“قيمتي 50 خروفا”.. المرأة الأفغانية بضاعة تبادلية

يحوز جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان “غوتنبورغ”

لم تكن مفاجئة فوز “قيمتي 50 خروفا” بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان غوتنبورغ السينمائي، لا لذهابه في بحثه عن واقع المرأة الأفغانية اليوم، وحسب، بل ولقوة الصدمة التي يولدها في داخل متلقيه وهو يشاهد أمامه نماذج لعلاقات اجتماعية واقتصادية تعود إلى المراحل الأولى من تاريخ تشكل المجتمعات البشرية، ونعني بها مرحلة التبادل السلعي، والسلعة المطروحة للتبادل في أسواق مزار شريف في القرن الـ21 هما: صبيتان أفغانيتان، حدد أولياء أمورهن (مالكيهما) وظيفيتهن وقيمتهن، حسب مصالحهم وانسجاما مع الأعراف القبلية المتبعة عندهم، بعدة خراف لمن يريد اتخاذهن أزواجا لهم.
 قصة الصبيتان “فرزانا” و”صابرة” سجلتها كاميرا المخرجة “نيما سرفستاني”، من لحظة هروب “صابرة” من بيت زوجها المسنّ الذي كان يعذبها، ولجوئها إلى مركز اجتماعي لحماية المرأة.
 بإختيارها لهذا المكان أزاحت “سرفستاني” خوفا من السقوط في فخ المباشرية والفجاجة الدعائية التي يسقط فيها كثر عند تناولهم حال المرأة في مجتمعات الشرق/إسلامي.
 توازن المادة التسجيلية وتركزيها المدروس على الحالة المطروحة للبحث البصري التسجيلي إرتقى بشغلها إلى مستوى جيد، وخدم غايتها في الكشف عن علاقات اجتماعية لا يمكن السكوت عنها، عبر توفيرها المصداقية الضرورية لقبول قصتها والتفاعل معها، مع ابقاء قوة الصدمة حاضرا، من خلال قوة تناقض الواقع ذاته؛ فبمقدار ترسخ وهيمنة العادات الاجتماعية التي تسمح باستغلال المرأة، تظهر قوة أخرى من داخل المجتمع المتشدد نفسه والمتشكك في أي وجود للمؤسسات غير الدينية، كمنظمات المجتمع المدني، تعمل على وضع حدّ لها أو على الأقل التقليل من أضرارها عبر تشجيع المجتمع الحاضن على قبول وجودها فيه والتفاعل الايجابي معها.

 قصة الصبية الهاربة “صابرة” (16 سنة) سارت بموازاة حكاية “فرزانا” (12 سنة) التي كانت بمثابة أخت لها، ومعها صرنا نتابع قصيتهما سوية؛ فـ”صابرة”، كانت في بيت الحماية، عندما جاءت والدتها بصحبة زوجها خالق لأخذها إلى منزلهم وكان عليهما توفير شروط حمايتها لمسؤولي المركز قبل كل شيء؛ من خلال وجودها في المركز فرشت “سرفستاني” أرضية جيدة لمادتها حين تركت للصبية والموظفين حرية الكلام ومن خلاله عرفنا أنها يتيمة الأب، (قتل والدها في الحرب؟) وكان عمرها سبع سنوات وفي العاشرة باعها أقاربها إلى رجل مسن مقابل كمية من المال.

