدث لهم مشكلات جمة، رغم ظنهم أن المال سيعوضهم عن الحرمان الذين عاشوا فيه، ليكتشفوا أن الشيطان وضع المال في طريقهم ليسحبهم إلى طريق الضلال.

 

 

في قصة مقتبسة عن مسرحية “فاوست”، من تأليف جليل البنداري وإخراج كامل التلمساني، عام 1955، قدم محمود المليجي شخصية الشيطان بشكل مباشر في فيلم “موعد مع إبليس” (1955). يلعب الشيطان هنا دور مُحرّك حياة طبيب مغمور (زكي رستم) يعاني سوء الأحوال المادية. يجد الشيطان في الطبيب صيدًا سهلًا فيظهر له من خلال شخصية “نبيل” ويُبرم معه اتفاقـًا يمنحه بموجبه قدرة خاصة على معالجة أي مريض بشرط موافقته المسبقة. هكذا يروح الطبيب يعالج المرضى ويذيع صيته ويحقق ثروة كبيرة إلى أن يصيب مرضُ نادر ابنه. عندها، يلجأ الطبيب إلى “نبيل” ليأخذ موافقته على معالجة ابنه، لكن الأخير يرفض طلبه فيدرك خطورة الشرك الذي وقع فيه ويثور على الشيطان.

 

 

في فيلم من تأليف توفيق الحكيم، وإخراج يحيى العلمي عام 1973، جسَّد عادل أدهم في فيلم “المرأة التي غلبت الشيطان”، شخصية “أدهم” حفيد إبليس الذي تتفق معه الخادمة الدميمة الحدباء “شفيقة”، على أن تعطيه روحها مقابل تحقيقه أمنياتها، ومنها جمال الوجه وفتنة الجسد. هكذا تتحول “شفيقة” إلى راقصة فاتنة تُدعى “أميرة” وتُحقّق ما كان ينقصها، ولكن في تطور درامي مفاجئ تستجيب لموعظة بستاني قصرها المنيف بشأن السيطرة على النفس وأهمية العودة إلى الله، فتتولّد لديها أمنية جديدة، هي التغلّب على الشيطان وإكمال باقي حياتها تحت مظلة الخير.

عرضت هذه الأفلام شخصية الشيطان بشكل مباشر. ويبدو جليـًا تأثرها بمسرحية “فاوست” للألماني غوته، وفيها يبيع فاوست روحه للشيطان مقابل أن يتعلم السحر ويستطيع الإتيان بأعمال خارقة، إلى أن يأتي وقت يدرك فيه المأزق الذي أوقع نفسه فيه ويحاول التخلّص منه.

عادة ما يحضر الشيطان من خلال الشرّ المجسّد في شخصية بشرية عادية. وعلى المشاهد أن يلاحظ أفعالها الشريرة ليدرك أنها تمثل “الشيطان”. هذا هو الحال في فيلم “الريس عمر حرب” (إخراج خالد يوسف، 2008). فبطل الفيلم، عمر حرب، يملك صالة لألعاب الميسر وباستطاعته التحكّم في عجلة الروليت لمصلحة الفندق. يمارس عمر حرب الشر من أجل السيطرة على خالد، الشاب الذي دخل عالم القمار مأخوذًا بشخصيته، وحاول أن يكون مثله، وينجح في ذلك. يمكن للمشاهد أن يدرك من أفعال عمر حرب ومن بعض الإشارات الإخراجية، أن الرجل لا يمثل شخصـًا عاديـًا، بل يجسّد الشيطان الذي يسيطر على ذلك العالم ويتلاعب بالمقامرين.

