“فلسطينيو العراق: شتات الشّتات”.. تاريخ التواطؤ

من قناعات تقبّل الوثائقي ومصادرات أن الحقيقة متعدّدة وأن الفيلم عرض لوجهة النظر الشخصيّة وإن بذل مبدعه الواسع من الجهد في سبيل تحقيق الحياد. وبقدر ثبات هذه القناعة تظلّ أخرى راسخة تعادلها في المقدار وتعاكسها في الاتجاه ومدارها على أن البعد التسجيلي التوثيقي يظلّ روح هذا النّمط من الأفلام التي تكتسب قيمتها بقدر ما “تغترف” من هذه حقيقة. لذلك كثيرا ما ترنّحت المقاربة الجماليّة أمام سطوة الحقيقة الكامنة في هذه الأفلام. وتجلّى ذلك كلّما طال الوثائقي حقائق يعسر الوصول إليها. وما تحوّل بعض الفيديوهات المعروضة على شاشات التواصل الاجتماعي أيام الثّورة التونسيّة أو المصريّة إلى  وثائقيات جيب (des documentaires de poche)  إلا دليل على ما نقدّر. فمأتى قيمتها من توثيقها لهبّة شعوب لفرض إرادتها بخلع حكام فاسدين في ظلّ تعتيم إعلامي وعسر في الوصول إلى المعلومة. فعلى كسرها لقواعد الإنشاء السينمائي جذريّا وتهميشها للهمّ الجماليّ ودفعه إلى الخلف وكانت القنوات التلفزيّة تتنافس في الفوز بها وعرضها على شاشاتها.
ولعلّ الخوض في مأساة فلسطينيي العراق يجعل من تقصيّ الحقيقة والتأريخ لبعض تفاصيلها محور اهتمام المتقبّل الأول أولويّة التقبّل إليها ينصرف قبل خوضه في الجمالي التشكيلي من الفيلم، لما أحيطت به من تعتيم إعلامي هائل اشترك في فرضه فيه الجميع، إعلاما وشعوبا ومنظّمات حقوقية، بين  تواطؤ معلن وصمت مخز. وهو ما جعله فيلم “فلسطينيو العراق: شتات الشّتات” مقصده.

 الذّاكرة تعيد تشكيل الحقيقة.


ينتزع الفيلم – الذي أنتجته الجزيرة الوثائقي واخرجه المخرج التونسي جمال الدلالي- المتفرّج من زمنه الميقاتي الواقعيّ إلى زمن يشكّله هو قوامه ما يستدعيه السارد، خارجَ الإطار، من وقائع من نكبة الفلسطينيين الأولى، كوصول الفلسطينيين إلى العراق بعد أن هجروا من حيفا ويافا إلى جنين سنة 1948 وبقائهم لسنوات تحت ولاية الجيش العراقي، حتى إذا ما اتّضخ مدى تعقيد الأزمة نُقل الفلسطينيون إلى المخيمات في بغداد وأُتيح لهم التواصل مع محيطهم العراقي الجديد وطنا بديلا فيه يُمنحون ما للمواطن العراقي من الحقوق وما عليه من الواجبات. وللذّاكرة معين ثان لإعادة تشكيل الحقيقة، هو ما تستدعيه شهادات المستجوبين حول النكبة الثانية إبّان هجوم دول الحلفاء على العراق سنة 2003 وسقوط بغداد. فقد أضحى هؤلاء هدفا للمليشيات وسقط منهم عدد كثير. فلم يبق لهم من ملاذ غير الضرب في الأرض بحثا عن مأوى جديد. وتقطّعت السبل بأغلبهم في مخيمات جديدة كائنة على الحدود السوريّة، لا تطعم من جوع ولا تؤامن من خوف.
أما إذا ما امتدت هذه السّبل بأصحابها شرّدت مرتاديها إلى البلدان البعيدة: إلى البرازيل أو أستراليا أو الهند أو السويد. فتشتّت العائلات المشتّتة أصلا. وتفصل بين الوالد والولد والزوج والزوجة كحال أم عادل التي تعاني إلى إعاقة ابنها عمر أبي الهيجاء، فقد ابنها في أوروبا، أو كحال أبي أسعد المقيم بسوريا أو مصطفى منصور وصافي عيسى صافي الذين يعانيان في منفاهما في البرازيل محنة أسر غير معلن. وبالجملة مثّلت الشهادات إعادة رسم للزمن وتشكيل لهوية سرديّة لفلسطينيي العراق. فكشفت، على تنائي المسافات بأفرادها، اشتراكهم في وجع الغدر وتحالف الأقدار والوقائع السياسيّة والمنظّمات الدّوليّة والأشقاء العرب وممثلي السياسة الفلسطينيّة (السفير الفلسطيني في البرازيل) ضدّهم. فكانت الذّاكرة علبة مشروخة التي لا تحتفظ بغير المآسي ولا تجد فيها موضعا للحظة فرح أو نبض إنساني.

