“كان أرحم لو قتلني”

 

ندى الأزهري – بنغلاديش

 

ثمة بلدان لا إنتاج سينمائي فيها وحين يحصل وينتج فيلم فيها، تتلقّفه المهرجانات بفضول واهتمام، وحين يكون مشغولا بعناية تفتخر مهرجانات بمشاركته فيها. هذا ما حصل مع فيلم من بنغلاديش، فبعد عرضه في مهرجان ” سياتل” و في” داكا” العاصمة البنغالية ضمن مهرجانها السينمائي الدولي ونيله تنويها خاصا من لجنة تحكيم سينما المرأة فيه، ها هو ” قيد البناء” يعرض في المسابقة الرسمية “لمهرجان فزول الدولي للفيلم الآسيوي” في فرنسا، في  أول عرض أوربي له، ليحصد جائزة لجنة التحكيم الدولية في فزول و تنويها خاصا من قسم” جائزة النقاد”.
“Under Construction” فيلم مثير للاهتمام. عدا عن كون مخرجته “رُبيْعة حسين” إحدى النساء النادرات اللواتي يعملن بالسينما في بنغلاديش، فهو عمل ممتع وعلى مستوى فني لا يمكن له إلا أن يجذب الانتباه. إنه لوحة مرسومة برهافة لامرأة تحاول إثبات ذاتها في أداء غني ومثير للمشاعر.

 

“رؤية” ( شاهنا غوسوامي) شابة مسلمة من الطبقة الوسطى تكافح لتجد مكانا لها في  مدينة كبيرة من مدن جنوب شرق آسيا، في داكا التي يجتاحها العمران أكثر فأكثر، فلا شارع  إلا وفيه بناية قيد التعمير، المدينة كلها قيد البناء و”رؤية” تحاول أن تجد مكانها في المجتمع و تحارب لتبني نفسها من جديد. إنها كمدينتها قيد التأسيس.
 هي ممثلة مسرحية تؤدي نفس الدور من سنوات. ليس أي دور!  إنه شخصية “نانديني” المرأة البنغالية التقليدية التي تشكل الشخصية المحورية في مسرحية “زهرة الدفلى الحمراء” للشاعر البنغالي الأسطورة ( من ولاية البنغال الغربي التابعة للهند) رابيندرانات طاغور الذي كتبها عام 1924. بعد أن استبدلت بممثلة أخرى أكثر شبابا منها لتأدية نفس الدور،  تقرر “رؤية” إعادة دراسة الشخصية وتقديمها في إطار جديد. تبتكر “نانديني” بتطلعات معاصرة وتتحرك في فضاء معاصر، وليس أفضل من مكان يبرز شروط العمل القاسية للمرأة البنغالية، مصانع النسيج المتكاثرة في بنغلادش والتي تزود العالم بالألبسة الجاهزة بأسعار زهيدة.

شخصية “رؤية” في الفيلم تجسيد للمرأة “الجديدة” في محيط تقليدي لا يسعها فيه التأكيد على فرديتها دون إحاطتها بنظرات اللوم أو الاستنكار أو الرفض. تقرر “ربيعة حسين” مخرجة الفيلم وكاتبته في الآن ذاته، كنوع من التوازن وربما المقارنة، خلق شخصية على تناقض مع شخصية “رؤية” التي تضع في أولوية اهتماماتها هويتها، مشاعرها، رغباتها الجنسية… إنها خادمتها وجليستها ” مونيا”، تعرف تلك ما تريد وما لا تريد، ليست بصدد البحث عن ذاتها، تبدو أكثر سعادة ورضى بالحياة التي اختارتها، بل اختارت الجزء الهام فيها وهو حبيبها الذي سيصبح زوجها. إنها تطاوعه في ترك العمل وفي إنجاب الاطفال، لا تبدو ” أنانية” كما يمكن أن تُتهم به امرأة مثل “رؤية” من قبل زوجها رجل الأعمال. فتلك ضمن سعيها المُلحّ لتحقيق نفسها تؤجل الإنجاب وتهمل أحيانا بيتها، إنها امرأة تفضّل عملها على أي شيء آخر.