 

 

في فيلم “اختفاء جعفر المصري” (إخراج عادل الأعصر، 2002) المقتبس عن رواية “مركب بلا صياد” (تأليف أليخاندرو كاسونا)، جسَّد حسين فهمي دور الشيطان الذي يتنكر في هيئة إنسان ويظهر لرجل الأعمال “داود” الذي يطلب منه أن يتخلص من منافسه اللدود “جعفر”، ويوافق في البداية، ولكنه يتراجع فيما بعد، فيقتله الشيطان، وبعد فترة قصيرة، يفقد جعفر كل أمواله، ليذهب إليه الشيطان ويعرض عليه أن يعيد إليه كل ما فقده من أمواله مقابل موافقته على قتل أحد الصيادين، ويوافق جعفر على ذلك وبالفعل يقتله، ويحاول الشيطان إغواءه مرة أخرى، ولكنه يتغلب عليه.

وبينما يقدم فيلم “عزازيل” (إخراج أمير شاكر، 2011) محاولات الشيطان إغواء الإنسان بشتى الطرق والوسائل حتى يوقعه في حبائله، يتحدث “عزازيل ابن الشيطان” (إخراج رضا الأحمدي، 2014) عن تعويذة سحرية شريرة تساهم في تحضير الشيطان (عزازيل ابن إبليس) كي يؤذي فتاة بريئة (روان فؤاد). ويطلب (عزازيل) قربانـًا له من المرأة التي حضرت التعويذة، ويتم قبول القربان، ويتم السحر. يتلبس (عزازيل) الفتاة، ويجعلها تقوم بتصرفات مرعبة ومجنونة، إلا أن حبيب الطفولة (أيمن إسماعيل) الذي يتمتع بالصدفة بقدرات في كشف المس، يعرف بالخبر، ليتحد الحبيبان من أجل إنزال الهزيمة بالشيطان (عزازيل).

يُعد فيلم “إبليس في المدينة” (إخراج سمير سيف، 1978) باكورة إنتاج السينما المصرية في اتجاهها نحو تقديم نوع من “الصفقات الشيطانية” أو “التعاقدات الفاوستية” بطريقة غير مباشرة، يتم فيها التخلي عن فكرة تجسد الشيطان والجهر بالتعاقد البشري معه.

 

 

في هذا الفيلم يعمد “منصور” ذو الملامح المريبة والحديث اللزج، إلى دفع الشاب “شريف”، القادم من الريف للبحث عن عمل في القاهرة، والحالم بالشهرة عن طريق احتراف التمثيل السينمائي، إلى الجريمة كوسيلة لجني المال بأسرع الوسائل وأقصر الطرق الممكنة. ويهيء له فكرة الزواج من ابنة ثري، ويخطط لقتله للاستيلاء على ثروته، لكي يتقاسمها كلٌ من “شريف” و”منصور”. ويتعهد الأخير بأن يخطط للشاب جيدًا ليضمن “شريف” زواجه من ابنة هذا الثري، إلا أن الشاب يتراجع عن إتمام هذه الصفقة. تقع مفاجأة حين يلقى الثري مصرعه بالفعل، على الرغم من تراجع “شريف” عن فكرة قتله، لذلك نجده يبادر إلى إبلاغ الشرطة عن المحرض “منصور”.

الشيطان هنا عصري، يتخلى عن الاقتحام السافر لحياة الإنسان، فيتسلل بطريقة أكثر خبثـًا واحتيالًا، بدون الحاجة إلى عقد صفقة مباشرة مع الإنسان الذي يتخذ الشيطان منه هدفـًا مباشرًا.

ظهرت أفلام كثيرة تضمّنت عناوينها اسم الشيطان، لكن أحداثها خلت من شخصية الشيطان تمامـًا. تستخدم هذه الأفلام تسمية الشيطان للدلالة على أفعال الشر التي يقوم بها أبطال الفيلم، من دون أن يكون للشيطان أيّة علاقة مباشرة بها. هذا هو الحال مع فيلم “ولد وبنت الشيطان” (إخراج حسن يوسف، 1971) الذي يروي قصّة شاب تائه يحلم بالسفر للتحرر من القيود التي يفرضها عليه وطنه، وفيلم “الشيطان امرأة” (إخراج نيازي مصطفى، 1972) الذي يقع فيه “أمين”، حارس الأمن في أحد المصانع، في حُبّ فتاة يتضّح له لاحقـًا أنها عضو في عصابة، وأنها كانت طُعمـًا للإيقاع به فيقتلها.