في تجسيم المأساة بصريّا.
يلوّح طفل بيده لوالده من خلف قضبان النّافذة أو يجول اللاجئ إلى البرازيل في غرفته بضجر وقد ألقي بعائلته في العراء وتركت ليواجه قدرها بين السّكارى والحشّاشين. جميع هذه الحالات نماذج لفلسطينيين محكوم عليهم بالسجن المؤبد وجريمتهم هويتهم الفلسطينية. لذلك كثيرا ما عمدت الكاميرا إلى التقاط مواضيعها من خلف الشقوق والثقوب أو من خلف قضبان الأسوار والنّوافذ مستدعية، استعاريّا، صورة السّجن. ومن ثمّة كانت، بالتوازي مع التقاط الشهادات، تنتقي الشخصيات المحاورة وتضبط زوايا تصويرها وخلفياتها التي تحلّ. فتعمل على تجسيم المأساة بصريّا وفق صيغ تقريريّة حينا وبخطاب استعاريّ حينا آخر. فإذا الوجوه بائسة والنظرات أصحابها شيوخ أو عجائز أقعدها المرض أو شباب أقعدته العلّة. وإذا الأصوات المبحوحة متقطّعة منكسرة وحركة الأجساد بطيئة ثقيلة توازي ثقل مأساة هؤلاء المشرّدين مرّتين. أما الفضاء الذي تحل به هذه الشخصيات فمخيمات تعرض هذه الأجساد المريضة للبرد والحرارة وخطر الاختناق حرقا. وتتركها فريسة للحشرات السّامة أو مبان متداعيّة نخرها الرصاص من كل جانب تفيض شوارعها بالمياه الآسنة وتحيط بها الأسلاك الشائكة. وبالجملة كانت الوجوه البائسة والأفضية صفحات تدوّن الألم الفلسطينيّ الممضّ وترصد أثر فقد لا ينفكّ يتضخّم من فقد الوطن الأصلي إلى فقد للوطن البديل ألى فقد الأهل إلى فقد السكن والسّكينة وما هي جميعا سوى تنويعات مختلفة لأصل واحد هو فقد للكرامة والإنسانيّة

 المأساة واحدة والوجوه مختلفة:


