فيلم وثائقي حول قاعة “الكوليزي” بمراكش

أحمد بوغابة / المغرب
لا يتناول هذا الفيلم الوثائقي قصة قاعة “الكوليزي” بمعزل عن محيطها أو مكتفيا فقط بتاريخها الخاص الضيق والمُغلق في سنة تشييدها وعدد مقاعدها وأنواع الأفلام التي تعرضها بل أيضا وأساسا في علاقتها بأصحابها والعاملين فيها وموقعها في الفرجة السينمائية بالمدينة وكيف صارعت من أجل البقاء والاستمرار في آن واحد، ومن خلالها العلاقة الإنسانية التي تشكلت بين من يسيرها، مالكها والمستخدمين، وكيف أصبحت “فردا” من العائلة يتم الاهتمام بها كاهتمام بباقي الأعضاء وحاضرة في الجلسات الخاصة وعند موائد الأكل وكأنها تشاركهم في مناقشة همومها اليومية وأن لها حق الكلمة في تحديد مصيرها.
ولا نعتقد بأن الحوار الذي كان يدور حول القاعة بين من يسيرها إداريا وتقنيا مجرد سيناريو مخطط له بشكل مسبق في مجمله لأهداف التصوير فقط وإنما تحس أحيانا كثيرة بعفويته بحيث تركت مخرجة الفيلم إيفا برطوان Eva Bertoin  حرية القول بينهم وكأنها – ربما –  لم تخبرهم بأنها تصورهم حتى يحتفظون بتلقائيتهم إلا حين تكون الأسئلة موجهة في صيغة حوار واضح لرصد الحقائق التاريخية بكل مسؤولية.
ينبني الفيلم على ثلاثة أبعاد تخدم كلها العنوان المركزي المتجسد في القاعة السينمائية “الكوليزي” كغاية وسبب  في ذات الوقت للحديث عن السينما في مراكش وبذلك تحولت إلى مبتدأ الموضوع وخبره.

المنتجة ماري غوتمان

وقد وظفت المخرجة الأبعاد الثلاثة بذكاء فني وحس ثقافي ببعد سوسيولوجي حتى لا نجد أنفسنا نشاهد روبورطاجا إخباريا تقليديا ومُملا فنغادر أمكنتنا بسرعة خاصة في مثل هذه المواضيع المرتبطة بأمكنة مغلقة. لقد أدخلتنا إلى القاعة مرارا وأخرجتنا منها تكرارا بحب وعشق المعرفة السينمائية إلى حد دفعتنا إلى التعاطف المُطلق مع أصحابها والعاملين فيها ونصفق لكل من قدم العون لها من طرف الخواص وبعض الشخصيات من المدنية من المغاربة وأيضا من الأجانب المقيمين بها.
البعد الأول الذي بدأت به مخرجة الفيلم صورها الأولى تحيلنا إلى بدايات السينما حيث زوايا الشاشة غير قائمة وكأنها أفلام الهواة بترافلينغ عفوي يشوبها التقطيع والخلل في التقاطها لندرك بعد وهلة قصيرة أنها أيضا إحالة لأفلام السياح لمعالم مدينة مراكش السياحية من موقع إحدى الحافلات، يتأكد ذلك من خلال التعليق المُصاحب voix-off الذي يدعوهم بشكل غير مباشر لتجاوز العين السياحية المحضة لاكتشاف العناصر الحداثية في حياة المغاربة منها السينما. ستعود بنا مرارا في الفيلم لمثل هذه اللقطات الناقدة للنظرة السياحية عندما تتقدم في حكي تاريخ قاعة “الكوليزي” وأن المغاربة عرفوا الفرجة السينمائية في أوائل ظهور السينما وخاصة حين تحدث الحاج سعيد العيادي عن السينما بحكمة الرجل المسن والمجرب على أنها مدرسة لتعليم الحب الحقيقي والعطف والسلوك الحسن وممارسة الخير تُجاه الفقراء والمحتاجين وأنها “مفتاح كل خير”. لقد اشترى الحاج سعيد العيادي قاعة “الكوليزي” في منتصف السبعينات من القرن الماضي وذلك في إطار سياسة المَغْرَبَة التي كانت الدولة المغربية قد سنتها حينها. واستمر في حرص على متابعة دقائق “حياتها” الناجحة والمتعثرة ولو من بعيد من خلال أسرته كما يقول في الفيلم.
أما البعد الثاني فتمثل في العائلة الشابة العيادي نفسها (الزوجان محمد ومنية) التي ارتبط إسمها بقاعة “الكوليزي” إلى حد أن العائلة تعتبر قضية القاعة هي قضيتها الشخصية وجزء من مصيرها بعد أن حملا معا مشعلها خاصة بعد أن فقدت جزء من معالمها التاريخية التي ورثته في مراكش. وعايشنا معهما في الفيلم موقع القاعة ومشاكلها وأنها تشكل جزء من حياتهما اليومية، كل واحد في إطار مهمته وبالإمكانيات التي يشتغل بها.
وحتى العاملين من منظفين وتقنيين لهم مكانتهم في إدارة القاعة لكونهم يشكلون جزء من تاريخها خاصة بوشعيب غريب (التقني) وعائشة أيت بلخير (المضيفة) اللذين بدآ حياتهما المهنية في هذه القاعة منذ سن مبكر جدا وأسسا أسرهما بفضل عملهما بها وهو ما ستعرفنا عليه المخرجة ضمن سيرورة الفيلم.
سنكتشف بأن الفضل يرجع إلى التقني بوشعيب غريب في الحفاظ على القاعة واستمراريتها حيث يعتبرها “زوجته الثانية” ويَكٍّنُ لها حبا مثاليا لأنها علمته كل شيء هو القادم من البادية في سن مبكر جدا بدون تعليم.
كما اكتشفنا أيضا أن محمد العيادي وزوجته مُنية جاءا إلى السينما من مرافق مهنية بعيدة عن السينما ولم يكن لهما إلماما بقواعد تسيير قاعة سينمائية وإدارتها لولا السيد بوشعيب إلا أنهما أصبحا الآن من المحترفين في المغرب.
البعد الثالث والأخير الذي أسست به المخرجة فيلمها يضع قاعة “الكوليزي” ضمن خريطة القاعات الموجودة أو التي اندثرت بمدينة مراكش إلى جانب المركب السينمائي “ميكارما” الذي شُيد حديثا وكذا مدرسة الفنون السمعية-البصرية دون أن تغفل المهرجان الدولي للفيلم بمراكش.
وعليه، فالقاعة الموجودة في قلب المدينة هي قلب التاريخ السينمائي للمدينة نفسها ومتنفسها وأنه يرجع لها الفضل في خلق الديناميكية حولها بما تعرفه المدينة من الأنشطة المُشار إليها قبل قليل بحيث كانت هي القاعة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش عند تأسيسه وأنها ترتبط بشرايين العشق السينمائي مع الطلبة في الجامعات والمدرسة المتخصصة في التكوين السينمائي ومازالت تُعتبر العمق الاستراتيجي للمهرجان الدولي.

