فلم “صناعة الكذب” تعرية لذهنية الخطاب الإعلامي

لماذا يتحوّل الفنّان والرياضي ورجل الدين إلى بوقٍ للنظام المُستبِد؟
عدنان حسين أحمد – لندن

قليلة هي الأفلام الوثائقية التي خصّصت مساحة واسعة للإعلام الرسمي المصري ورصدته بروح مهنية عالية باستثناء فلم “صناعة الكذب” للمخرج شريف سعيد الذي قدّم بطريقة مرآوية خطاب الإعلام الرسمي المصري على حقيقته من دون رتوش. وكمن يريد أن يزّج متلّقيه في قلب الحدث من دون مقدمة تمهيدية مطوّلة تنفتح اللقطة التأسيسية الطويلة نسبياً على مدٍّ واسع من المتظاهرين في ميدان التحرير في ظهيرة الثامن والعشرين من يناير 2011 مستعيناً بـ “الفويس أوفر” الذي يختصر اللافتات المرفوعة بشعار واضح وصريح مفاده: “الشعب يريد إسقاط النظام” غير أن اهتمام المخرج وكل العاملين معه من فريق التصوير والإعداد والإنتاج كان مُنصّباً على أداء أجهزة الإعلام الرسمية في مصر وما أنجز خلال “18” يوماً من مواد إعلامية على أيدي خبراء ومختصين سخّروا قابلياتهم الإعلامية لصناعة الكذب وترويجه بطريقة فجّة أوشكت أن تُجهض أحلام الجماهير.
يعتمد المخرج شريف سعيد في بناء الهيكل العام لفلمه على لائحة تتضمن عشر خطوات كفيلة بالتأثير على المتلقين، وتشويش رؤيتهم في أضعف الأحوال.

النغمة السائدة
يؤكد الدكتور صفوت العالم على ضرورة استباق الأحداث بغية امتلاك زمام المبادرة والقول بأن “مصر ليست تونس، وأن الرئيس حسني مبارك، ليس زين العابدين بن علي”، وهذا يعني بحسب الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز “أن التجربة التونسية فارقة ومحدودة، وليست لها تداعيات على بقية الأنظمة العربية، وخاصة على النظام المصري”. يسجل هذا الفلم الموقف الشجاع لمقدم برنامج “مصر النهارده” محمود سعد حينما قاطع زميلته منى الشرقاوي طالباً منها أن يحيي الشعب التونسي على ثورته لأن التلفزيون الرسمي المصري لم يذع خبراً وا��داً عنها، وقال:” إننا نعيش لحظة عربية تاريخية لا يمكن أن نعيشها مرة ثانية”. ركّز ياسر عبد العزيز على أنس الفقي، وزير الإعلام السابق، الذي كان يعرف جيداً أن هذه المنظومة يجب أن تكون في خدمة الرئيس حسني مبارك أولاً، ومشروع التوريث ثانياً، وهكذا ظلّ يغذي هذه القلعة الكبيرة “ماسبيرو”، أي مبنى التلفزين الرسمي، منذ بداية الأحداث حتى نهايتها.

تهويل العدو
إن تهويل صورة العدو الداخلي، وشيطنته، وربطة بعجلة التمويل الخارجي يُشعر عامة الناس بالخطر. وغالباً ما يستعمل إعلام الأنظمة الشمولية الأنماط الجامدة التي تربط أعمال الشغب والعنف بالأحزاب والجماعات المحظورة، والقوى الإرهابية للإمعان في تخويف الناس من جهة، وتشويه صورة المعارضين والمناوئين لهم من جهة أخرى. ركّز المخرج شريف سعيد في موضوع “التهويل” على شخصيتين إعلاميتين معروفتين وهما محمود سعد وتامر أمين اللذين كانا يقدمان برنامج “مصر النهارده” ليكشف لنا عن موقفيهما من أداء الإعلام الرسمي، فمحمود سعد لا يقبل بالتشويه، والابتزاز، وقد اتخذ موقفاً واضحاً لا لبس فيه، فهو مع الثوار قلباً وقالباً ولا يستطيع أن يمسك العصا من المنتصف. أما تامر أمين فهو يتعامل مع المعلومة التي تصل إليه بمنتهى الأمانة والموضوعية ولا يتحيز لجهة معينة على حساب جهة أخرى، لأنه شخص ناقل للأخبار والمعلومات، وليس جهة محرّضة.

أداة للكذب

يحاول المخرج شريف سعيد أن يعرّي ذهنية النظام الشمولي الذي لا يتورع عن الكذب الصريح حينما يلجأ للتهويل تارة، وللتهوين تارة أخرى، ولكن هل تنطلي الأكاذيب الصريحة على الجماهير؟ يقول الصحفي إبراهيم السخاوي لقد حدث ما يشبه الكارثة في يوم 26 يناير حيث بلغ عدد المتظاهرين عشرات الآلاف في القاهرة، بينما يخرج مانشيت “الأهرام” عن “احتجاجات واضطرابات في لبنان”. هذا هو التهوين الذي يمارسه الإعلام الرسمي مستخفاً بعقول المواطنين. يذكر عبد الله كمال، رئيس صحيفة روز اليوسف، ونائب في مجلس الشورى بأن عدد المتظاهرين أمام دار القضاء العالي هو “200” شخص فقط وكأنه لا يسمع هتافات المتظاهرين وغضبهم في محاولة يائسة لتقليل العدد بغية التمويه على الجماهير. تؤكد سها النقاش، المذيعة بقناة النيل للأخبار، بأنها لن تنسى الجملة التي كانت ترددها دائماً “عاد الهدوء إلى شوارع القاهرة” وهي تدرك جيداً أن هذه الشوارع تموج بمئات الآلاف من المتظاهرين، فلا غرابة أن تشعر بالغصّة لأنها تحولت إلى أداة للكذب على المواطنين. عشرات من قصص التهويل والتهوين، فالمئات من المتظاهرين ممكن أن يصبحوا آلافاً مؤلفة والعكس صحيح، وقد وصل الاستخفاف بالناس أن كاميرات الإعلام الرسمي لم ترَ من المليون متظاهر في ميدان التحرير إلا “400” مواطناً، بينما “كانت ترى السمك في نهر النيل يتراقص ويكاد يهتف تأييداً لمبارك”!

إثارة الذعر
تعمد السلطة المستبدة إلى ترويع الناس وإثارة فزعهم بمختلف الوسائل الممكنة من بينها الترويج لوجود أناس لهجتهم غير مصرية أو أجانب يتحدثون الإنكليزية أو عناصر شغب يحملون كرات نارية وهم في طريقهم إلى ميدان التحرير. كما يلجأ الإعلام إلى المبالغة في إظهار الإنفلات الأمني وتصوير أعمال السلب والنهب والاغتصاب وتخريب الممتلكات العامة، وقد عزز المخرج هذه الأعمال الترويعية المفزعة بالأدلة البصرية مثل تحطيم مترو الأنفاق، وسرقة المتحف المصري، وتعطيل البنوك لكي يوحوا للناس بأن مصر قد غرقت في الفوضى، وأن البلطجية قد بسطوا نفوذهم على أزقة القاهرة وشوارعها في رسالة واضحة يقولون فيها إما نحن أو هذه الفوضى العارمة التي ترونها أمامكم. لا يقتصر الترويع على الجانب الأمني فقط، وإنما يتعداه إلى بث المخاوف الاقتصادية عن إفلاس مصر، وغياب السلع الإستراتيجية وما إلى ذلك من مصائب ومحن تنتظر المصريين جميعاً.

كامل المقال