عشاق بلا أمل

د. ياسر ثابت

مشهد يجمع بين "قناوي" و "هنومة" من فيلم الباب الحديد

كأنهم خارجون للتو من بين دفتي كتاب يحمل عنوان “عشاق خائبون”.. إنهم المهووسون بالحُبِّ في السينما المصرية، الذين يعشقون بلا أمل، لكنهم لا يكفون عن المحاولة.. لعل وعسى!

هؤلاء عشاق كتموا حُبَّهم أو باحوا به، فكان مصيرهم الرفض أو التجاهل، ليتحول الحُبُّ إلى وحش كاسر؛ لأن هذا النوع من الغرام مدمر. وما بين الألم والمعاناة بسبب عدم البوح، والإحساس باليأس والمهانة في حال الرفض، نجد هذه النماذج والشخصيات السينمائية تقترب أحيانـًا من صيغة الجاني/الضحية، خاصة إذا كانت تعاني عدم النضج العاطفي أو تخلط بين الحب والرغبة في الامتلاك والاستحواذ.

حتى على الشاشة، يكون طريق العذاب الشخصي في الحُبِّ غير المتبادل Unrequited love محفوفـًا بالقلق والشعور بالذنب والرغبة في الانتقام للنفس أو من المحبوبة الرافضة لهذه المشاعر، إنها العاطفة المرضية التي تحوِّل أنقى المشاعر إلى حالة محمومة من الرغبة في الامتلاك المصاحب للجنس.

هكذا يصبح الهوس مجرد تطرف رومانسي.

في حالات “الهوس العاطفي” أو “إدمان الحب من طرف واحد” يكون الشخص مهووسـًا بطرف آخر تحت لافتة الحُب بحيث تتنامى المشاعر بشكل غير منطقي ولا متبادل، فيتحول إلى طاقة تدميرية تهدم ولا تبني.

وفي السينما المصرية، كان مصير التعلق بدون أمل مؤلمـًا وشديد القسوة في كثير من الأحيان. نهايات هؤلاء المأساوية وشخصياتهم المسكونة غالبـًا بعُقدٍ نفسية تستحق القراءة والتأمل بدون أي إطالة.

“حسبو” في “شباب امرأة”

أذهلنا عبدالوارث عسر بأدائه المتقن في “شباب امرأة” (إخراج: صلاح أبو سيف، 1956)، فـ”حسبو” الرجل المحطم، الذي نراه من محاسيب المعلمة “شفاعات” (تحية كاريوكا)، يظهر في الدقيقة الثامنة من الفيلم، ليمنحنا ملامح شخصية تتضح تفاصيلها وأسرارها تدريجيـًا.

يتكشف أول خيوط شخصيته في الدقيقة العاشرة، حين يتدخل تهدئة المعلمة “شفاعات”، صاحبة “السرجة” (أي المكان الذي به طاحونة سحق السمسم لاستخراج الزيت والطحينة)، الغاضبة المحتدة على رجال تختلف معهم في “درب المسرات”. وحين يُبلغها “حسبو” بأنه تمكن من تأجير الغرفة الخالية لحسابها مقابل 150 قرشـًا في الشهر، للشاب الريفي “إمام بلتاجي حسنين” (شكري سرحان)، تغضب منه وتنهال عليه بالتقريع والتوبيخ بدءًا من “بتقول إيه يا نيلة” مرورًا بـ”مين أذنك تتصرف في غيابي يا أبو مخ مدوحس” وانتهاءً بـ”التلميذ بتاعك ده ميقعدش في بيتي ولا دقيقة”.

عبد الوراث عسر في دور "حسبو" شخصية الرجل المحطم.

ينحني أمامها “حسبو” مادًّا يديه المضموتين في خضوع واستجداء، ثم يبسطهما استجابة لأوامرها قائلًا “طيب حاضر” ويهرع في محاولة لإبعاد المستأجر الجديد عن المكان. غير أن القدر يلعب لعبته، وتُبدي “شفاعات” إعجابها بالمستأجر قوي البنية الذي ينقذ أحد عمالها من إصابة خطيرة بسبب السقوط في “السرجة”.

بمرور الوقت، ندرك أن “شفاعات” قوة طاغية تتحكم في الرجال بسطوتها، وتحكم عليهم بقلقٍ جنسي ومشاعر حسية تظل تساورهم كلما اقتربوا منها، فلا يجدون من تلك المشاعر مهربـًا، وإن كتموها.

وحين تلاحق “شفاعات” المستأجر الشاب بعينيها، يظهر “حسبو” في الدقيقة 14، وهو يحك ذقنه في دهاء من يقر أفكارها، ويعلق بمكر: “نرمي له عفشه في الحارة بقى؟”، فترد عليه ببجاحة “غور”!

