كان : البيت، العيد، الحفل… وأشياء أخرى

ما المقصود بـ “كان”؟
طبعاً الإجابة السريعة هي أنه “أكبر” أو “أهم” أو “أفضل” مهرجان سينمائي في العالم. لكن الإجابة المختلفة الأطول والأكثر شمولاً ولا يمكن تلخيصها بأفعال التفضيل.
بعد 37 سنة من حضور كان يداهمني حب معرفة ما هو هذا العالم الغريب وكيف تألّف. ما هي تقاسيمه. لماذا هو مختلف. وعندما أذهب قبل يومين من بدء المهرجان فيما يبدو عطلة صغيرة تشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة أتذكر الوجوه التي التقيت بها وغابت بعد ذلك. هذا المخرج التقيته عند هذه الناصية. والناقد الفلاني كان يصرخ في وجه النادل في هذا المقهى. والمخرجة التسجيلية دخلت هذا الفندق جارّة وراءها حقيبتها. أما ذلك المنتج فقد أقام حفلته السنوية في هذا المطعم. وهناك كانت توجد صالة توقّفت عن العروض. وهل تذكر ذلك المحل الذي كان يبيع الصحف؟ أو تلك الشقّة المطلّة على البحر التي سكنتها لعامين متتاليين؟
الأفلام والمخرجون يتغيّرون وسأكون كاذباً إذا قلت أنني متأقلم تماماً مع كل الأسماء الجديدة وما يطرحونه من سينما. أيام ما بدأت الحضور كان الفن السينمائي محجوزا لفيلليني وأنطونيوني وإيتوري سكولا وكارلوس ساورا وميغويل ليتين وألان باركر وكن راسل وإريك رومير وشيام بنغال، هال أشبي، بيتر هاندكي، كارولي ماك، إرمانو أولمي، ناغيزا أوشيما وأكيرا كوروساوا وأترابهم من أساتذة السينما. أيام كان برغمن وتاركوفسكي  وصلاح أبو سيف وساتياجت راي  وكوزنتسيف وبريسون  ومرغريت فون تروتا وآرثر بن ولا زالوا ينجزون أفلاماً مبهرة تتدخل في قناعاتنا وتخلق فينا حب الذوبان في العالم المعروض.
بطريقة ما، أشعر أنني خنتهم إذ استمرّيت حيّاً وهم مضوا. طبعاً أعرف أن البعض يعتبر أن هذا كلام غير واقعي أو غير منطقي أو غير أي شيء آخر، لكن إذا ما كان هؤلاء المعلّمين كانوا جزءاً من سنّة الحياة، ما الذي بقي من الحياة ذاتها حين رحلوا؟
السينما تتبدّل طبعاً وما كان مرفوضاً في الماضي (مثل سينما الأبعاد الثلاثة) يبدو اليوم كما لو كان خلاصاً لمأزق سينمائي ما. تتبدّل والمخرجون  يتبدّلون كما المفاهيم والأذواق. وكلّما تبدّلت كلما وسعت المسافة بين ما كانت عليه السينما، فناً ومشاغل وأساليب عمل وبين ما هي عليه اليوم. بين ما كان عليه النقاد أنفسهم وما هم عليه اليوم.
السؤال هو إذا ما كنّا، نحن جيل الوسط ما بين الأمس واليوم، قادرين على تقدير الحظوة التي نعيشها: معرفتنا بالماضي ووجودنا في الحاضر. أم هل أن كثر منا لديه حاجزاً خفياً  يفصل بينه وبين الأمس خوفاً من الشعور بالنوستالجيا أو الأسى.
مهرجان “كان” لا يبدو أنه يتأثّر بتعداد السنين. إنه لا يزال العيد. البيت. الفردوس. الحفل. اللقاء. المهرجان. لا يزال ما  نقرر جميعاً القدوم إليه ودخوله مرّة بعد مرّة.  التجمّع عند أسفل الدرج ثم الانطلاق في جحافل مجنونة كما لو كانت تشترك في مشهد من “ظل المحارب” أو “ليننغراد” أو “مغامرات عنتر وعبلة”.

من العام 1974 انقطعت مرّة واحدة فقط عن الحضور وكان ذلك سنة 2009. غضبت لذلك، لكن لم يكن باليد حيلة فكل مواعيد العمل الفاصلة بين النجاح والفشل، الحصول على أعمال جديدة أولا تجمّعت في ذلك الأسبوع وحالت دون ركوب تلك الطائرة إلى مطار نيس. لكني سريعاً ما رضيت ولكل أمر مرّته الأولى علي أي حال. في الحقيقة الغياب عن “كان” لسنة واحدة كان مفيداً من حيث أنني أخذت مسافة من الحدث الأهم وأخذت أفكّر في السبب الذي من أجله يحظى مهرجان “كان” بكل ذلك الاحتفاء والمكانة. بالشهرة والإقبال الكاسح من قبل الإعلاميين. بالإعجاب الكبير من قبل السينمائيين.
 