” ربيعة حسين” تحاول عبر بطلتها إعادة قراءة مسرحية “طاغور” لتنسجم مع عالمها المعاصر. إنها المسرحية الأخيرة التي كتبها هذا الشاعر الكبير وفيها نقد للحداثة وللتصنيع عن عمال  بلا أسماء وليسوا سوى أرقاما يحفرون المناجم. تقول المخرجة في حديث لجريدة بنغالية أنها “أرادت أن تربط هذه المسرحية التي تأثرت بها، بالحياة المعاصرة لكنها تحولت لقصة امرأة فيما بعد”.

 

يبدو هذا الربط والتحول مرتبكا في الفيلم ومفتعلا أحيانا، بيد أنه لا يغرق الفيلم تماما.. كان ربما أجدى للسيناريو الاكتفاء بقصة المرأة والابتعاد عن هذه الرمزية التي عقدت الفيلم، أو التعامل معها بأسلوب أبسط.  فإن كان إصرار المؤلفة المخرجة على الربط بين إعادة قراءة شخصية “نانديني” وبين إعادة قراءة التقاليد هو فكرة مبتكرة إلا أنها لم تنجح  تماما باستخدامها كما نجحت بالتعبير عن حياة بطلتها “رؤية”.

 

“رُبيّعَة حسين” درست دراسات نسوية في الولايات المتحدة الأميركية وهي في السينما تعتمد على تجربتها الخاصة فلا مدارس للسينما في بنغلاديش. “مِهْرجان”  الفيلم الأول الذي أخرجته عام  2011، هو فيلم ضد الحروب ويدين القوانين الذكورية من وجهة نظر أنثوية، وعلى ما قرأنا أنه سحب من الشاشات في بلدها أسبوع فقط بعد عرضه!  فما سيكون مصير فيلمها الثاني هذا خارج إطار المهرجانات الدولية؟
 من الصعب لأفلام لا رقص فيها ولا غناء على الطريقة البوليوودية أن تشق طريقها للصالات وللجمهور في بنغلاديش فكيف لو كان نسويا أيضا؟!

كان  أرحم لي لو قتلني

Bishkanta “الشوكة السامة”، فيلم آخر عن النساء من بنغلاديش ولكنه وثائقي هذه المرة حققته المخرجة الشابة “فرزانة بوبي”. في هذا الفيلم الأول لمخرجته، التي كانت اول امرأة في بنغلاديش تعمل كمديرة تصوير منذ عشر سنوات، شهادات ثلاث نساء خرجن أخيرا من الصمت ليسردن الألم والعار الذي خيم على حياتهن منذ حرب التحرير في بلادهن وحتى اليوم. نحن في بنغلاديش عام 1971 وثمة حرب معلنة ضد المحتل الباكستاني، النساء يتعرضن للاغتصاب والرجال للقتل والعوائل للتهجير… معاناة أولئك النسوة لم تنته بانتهاء الحرب إذ ثمة حروب أخرى بانتظارهن! لقد كانت لهن تسمية خاصة وكان عليهن محاربة المجتمع بأكمله لنيل الاحترام بعد تعرضهن للاغتصاب.

“رانجيتا” تلوم النظام الذكوري، و”حليمة” التي اعتقلت وعذبت خلال الحرب هي اليوم مدافعة شرسة عن الحرية وهي تلوم الدولة “الحرب بدأت عام 1971  ولم تنته بعد بالنسبة لي، كفاحي مازال مستمرا”، أما “راما” التي عُذبت من قبل جيرانها الذين تعاونوا مع الجيش المحتل فهي”ترفض العنف وتحكي الألم والحزن اللذين تضاعفا بعد الحرب”. كلهن يجمعن على أن “الاغتصاب ضياع العزة” وأنهن يخفين أحيانا ما حصل.. “أولادي لا يعلمون سأؤذيهم لو حكيت” تعترف إحداهن، وأن ” الموت كان أرحم”… لمساعدتهن، وعدت الدولة من يتزوجهن بمكانة خاصة وبمنحة “فلا أحد كان ليتزوجنا لو عرفوا بما جرى لنا”!

مضت ثلاث وأربعون سنة على انتهاء الحرب، وهاهي أخيرا شهادات جريئة تضيء جزءا مجهولا أو مغفلا من تاريخ بنغلاديش.