يعرض الفيلم تنويعات مختلفة لمأساة فلسطينيي العراق فيرصد تواطؤ فرقاء السّياسة، على اختلافهم يمينا ويسارا أو عربا وعجما، بصمتهم على معاناة فلسطينيي العراق، من تخاذل للدّول العربيّة في إغاثتهم وإباحة المليشيات العراقيّة لدمهم ومالهم وعمل الضّمير الغربي على طمر أزمتهم فتتخلّص منظّماته الإنسانيّة منهم في مخيّمات تفتقر إلى أدنى مقوّمات احترام الذّات البشريّة أو تشرّدهم في أصقاع بعيدة عن الأعين وتهملهم دون رعاية أو سكن. وبدل الأخذ بأيديهم تشتّت أرحامهم وتدوس كرامتهم. فكان الشّتات الثّاني نكبة أعتى عليهم من الأولى وأشدّ وقعا وبعد أن حرموا من حقوقهم باعتبارهم مواطنين بمقتضى القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والداعي إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين والتعويض لهم عمّا لحقهم من أضرار جراء هذا اللجوء القسري ها هم يفقدون حقوقهم باعتبارهم لاجئين. ذلك أنّ النظام الأساسي لمفوضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يحول بموجب القرار 428 (د-5) وفي مواده 12 و13 و17 دون تعرّضهم للتّمييز بسبب العرق أو الدين أو بلد المنشأ وتوجب المادة ويدعو إلى احترام حقوقهم المكتسبة ومعاملتهم معاملة لائقة تضاهي معاملة الأجانب عامة فيما يتعلق بحيازته الأموال والتّصرف فيها وفي سوق الشّغل وفي خدمات التّغطية الاجتماعيّة  المقرّرة لمواطني الدول المستضيفة.
يكشف السياسي والأخلاقي والقانونيّ من هذه الأزمة إذن عن مأساة موازية يعيشها الضمير الإنسانيّ بتجاهله لمعاناة الفلسطينيين وعن خرق صارخ لبندي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد نصّت مادّته الأولى على أن “جميع الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء” ونصّت مادته الثّانية على أنّ “لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي ..” ..
ومع ذلك  اتسم العرض بحياء وحذر شديدين فجعلا خلفيات هذه المحنة في فراغات الفيلم معولين على ثقافة المتفرّج السياسيّة لملئها. وسكتا عن التّصريح بالأسباب المباشرة لهذه المأساة شأن لوم حكّام العراق الجدد للفلسطينيين بمناصرة صدّام حسين ومعاقبة أمريكا وحلفائها من حكّام العرب رمزيّا من خلال هؤلاء الضحايا لياسر عرفات الذي بدا متعاطفا مع نظام صدّام في حربه مع دول التّحالف سنة 1991 ومعاقبتها لصدّام نفسه الذي تجرأ على قصف تل أبيب.