هناك مكوّنات لا يملكها أي مهرجان آخر وتتدخل فيها حتى الطريقة التي تتوزّع فيها أكشاك الصحف على رصيف الكوت دازور. الزحمة التي تشتد عند مداخل الفنادق. المطاعم المنتشرة على الشواطئ وتلك الموزّعة في كل الأرجاء. تلك الطرق الضيقة المخفية في المدينة العتيقة، الجو حين تكون السماء صافية والجو حين تكون ماطرة.
هناك شيء في التجمّع الكبير عند أسفل السلم العريض لصالة ديبوسي، أو الصف الطويل قبل النزول إلى صالة  نوغا هلتون. شيء في المناقشات التي تدور بين المتجمّعين. في حقيقة أن ذلك التجمّع الذي يسبق كل عرض بنصف ساعة  هي المرّة الوحيدة التي يتحدّث فيها معظم الناس لبعضهم البعض عما شاهدوه. حال الدخول إلى الصالة يتفرّق أولئك الذين كانوا يقفون معاً ولا يعد بالإمكان استكمال الحديث.
وجدت تلك الوقفة من الشعائر الاجتماعية الفريدة أينما كان. هناك صفوف أيضاً في برلين وفينيسيا وتورنتو وربما في كل مهرجان آخر، لكن لا شيء مثل ذلك التجمّع الذي في كان.

هناك بالطبع ما هو أكثر وأكبر من ذلك. هناك حقيقة أن القائمين على هذا المهرجان يدركون ما لا يدركه الآخرون من أسرار تكمن في الأسلوب والنوعية.  في الأساس، ليس هناك من شيء في فرنسا الا وله أسلوب خاص يختلف عن مثيله في أي مكان. بما في ذلك مدينة “كان” ذاتها. هل تشبهها مدينة أخرى حول العالم؟  ساحل بنحو نصف كيلومتر طولاً وأقل من ذلك بكثير عرضاً و…. هذا كل شيء. فوقه ينتشر ليل نهار المنتجون والموزّعون والسينمائيون والعاطلون عن العمل والحالمون والواعدون والموعودون ورؤساء المهرجانات والموظّفون الملتحقون بالمكاتب والأسواق والستاندات المختلفة، ثم -فوقهم- أكثر من أربعة آلاف إعلامي من ناقد إلى مصور مروراً بالصحافيين الباحثين عن الخبر أو الحفلة الليلية.
أين تجد كل ذلك فوق رقعة صغيرة؟
وماذا عن العازفين والرسّامين والنحاتين وفنانو المايم والمهرّجون والشحّاذون؟ باتوا جميعاً جزءاً من العالم المتحرك المؤلّف من قطعة موزاييك تكاد ترفض إلا أن تكون فوضوية- رغم ذلك هي جزء من النظام. لا تستطيع الا أن تكون كذلك.
لحظة تبتعد
خلال السنوات الست والثلاثين الماضية شاهدت مئات الوجوه التي مرّت في سماء كان. معظمها لصحافيين ولنقاد لا أعرف أسماءهم، فقط سحنات وجوههم. بعضهم غاب منذ سنوات، بعيدة أو قريبة.  كان هناك الكثير من النقاد المسنين أساساً الذين، ككل ناقد يستأهل اللقب، ليس لديهم في كل هذا العالم سوى المشاهدة والكتابة. أمر يجعلني أتساءل عن العمر الذي نقضيه في العتمة محاولين فهم العالم من خلال العالم الافتراضي الذي أدمنّاه.
الوجوه تتغيّر في كل مكان وعلى الدوام. بل يكفي أن تترك مكانك المفضّل في قاعة العروض الكبرى أو في أي صالة أخرى وتجلس في مكان جديد. فعلت ذلك مرّة واحدة فشعرت كما لو أنه العام الأول بالنسبة لي. لا أدري إذا ما كان عدم إعجابي بالفيلم ناتج عن تغيير تلك العادة. لم أجرأ على الكتابة عنه.
بيد أن هناك أشياء جميلة أخرى في الحياة. لكنني إذ جرّبت معظمها، أجد أن السينما لا تزال هي الحب الأول. بل هي الحب الأول فعلاً، منذ أن شاهدت  He Walked by Night