“حسبو” هنا مستكين، مطيع، يتحرك بانحناءة خفيفة كاعتراف بانسحاقه، يعاقر الخمر.. يقاوم وحدته الليلية بالسُكر، بعدما كان موظفـًا كبيرًا ذا شأن، لكنه في لحظاتٍ أخرى، وفي مفارقةٍ لاذعة، يقول كلامـًا كل جملة فيه لها وخز الإبرة. والرجل يلعب دور الأب البديل مع “إمام” القادم إلى الحارة، مشفق عليه من الانغماس في نيران الشهوة.. يخشى عليه من رياح الأنوثة الطاغية. ويراه “إمام” كما قال في رسالة لأمه في مقام عمه فيقول: “وهذا الرجل حسبو، كأنه عمي أبو الخير تمامـًا من حيث عنايته الزائدة بي واهتمامه بشئون معيشتي ودراستي”.

في حديثه إلى “إمام” تدرك أنه فهم أنه سقط فريسة لرغبات “شفاعات”، ويتكلم معه بالمداورة حينـًا، وبالغمز واللمز في حين آخر، قبل أن يفاتحه ويناصحه.

في لحظة ما (بعد ساعة و26 دقيقة من بدء الفبلم)، يهفو قلب “حسبو” إلى عشيقته السابقة “شفاعات” ويتجرأ محاولًا احتضانها فتصده وتلفظه موبخة “يا راجل عيب على طقم سنانك”، فيهتف على الفور معاتبـًا “ما أنت اللي مطرماهم”!

تصدر عنه آهة عميقة ثم يقول وهو شبه مغمض العينين “كلنا في الهوى عباسية”. ويشرح لها الموقف المتشابك قائلًا: “أنا بحبك وأنت بتحبيه وهو بيحب واحدة تانية. ما تيجي نلم شملنا ونجدد الذي مضى”، ترد عليه” يا شيخ اتنيل أنت فيك نهمة”، فيقول “بشرفك في.. إن كان الشعر شاب، القلب لسه شباب..”.

تهينه “شفاعات” مرات ومرات، كأن تقول له “اتلهي أنت يا بغل”، وتنادي عليه قائلة “يا حسبو.. يا زفت يا طين” وتصفه بأنه “رجل ملاوع تعلب”، فيبتلع الإهانة في صمت. يُذكر أن الصفعة التي تلقاها “حسبو” من المعلمة “شفاعات” في فيلم “شباب امرأة” تلقاها 16 مرة، وفي كل مرة كان المخرج صلاح أبو سيف يقول: أنا عايز صفعة طبيعية، لدرجة أن عبدالوارث عسر قال لها: “يا بنتي اضربي وخلصيني”، وكانت المرة السادسة عشرة.

وحين يفيض به الكيل من هيمنة شفاعات على الشاب “إمام”، يعاقب “حسبو” المرأة المغوية بالموت، لينتقم لنفسه ولإمام من هذه المرأة اللعوب. إنه في هذه اللحظة يمثل الخلاص للشاب “إمام” ضحيتها الأخرى، في محاولتها التشبث بالدفء والحب. يقتلها “حسبو” ليفك أسر إمام الضحية، وينتهى الفيلم بالقاتل يبكي ضحيته “شفاعات”.

تركيبة الكبت والحرمان عند”قناوي” في “الباب الحديد”

داخل محطة “باب الحديد”، حيث يتحرك الجميع في عبور دائم، وسط ظلال من حاملي الحقائب والأمتعة، وبائعي الصحف والمشروبات الغازية، الذين يركز عليهم الفيلم، يحكي لنا “عم مدبولي” (حسن البارودي) عن “قناوي” (يوسف شاهين)، المحطّم الأعرج، الذي يقول إنه وجده في يوم على أحد أرصفة المحطة، فقرر أن يساعده عندما وجد جدران غرفته الصغيرة البائسة مليئة بصور فتيات عاريات قصقصها “قناوي” من الجرائد التي يسرح بها.

هكذا بدأ الفيلم وبسرعة،اعتراف بحقيقة مرض البطل “قناوي”، الذي تثير شخصيته خليطــًا من التقزز والتعاطف، وبوجود راوٍ يمسك الخطوط الدرامية من البداية إلى النهاية.

إن شخصية “قناوي” السيكوباتية تجسد نموذجـًا لحالة الحرمان وعدم الاتزان العقلي، وتتقد مشاعره مع إحساسه بالرغبة في الفاتنة “هنومة” (هند رستم) ذات الجسد المثير، التي يتهافت عليها الرجال.

“قناوي”، تلك الشخصية المعقدة نفسيـًا، كان يتحرك ويتقافز في المحطة والميدان، بثيابه الرثة وضحكته المتقطعة غير المكتملة، ونظراته الحادة، وحركته العصبية، ثم ينطق بكل الوله اسم “هنومة” كأنه يتذوق في تأن قطعة حلوى.