وفي فيلم “ابن الشيطان”، تلعب دور البطولة شخصية مقنعة تقتل الرجال الذين يتزوجون على زوجاتهنّ في يوم زفافهنّ. ورغم كون “ابن الشيطان” قاتلًا متسلسلًا، فإن شيطانية تصرفاته موضع سجال لكونه يمارس فعلًا انتقاميـًا لكل النساء اللواتي يعانين من خيانة أزواجهنّ، هو الذي يتحوّل إلى الإجرام بسبب معاناته من قسوة زوجة أبيه واتهامها إيّاه بالسرقة، ما أدخله السجن.

 

 

إضافة إلى هذه الأفلام، هناك أفلامٌ أخرى ظهر اسم الشيطان في عنوانها مثل “ملاك وشيطان” (إخراج كمال الشيخ، 1960) و”إبليس في المدينة” (إخراج سمير سيف، 1987) و”الشيطان يقدم حلًا” (إخراج محمد عبدالعزيز، 1991) و”الشيطان والخريف” (إخراج أنور الشناوي، 1972) و”الأرملة والشيطان” (إخراج هنري بركات، 1984) و”خطة الشيطان” (إخراج يس إسماعيل يس، 1988) و”الراقصة والشيطان” (إخراج محمود حنفي، 1992) و”طريق الشيطان” (إخراج كمال عطية، 1963).

لا يقتصر حضور المخلوقات الماورائية على الشياطين في السينما المصرية، فللجنّ وعوالمه حصّة مهمة من صناعة الأفلام. في فيلم “التعويذة” (إخراج محمد شبل، 1987)، نرى تدخّل الجنّ في حياة أسرة عادية وسعيه إلى إخافة أفرادها عبر حرق منزلهم وأذيتهم، وقلبه حياتهم رأسـًا على عقب. وفي النهاية، يتضح أن أحد الأشخاص استعان بالشيطان لإيذاء تلك الأسرة لرفضها بيع البيت له.

أما في فيلم “الإنس والجن” (إخراج محمد راضي، 1985)، فيظهر الجنّي “جلال” على “فاطمة” فيعشقها ويحاول استمالة قلبها بطرائق عدة. وحين تدرك فاطمة أنها أمام شخصية غير عادية تبدأ في محاربته وتحاول الابتعاد عنه، لكن جلال يؤذيها لإثارة خوفها. ويظل الصراع قائمـًا بينهما إلى أن تتغلب فاطمة عليه.

من خلال هذه الافلام يتّضح الفرق بين تصوّريْ شخصيتيْ الجنّي الشيطان. فالأول يدخل حياة الانسان رغمـًا عنه ويعبث بها ممارسـًا أفعاله الشريرة عليه. أما الشيطان فيتعامل مع الانسان بالغواية ولا يتدخل في حياته إلا بموافقته.

وفي بعض الأفلام، يظهر الجنّي كشخص مبهج ليس شريرًا كما في فيلم “الفانوس السحري” (إخراج فطين عبدالوهاب،1960). ففي هذا الفيلم، يخرج الجنّي الطيّب من “الفانوس السحري” على شخص فقير وقع الفانوس في يده، فيقدم له مكافأة على تحريره من محبسه الذي حُبِس فيه -كما يقول- منذ عهد النبي سليمان. والمكافأة تكون في أن يحقق الجني 7 أمنيات له.

تتكرّر شخصية الجنّي المبهجة في فيلم “طير انت” (إخراج أحمد الجندي، 2009)، ولكنها تظهر في هيئة جنيّ فاشل يحاول أن يحقق أحلام “بهيج”، غير أنه يفشل في كل محاولاته، لتتعاقب الأحداث بشكل كوميدي. في النهاية يكتشف “بهيج” أن شخصيته الحقيقية هي الوحيدة التي تشبه شخصية ليلى فيتزوجها.

وكم في السينما من جنٍ وشياطين!