صورة جماعية لـ “سرطان البحر” وحيداً

طارق خميس

تقول الحكاية بأنّ أحد تلامذة سقراط كان يجلس وهو شارد الذهن، في أمر قد أهمّه، فلما سأله سقراط عن الأمر: أجاب التلميذ بأنه مُقبل على اتخاذ قرار الزواج من إحدى الفتيات؛ لكن قرار الالتزام ليس بتلك السهولة. فأجابه سقراط: يا بني، تزوج .. في الحالتين سوف تندم.

على هذه النقطة تحديدًا يقف فلم “لوبستر”  Lobster للمخرج اليوناني يورغس لانتيموس، حيث أنّ خيار الزواج أو البقاء وحيداً يحمل ذات القدر من الندم. وبالمجمل فإنّ الناس تُفضّل أن تندم على قرار أخذته من أن تندم على قرار لم تأخذه.

لكن عبقرية الفيلم هنا تكمن في أنّه قام بمطّ الخيارين لآخرهما ليبدوا بمنتهى الفجاجة، خالقاً مجتمعين لا ثالث لهما: الأول هو مجتمع المدينة، الذي لا يسمح لتواجد الناس إلا على شكل أزواج، وفي حال الطلاق أو وفاة أحد الزوجين يجري ترحيل “الوحيد” إلى الفندق لإعادة تأهيله وفق شروط صارمة تحظر ما هو خارج الأسرة بما فيها الاستمتاع الذاتي، وبلغة بودليرية (نسبة لبودلير)  يمكننا القول أن المدينة لم تتمكن من حذف الحب ولكنها عملت على تعقيمه بالزواج.

وحين يقف نظام ما حيال مشاعر لا يمكن قياسها مثل شعور الحب فإن الأولوية تكون في جعله ممكن القياس، وترتيبه في ملفات مرقّمة على رف الحياة اليومية ليصلح كمادة للزواج لاحقاً، يذكرنا هذا بقول شارل فوريي في كتابه “عالم عاطفي جديد”: “إنها حضارة مقزّزة تلك التي لم تستطع أن تستخلص من أروع أنواع المشاعر الذي هو الحب إلا آخر درجات العلاقة، الدرجة المدعّمة، درجة الزواج”.

أما المجتمع الثاني فهو لا يقلّ رعباً عن سابقه، إنه مجتمع الغابة الذي لا يسمح لتواجد الناس إلا على شكل “وحيدين”، ويأخذ “الوحدة” ليس كخيار وإنما كشرط وجود وصفة مصيرية للاستمرار على قيد الحياة، يمنع الرقص المشترك، وكلام الغزل داخل الغابة وكل ما من شانه أن يؤدِّي للارتباط.

إنّ الغابة تمثل التجلّي الأخير لرفض الأسرة، وهي كما جرى تصميمها في الفيلم تحمل بيئة ثورية، تُفكِّر بالانقضاض على المدينة ومؤسسّاتها، والتي بدورها أيضًا تطاردها من خلال رحلات الصيد التي تُنظمّها، ولكن الهرب لمجتمع الغابة، يحمل معه ضريبته أيضاً التي تمتدّ من تدليكك لظهرك بنفسك، إلى قمعك لأي مشاعر قد تدفعك للارتباط بشخص ما.

تطارد الغابة كل تجلّيات المدينة داخلها، كما تفعل المدينة مع الغابة، وبين العالمين يقف الفندق لحراسة ما اتُفق على تعريفه بــ “المجتمع السويّ” مجتمع المدينة، وداخله يجري إعادة إنتاج الأفراد وتدريبهم على أن يكونوا أسرة أو أن أمامهم مصير الحيوانات.

إن العالم الذي شيّده الفندق – بوصفه حارساً لمجتمع المدينة – تتحدّد فيه معايير الزواج وفق المعايير المشتركة المباشرة، وهي غالباً من نوع :شريكين مصابين بالعرج، شريكين مصابين بضعف النظر.. وهكذا، فيما تُتوّج عمليات الانسجام  برحلات اليخوت أو إجازات صيفية للعائلة، يبدو كما لو أن الحب ذاته جرى إعداده وترتيبه وفق برنامج محدد، وأُكسب سلفاً أدواته ولغته للتعبير عن نفسه، إن الحب هنا صفة للحيوان البرجوازي الذي يعرف أنه حرّ في اختياره فقط أمام القوائم المعدّة سلفاً؛ من الطعام وحتى الارتباط. وبتوصيف “هايدجري” فإن حيوان الحب البرجوزاي  يظن أنه يزدهر بفضل محتويات وأشياء مشتركة. 