يعشقها “قناوي” ذلك المهاجر من الجنوب الضائع وسط غابة محطة مصر، فتجاريه بمنطق نفعي بحت وبلمسة إشفاق واضحة، مرة لأنه تستر عليها وقت أن كانت الشرطة تبحث عنها، وأخرى بإهدائه لها عقدًا ذهبيـًا، لكنها تنوي الزواج من “أبو سريع” (فريد شوقي)، وهنا يبدأ “قناوي” في التخطيط لامتلاكها حتى النهاية، ولو كان السبيل إلى ذلك هو القتل.

الشخصية المعقدة نفسيـًا، كان يتحرك ويتقافز في المحطة وبثيابه الرثة ، ونظراته الحادة، وحركته العصبية، ثم ينطق اسم "هنومة" كأنه يتذوق في تأن قطعة حلوى.

يخطط “قناوي” للجريمة، لكنه يقتل فتاة أخرى عن طريق الخطأ ويحاول إلصاق التهمة بخطيب “هنومة” وهو “أبو سريع”.

تصاعدت الحالة المرضية بشكلها الطبيعي حتى نهاية الفيلم، عندما حاول “قناوي” قتل “هنومة” على قضبان القطار، في أكثر مشاهد السينما المصرية شهرة. وجه “قناوي” ملطخ بطبقات من الزيوت والشحم وكذا جلبابه الرث، وحين تلتمع عيناه لتفضحا مشاعره المكبوتة والمضطربة، تدرك حالة هذا العاشق الخائب الذي بلغ به اليأس درجة الرغبة في قتل من أحبها. هناك شحم وزيوت على وجهه وجسده تمامـًا، وغليان يبحث عن شق ينفجر منه.

تماهى “عم مدبولي” ضمن شخصيات وأحداث الفيلم، ليظهر محاولًا إقناع “قناوي” بالاستسلام للرجال الذين جاءوا للإمساك به، ويمنيه “عم مدبولي” بأن يزوجه “هنومة”، قبل أن تقع النهاية المأساوية لهذا العاشق المضطرب.

“حاتم” الحبيب المتسلط في ” هي فوضى” 

في فيلم “هي فوضى؟” (إخراج يوسف شاهين وخالد يوسف– 2007)، نتابع شخصية حاتم (خالد صالح)، وهو أمين شرطة فاسد يسكن في حي شعبي “شبرا”، ويقع في غرام جارته الشابة الحسناء “نور” (منة شلبي)، التي تعمل في مجال التدريس وتقيم مع والدتها “بهية” (هالة فاخر).

بعيدًا عن ممارساته اليومية الفاسدة، تتكشف أمامنا الحياة السرية لأمين الشرطة “حاتم” الذي شكَّل شخصيته في إطار “الخمر، السلاح، صورة المرأة العارية، الجهل”. وفي نوبات غرامه بالجارة البعيدة عن متناول يديه، تنعكس صورة “حاتم” في المرآة الموجودة في غرفة نومه من ثلاثة أبعاد “الجهل، الكبت الجنسي، المرض النفسي”.

يحاول “حاتم” التودد إلى “نور” تارة، وتهديدها تارة أخرى، ويسعى إلى الحصول عليها بكافة الطرق. وفي المشهد الوحيد الذي يبدو فيه حاتم إنسانـًا يبوح لنور بمعاناته، وكيف نشأ يتيمـًا، واستولى عمه على أرضه، وعاش في طفولته متنقلًا بين بيوت أقاربه الذين كانوا قساة القلب.

تتجلى العقد النفسية المترسبة لدى “حاتم” الذي يشعر بأنه غير جذاب ويستحوذ عليه شعور مدمر بالكبت الجنسي يدفعه إلى ممارسة كل أشكال السلوك الجنسي التعويضي والمنحرف (لا يتورع عن التلصص على “نور” من فرجة في النافذة وهي تستحم عارية، يمارس العادة السرية، يتسلل إلى مسكن “نور” لكي يتشمم فراشها وملابسها، يطلب من مصور أن يصنع صورة بالحجم الطبيعي لـ”نور” سرقها من منزلها، بعد أن يلصق رأسها بجسد امرأة عارية، ويعلق الصورة أمام فراشه كي يتأملها كل ليلة).

بل إنه يطلب من فتاة ليل أن تساعده كي يبدو أكثر جاذبية في نظر “نور”، ويقول لها: “عايز أكون حلو يا سمية. إزاي أبقي مقبول؟”. تساعده بائعة الهوى على ارتداء “باروكة” من الشعر المستعار لتغطية صلعته، لكن هذه الباروكة سرعان ما تسقط في صحن الحساء في مشهد مثير للسخرية.