إنشائيّة الفيلم وأولويّة خلق المؤثر:
يقتضي الفيلم، باعتباره دراسة اجتماعيّة وسياسيّة تسلّط حزمة من ضوء على مأساة تناستها الإنسانيّة وألقت بها خلف ظهرها، من المتفرّج عملا استدلاليّا يساعد على فهم الوضعيّة وتأويل أبعادها ويخاطب من الإنسان عقله وضميره في آن فيتسم ببعد إقناعي. ولكنّ إنشائيّة الفيلم جعلت هذا المستوى من الفهم والتّأويل ينسحق تحت طبقة سميكة هي ذلك المستوى الانفعالي الذي يعمل على خلق المؤثر العاطفي حاشدا مستويات اللّغة السينمائيّة الثلاثة. فتعمل اللّغة البصريّة بتركيزها على تفاصيل الوجوه المتعبة وملامحها على تحويلها إلى الصفحة ترسم عليها حالات الروح الباطنة وما فيها من الشّجن. فكثيرا ما تعبر هذه الصفحاتِ دموع ُالأطفال أو المرضى أو الأمهات المكتويات بنار الفقد. وكثيرا ما خلق المخرج  بدائل استعاريّة لهذه الحالات العاطفيّة فجعل مدارها على عرض لقطات للسّماء القاتمة التي تحجب غيومها وجه الشمس وبريقها أثناء شهادة الشّخصيّة. وتعمل الموسيقى والمواويل الفلسطينيّة بما فيهما من الشّجن على خلق حالات الروح نفسها. فتتقاسم الدور مع صوت السارد الذي لا يتوانى عند نقل الأحداث إلى التصريح بالموقف الذاتيّ منبها المتفرّج باستمرار إلى وجه المأساة ممّا يعرض عليه من النّماذج. وبالجملة لا يكفّ عن محاولة تأمين انخراطه العاطفي في الفيلم.
من وجوه عبقريّة العمل السينمائيّ تعبيره العميق عن وجهة النّظر الشّخصية وعن الرّؤية الذّاتية وعن موقف مبدعه ممّا يعرض. فلا مجال فيها للحياد المصطنع الذي يقتضيه العمل الصّحفي على سبيل المثال. ومردّ ذلك أنّ الصناعة من الفنّ السينمائي تحفّز لدى المتفرّج دونا عن بقيّة متقبلي الفنون، ضربا من السّلوك النفعيّ. فنظير ما يهب للمخرج من وقت يطرح السؤال حالما ينتهي العرض “ما موقف مبدع الأثر مما جرى؟ ما رسالته في ما أنشأ؟” وهو ما يصطلح عليه في النقد السينمائيّ بالرسالة الأخلاقيّة للفيلم  (La moralité du film). زمن ثمّة كان ينصرف إلى محاولة فك تشفير النصّ السينمائي من منطلق نظمه السيميائيّة، وفي الآن ذاته يعمل النصّ بشكل من المواربة والملاعبة على تشكيل وعي المتفرّج فيدفعه من حيث لا يعي إلى مشاركته جملة من المصادرات. فمدار أفلام هوليود على سبيل المثال، على ترسيخ أسطورة الرجل الأبيض العظيم الذي يعمل على إنقاذ الإنسانية من خطر مجموعة من الهمّج والأشرار أو إنقاذ الأرض من خطر فلكيّ داهم. فتجعله ناشرا لقيم الحريّة والتسامح. قوام الأفلام السوفيتيّة زمانا على ما اصطلح عليه فرتوف بــــ”ــالتشفير الشيوعي للعالم” فكانت تبشّر، من خلال نشر التصوّر الماركسي للمجتمع، بخلاص الإنسانيّة من خطر الإمبرياليّة المتوحّشة. أمّا أفلام المحرقة اليهوديّة فتكرّس فكرة اليهودي الإنسانيّ. وتجعل من المحرقة انكسارا ظرفيّا للخير أمام الشر. ومن ثمّة تعمل على تصوير اليهوديّ في صورة الضحيّة حتى تبتزّ الضمير الغربي من ناحيّة وتصرف الأنظار عن جرائم إسرائيل في حقّ الفلسطينيّ. وبالمقابل ترسّخ سطوة المؤثر الوجداني في فيلم “فلسطينيو العراق” رسالة ثنائيّة القراءة مدار أولاهما على صورة للفلسطيني المستسلم اليائس الفاقد لكل قدرة على المقاومة. وهذا ما نستمع إليه في أكثر من شهادة ويختزله قول أبي أحمد الشندي، أحد شيوخ المخيّمات، بيأس ” نحن شعب مغلوب على أمره” ومدار ثانيتهما على بكائيّة لا تحث الضمير الإنسانيّ على تدارك أخطائه في حقّ الفلسطينيين وتشكيل الوعي الجمعيّ من خلال الارتقاء بالمأساة إلى بعدها الكوني والرمزيّ بقدر ما ترثي في أسلوب تقريريّ مباشر حال هؤلاء المشتّتين مرتين وتستدرج المتفرّج إلى الانخراط الوجدانيّ في التّعاطي معها.
ولعلّ تأجيل المونتاج لحلم المستجوبين بالعودة يوما إلى الوطن الأصلي باعتباره حلاّ جذريّا لمأساتهم وتداول صورة المفتاح، الذي يكنّي عن أمل العودة، مصحوبا بصوت فيروز يلهج برائعتها “سنرجع يوما إلى حيينا” أن يعقد صلة بين بداية الفيلم التي مدارها على النكبة الأولى نهايته المفعمة بأمل، وإن أُسقط إسقاطا على مساق النصّ، وأن يخلق ما يصطلح عليه النّقد السّينمائي بــــ”ـــــاللّمسة السينمائيّة الجميلة” وأن يدسّ في إدراك المتفرّج شيئا من الطّاقة الإيجابيّة.