 أكثر ما يوجع في قصتها أنها أمية، ولشرح ما كانت تحسه به من عذاب على يد زوجها رسمته مرة على شكل نقاط سوداء وقالت أن أمها ستفهم كلامها حينما تصلها الورقة و”تقرأها”.
 ومن كلامها البسيط أمام الكاميرا عرفنا الكثير عن عالم المرأة الأفغانية: أميّة، مستشرية، واستغلال ذكوري كبير، جوع، وحرب.. عوامل كل واحد منها يكفي لخلق آلاف من قصص العذاب البشري فكيف لو اجتمعت كلها في بقعة جغرافية وفي شروط تاريخية محددة.
 لقد قالت “صابرة” شيئا عن تجربتها “لم يكن لي حق الاعتراض والرأي، كان زوجي يضربني بشدة، لقد أسقَطَت شدة ضرباته جنيني الأول وأنا في الثالثة عشر من العمر، ثم الثاني والثالث وكل اعتراضاتي وبكائي عليهم وعلى حالي كان يقابله قول واحد: لقد اشتريتك ولي حق التصرف بك كما أشاء!.
زوج أمها “خالق” أقنع الجهات الرسمية بأخذها معهم إلى بيت ليس فيه من مواصفات البيت شيء سوى جدران طينية مهترئة، كان طيبا ولكنه كان متورطا في اتفاق مع أحد رجال طالبان باع بموجبه ابنته “فرزانا” مقابل خمسين (50) خروفا وكان عليه تسليمها له سريعا، رغم كل محاولاته اليائسة في تمديد فترة انتظار زواجها، فهي مازالت طفلة ولا يريد تكرار تجربة “صابرة” معها.
في “قيمتي 50 خروفا” تتلاحق الأحداث بشكل درامي، فقوة حضور الكاميرا فيه ورصدها لتفاصيل الحكاية جعلت الوثائقي يأخذ طابعا دراميا خاصة وأن انتقالات أحداثه وتطورها كانت تسجل وفق تتابع زمني وثائقي/درامي ولهذا كان في الشريط  سرد كثير سلس، عرفت “سرفستاني” كيف توصله إلينا فهي ودون شك، حكّائة وثائقية ماهرة، تعرف كيف تمسك بخيوط قصتها وتجبرنا على متابعتها ولهذا كنا متحمسين لمعرفة ما سيؤل إليه مصير الشابتين ولمن ستكون الغلبة: للمحكمة ومركز الحماية، الذي كان يريد احضار زوج “صابرة” أمام القضاء وتوقيعه على أوراق طلاق “زوجته” منه، أم لطالبان وقوة وجودها المسلح؟ خاصة والزوج أحد المتعاونين معها.
على مستوى آخر، كان الترقب يشتد عندما تعود كاميرتها لإكمال حكاية “فرزانا” ومطالبة مشتريها ببضاعته وموقف الأب المعدم منها، فلا مال عنده ليرجعه إلى المشتري، وفرص حصوله على عمل تكاد تكون معدومة، ولهذا كانت فرصة التخلص من التزامه تتضائل كل يوم وفي النهاية استسلم وسلم ابنته لمشتريها، تاركا إياها في مواجه مصير يشبه ذاك الذي عاشته “صابرة” ومازالت تعاني منه، وهذا ما كان يعذبه.

 في هذا المناخ المتشابك والحزين والمنقول بكاميرا ذكية رصدت كل تفاصيل المشهد المختار كنا نتابع حكاية انتمى “أبطالها” إلى عالم بعيد حاولت السينما تقريبه إلينا قدر المستطاع، والمثير أن فيلم “قيمتي 50 خروفا” وهو من فئة المتوسط، تمكن رغم ذلك من تقديم بانوراما بصرية لأفغانستان والمنطقة المجاورة لها من خلال قصص بدت لنا في أول الأمر شخصية، ومستقلة عما يحيط بها، ولكننا وتدريجيا أدركنا أنها متصلة بقوة بكل تفاعلات المكان ولهذا جرتنا معها لنتشارك سوية في فهم هذا الواقع أو حتى الرغبة في تغيره، مع أن الفيلم لم يكن معنيا بهذا القدر من الوضوح بهذة الدعوة الأخيرة! ولكنه، وفي النهاية، حفز فينا الرغبة في طرح أسئلة عن واقع المرأة في هذه البلدان، وكيف تفاعلت الظروف الاجتماعية والعادات القبلية وحروبها المستمرة في خلق مناخ ملائم لتحجيم دورها وتحولها إلى “بضاعة” قابلة للتبادل.