[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]

يبدأ الفيلم مع مشهد دايفيد (كولن فارل Collin Farrel) الذي تُبلغه زوجته بأنها تريد الانفصال عنه، وبذلك يتقرر عليه الذهاب إلى الفندق الإجباري، وهو يملك داخله 42 يوماً ليجد شريكة من النزلاء، وفي حال مرّ الوقت دون نجاح ذلك، يتحتم على إدارة الفندق تحويله لحيوان من اختياره، لذلك يختار “سرطان البحر” في حال فشله. “لماذا سرطان البحر؟” تسأله مديرة الفندق. “لأنه يستطيع أن يعيش مئة سنة” يجيب دافيد.

يمشي الفيلم بإيقاع رتيب جداً؛ لكنها رتابة ضرورية تجعل من الإيقاع نفسه مشاركاً في إدانة ما يحدث، وكأن ّالملل هنا عنصر مقصود لذاته لأنه لا يحدث بجانب المشهد بل هو جزء من المشهد نفسه، إن الملل هو البنية التحتية للخيارين، وهو المشترك الأكبر بين المدينة والغابة لذلك فإنه يبقى متصلاًّ مع كل تقلبات القصة.

مع يوميات الفندق التي تتنوع بين التدريب على أهمية الأسرة، والسعيّ الحثيث لإيجاد شريك يحمل صفات مشتركة، يضطر “دايفيد” بعد اقتراب وقت تحويله لحيوان إلى اختيار امرأة لا تناسبه تمتاز بقساوة القلب، ويُظهر هو الآخر قساوة قلب مصطنعة كي ينجو، إلا أن تأزّم الأحداث يُحتّم عليه الفرار نحو الغابة، وهناك يلتقي بالنقيض الوجودي للمدينة، وبما أن ما هو مُحرّم هو الدخول في علاقة مع امرأة ما؛ فإن هذا هو أكثر شيء مُرشّح للحدوث، وهو ما يحدث بالفعل.

فيطوّر هو وشريكته الجديدة، لغة للتواصل بالإشارات كي لا يلاحظهم مجتمع “الوحيدين” الذين يتعاملون بصرامة تاّمة مع بوادر تشكُّل ارتباط، حتى يتم الإيقاع بصديقته، وبما أنّ المشترك بينهما كان “ضعف النظر” يُصبح عقابها فقدان البصر بشكل كلِّي، وهو ما يُحتّم عليه لاحقاً – إن أراد استمرار العلاقة في المدينة – أن يخسر بصره هو أيضاً؛ لأنّ الصفات المشتركة هناك تؤخذ بجدية تامّة بعد أن تم اختزالها ومعيرتها.

لكننا لانعرف على وجه الدقّة ما هو الخيار الذي اختاره “دافيد” عندما وقف أمام المرآة ليفقأ عينه، حيث أن هذا المشهد كان المشهد الأخير في الفيلم وهي نهاية مفتوحة، تجعل من التردد بين العالمين صفة ملازمة لأي قرار كان.

 وهو ما يُذكرّنا بنهاية  فيلم ” Dogtooth” عمل لانتيموس السابق، الذي حمل ثيمة قريبة من هذا العمل عن أب قرر حبس أبنائه عن المجتمع بشكل كلي، وأخذ يعيد تشكيل لغتهم ومشاعرهم بشكل مختبري ومفصول عن المحيط، تختبئ إحدى بناته التي ملّت البيت المغلق الذي لم تعرف شيء غيره منذ ولادتها، وتختبئ في صندوق سيارة أبيها إلا أننا لانعرف إن كانت خرجت منه أم أنها ماتت اختناقًا.

وفي كلا العملين لا يبدو التمرُّد حاملاً لهدف نبيل يسعى وراءه، إنه أي فعل يرتكبه بطل الفيلم لأن الملل قد تمكّن منه كلياً،  ليس ثمة خيار يجب السعي له، لأن دائرة الخيارات بكل ما تحمل من كوارث جرى إغلاقها بلا رجعة؛ ولذلك لا ينتصر فيلم “لوبستر” لأيّ نمط من النمطين؛ بل يضعهما في قلب البشاعة بعدما قشّر عنهما كل محاولات التجميل البشرية.

وإن كان ثمة معادلة ثالثة لهذه الثنائية؛ فإنّ الفيلم لا يتبرع باقتراحها إلّا من خلال السكوت عنها.  ويبدو الأمر بالصعوبة التي اقترحها “كيركيجارد ” حين  يقول  “من استطاع إنجاح زواج ما، هو من عرف بشكل شاعري حل الغرائبية الكبرى للحياة في الأبدية، وهو يسمع دقات البندول”. ومن تمّكنت منه دقات البندول، عليه أن ينجو بنفسه، على طريقة نيتشه في توصيف استمرار الزواج إنه كما عنكبوت تشبّكت خيوطه وعليه أن يتغذّى على نفسه ليستمر في العيش. [[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]