ينتهي به الأمر باختطاف “نور” والذهاب بها في قارب في النيل إلى منطقة ريفية، ويعتدي عليها الضرب داخل كوخ حتى تفقد وعيها، ثم يقدم على اغتصابها، ويغادر المكان، فتخرج هي والدماء تلطخ ثوبها تستنجد برجلين في قارب.

إنه الحُبُّ المتسلط ذو الطاقة التدميرية الهدامة في أبرع صورها.

 

 

“عزيز” رجل السلطة بكاميليا “حافية على جسر الذهب”

في فيلم “حافية على جسر الذهب” (إخراج عاطف سالم – 1976)، تبدو خيوط القصة بسيطة. تهوى “كاميليا” (ميرفت أمين) التمثيل وتتعرف إلى المخرج المنتج “أحمد سامح” (حسين فهمي) الذي يتفق معها على بطولة فيلمه الجديد. يتقرب منها “عزيز” (عادل أدهم) ضابط مركز القوى، ولكنها تصده.

تتفق مع “أحمد” على الزواج فيهددها “عزيز” بقتله، تقرر التضحية بحبها فتعامل “أحمد” بجفاء وتصده، يعتدي أعوان “عزيز” على “أحمد” ويصاب. تساوم “كاميليا” المتنفذ “عزيز” كي يسمح لـ”أحمد” بالسفر للخارج للعلاج مقابل أن تهبه نفسها فيوافق. وفي الطائرة يتسلم “أحمد” خطابـًا من “كاميليا” تعترف له بالحقيقة. في حين تذهب “كاميليا” إلى منزل “عزيز” لتقتله ثم تنتحر.

ما هو غير عادي في الفيلم هو شخصية “عزيز” بأداء مذهل لعادل أدهم. لولا هذا الأداء لما عشق كثيرون هذا الفيلم، الذي يقدم لنا نموذجـًا آخر للرجل المتسلط الذي يتأرجح في مشاعره ما بين الحب والرغبة في الاستحواذ، خاصة أنه صاحب سلطة ونفوذ، وقاسي القلب، بطريقة أدائه التي تعد علامة تجارية مسجلة في السينما المصرية، يجسد عادل أدهم شخصية رجل السلطة المهووس جنسيـًا بامرأة، مما يحيل حياتها إلى جحيم.

نحن في حضرة ذهنٍ لامع لا يلين، يقتنص الفرص، ويمارس انحطاطه المثير للدهشة بلا وازعٍ من ضمير.

“شايفة يا قطة الفستان بيولع إزاي؟!”.

قالها “عزيز” وهو يشعل النار في فستان الزفاف المنتظر لـ”كاميليا” أمام ناظريها، فكان مشهدًا فارقـًا في الفيلم والذاكرة على حد سواء.

إن “عزيز” الذي يصف “كاميليا” دومـًا بأنها “قطة”، في لازمة تثير الرجفة لما تعكسه من هوس رجل سادي بامرأة جميلة، يتعامل معها كأنها دمية يود الحصول عليها، وربما يتلهف لأن تكون بين ذراعيه، ويجمع في حديثه معها بين الانفعال والسباب وأحيانـًا الغزل الوضيع؛ ولذا تدور بينهما حوارات غريبة الطابع من عينة أن يقول لها: “القطط مش محتاجة مسدس علشان تموت كفايه عليها تخربش وبس”، أو أن نسأله مستنكرة “أنت إيه؟ مش انسان؟!”، فيرد عليها بثبات وبرود “أنا مش إنسان.. أنا عزيز”!

 

 

منذ البداية، تدرك “كاميليا” أن “عزيز” يراقبها ويكون هذا المشهد في بداية الفيلم، ولم تكن ملامح شخصية “عزيز” قد اتضحت لها بعد، وحين تسأله هل يرسل وراءها من يراقبها، فيرد بهدوء قائلًا إنهم لا يراقبونها بل يحرسونها، فترد متسائلة: “يحرسوني يحرسوني من إيه؟” فيرد فجأة “من الكلاب”!

في مكتبه وفي حضور “ليليان” (مريم فخر الدين)، يستعرض “عزيز” نفوذه أمامهما في حديث هاتفي، ثم يخاطب “كاميليا” قائلًا: “أهلًا يا قطة.. تصوري، الكلاب صوتها علي اليومين دول.. بتهوهو كتير”.

في محاولة أخيرة لصد “عزيز”، تلجأ “كاميليا” إلى الحيلة. تستخدم سلاح أنوثتها للإيقاع بالرجل القوي، فتنجح ببساطة، ويخر “عزيز” في المشاهد الأخيرة عند قدميها ويشرب الخمر من حذائها، وهو يختلس النظر إلى ردائها الأحمر الفاتن، قبل أن تقتله وتنتحر.

مات “عزيز” وبقيت جملته “يا قطة” حية خالدة!