قاعة الكوليزي

وتكمن قوة هذا الفيلم الوثائقي أيضا، كما سبق القول في بداية النص، تبيان العلاقة الجغرافية للقاعة بالمدينة من وجهة نظر ثقافية شاملة وأن مسيريها لم يكونوا قابعين داخلها وراء مكاتبهم وكراسيهم يندبون حظهم لما آلت إليه الوضعية  في الفرجة السينمائية بقدر ما تبعت خطواتهم خارجها و”نضالهم” لاستقطاب الجمهور بالذهاب إليهم وخلق لهم التشويق السينمائي بتنظيم العروض الخاصة ضمن احتفاليات سينمائية حيث كانت مخرجة الفيلم مع الموعد بالعروض الخاصة بخمسينية السينما المغربية.
لم يخف محمد العيادي استياءه من المركب السينمائي “ميكاراما” بمراكش ـ دون أن يذكره بالإسم ـ حيث قال بأنه يؤمن بكون تعدد القاعات السينمائية بالمدينة يساعد على وجود جمهور واسع لكنه انتقد غياب التصرفات غير احترافية من لدن “الخصم” الذي يفرض على الموزعين وأصحاب الأفلام بعدم توزيعها في قاعات أخرى دون قاعاته (ما دام السيد محمد العيادي لم يذكر في تصريحه المركب المذكور فقد ركبت المخرجة واجهة المركب في اللقطة عندما كان يتحدث عن غياب المنافسة الشريفة كإحالة ليفهم الفاهم بالغمزة).
فيلم يحكي إذن قصة قاعة سينمائية وأصحابها والعاملين فيها في علاقة بتاريخ القاعات السينمائية الأخرى بالمدينة والفضاء الثقافي السينمائي الممتد إلى الجمهور والمدرسة والجامعة والمؤسسات الخيرية والمهرجان الدولي وغيرها للحديث عن السينما نفسها كفن وثقافة هي جزء من تشكل المجتمع المعاصر وذلك خلال مدة 52 دقيقة و20 ثانية.        
وساهمت في إنتاجه الشركة الفرنسية Méroé Films  لصاحبتها السيدة ماري غوتمان Marie-Pierre Gutmann. فقد اشتغلت هذه الأخيرة في المغرب لمدة سنوات كمسؤولة على قسم السينما والسمعي-البصري بمصلحة التعاون الثقافي في السفارة الفرنسية بالرباط، وقدمت خلال مدة إقامتها دعما مهما للسينما المغربية خاصة في مجال التكوين، ويمكننا أن نجزم أن ما تحقق في السينما المغربية حاليا فيها بصمات هذه السيدة التي وضعتها قبل عقد من الآن. وكما لها إلمام بحيثيات السينما المغربية وخفاياها بحكم مهنتها ومسؤوليتها التي تحملتها في السفارة الفرنسية. ومازالت مخلصة للمغرب بحيث تُدَرٍّسُ شعبة الإنتاج بالمدرسة العليا للفنون البصرية بمراكش.