“كمال جنبلاط .. الشاهد والشهادة”

د. أمل الجمل

 

هادي زكاك مخرج لبناني له مشروع سينمائي يعمل علي تطويره باستمرار، يعود للماضي كثيراً ليتمكّن من قراءة الحاضر ويستفيد من دروسه، يتسلّح بالإرادة والإخلاص لعمله، يختبر أموراً فنية مع كل عمل جديد له ليمنح مشروعه الخصوبة والقوة. الجزيرة الوثائقية التقته لتحاوره بشأن آخر أفلامه “كمال جنبلاط.. الشاهد والشهادة”.

 

• كمال جنبلاط صدر عنه العديد من الكتب، وصُنعت بشأنه أفلاما منها فيلم مارون بغدادي “تحية إلى كمال جنبلاط”.. فلماذا فكرت بصناعة فيلم عنه؟ ثم، ألم تشعر بالقلق من المقارنة بين عملك والأعمال الأخرى؟

هادي: هناك كتب كثيرة عنه، وهو نفسه له العديد من الكتب، وإلى جانب فيلم مارون بغدادي هناك سلسة وثائقية في لبنان عن جنبلاط، وهناك كتاب “كمال جنبلاط الرجل والأسطورة” فأنا أثناء القراءة ومراجعة الأرشيف شعرت أنه هو أيضاً ممكن أن يحكي قصته بنفسه. كنت أفكر أن الفيلم لا يكون فقط عن كمال جنبلاط، ولكن أيضاً فيلماً لكمال جنبلاط.

• صحيح أثناء الفيلم كنت تأخذ جُملا من كتابات وآراء وأفكار كمال جنبلاط وتحاول أن تحكي من خلاله هو، مع ذلك كان إحساسي أنني أشاهد كمال جنبلاط بعيون هادي زكاك، فأنت اخترت جُملا وآراء بعينها دوناً عن جمل وأفكار أخرى؟

هادي: صحيح، لن أخفي حالي، لأني من خلاله كنت أحاول البحث عن صورة للرجل السياسي المثالي، والإنسان، من هنا كنت أنبش عن صورة له، وهو أيضاً عنده مكونات تعبر عن هواجسي وآرائي وقراءتي للحاضر، لأني لم أكن أرغب في كتابة فيلم عن الماضي، هو فيلم باستمرار عن الحاضر، وحتى في اختياري لجُمل له طوال مشواره السياسي كانت كما لو كان يقرأ حاضرنا سواء كان لبناني أو عربي.

• أنت مع فكرة “عدم تقديس التاريخ”، وكذلك عدم تقديس الشخصيات السياسية أو التاريخية والزعماء، فماذا عن مأزق عمل فيلم يتناول السيرة الذاتية لأحد الزعماء؟

هادي: هذه إشكالية كبيرة خاصة بالسيرة الذاتية، خصوصا في العالم العربي، وفيه جملة أتسلّح بها: “ما بدنا نحول التاريخ إلى أصنام”، وحتى ابنه وليد جنبلاط أيضاً حكي عن هذا، وبآخر عيد ميلاد له رفض أن يحضره حتى لا يتم تحويله إلى صنم. كان هناك هذا التحدي، كان هناك أيضاً رفاقه وهم الجهة المنتجة “رابطة أصدقاء كمال جنبلاط”، فعلاقتهم به علاقة وجدانية، فكيف يقدر الإنسان على أن يتعامل معها، ومن جهة ثانية؛ هناك كمال جنبلاط نفسه الذي لم يكن يقدس نفسه ولا كان عنده صورة الزعيم الذي يقدس صورته، وكان دائما يُعيد النظر، حتى بالفيلم في ظل الحرب الأهلية هناك تصريح له يقول: “يجب أن نعترف بأخطائنا”.. تصريح طليعي وقت أن بدأت الحرب وكان كل واحد يخرج بتصريح “أنا أدافع عن نفسي”، ثم فجأة يأتي أحد الزعماء ويقول: “يجب أن نعترف بأخطائنا.”
اليوم بعد ثلاثين سنة من الحرب القليل فقط من هؤلاء هو مَنْ يعترف بأخطائه، ولازال الكثير منهم يقول أنه خاض الحرب دفاعاً عن النفس. ثانياً؛ أعتقد أيضا أن الذي منعني من التقديس وجود ابنه وليد جنبلاط الذي يتميز بأنه تخلى عن هذه النظرة السائدة في مجتمعاتنا العربية التي تقدس الأب، تلك النظرة التي تمنع أن تقول عنه أي شيء سيء. بل، على العكس من ذلك، وليد بالفيلم يقول أشياء بها نقد مبطن. وأعتقد أن هذا الأمر ساعدني.

 • الفيلم تطغى عليه الإيجابيات، وتكاد تختفي السلبيات.. لماذا؟

هادي: الإيجابيات طاغية. هذا شيء لا أنكره، وأعتقد فيه سلبيات لم يكن أمامي فرصة كافية لأن أفوت فيها. لكن فيه سلبيات تعتمد على كيف نقرأ الفيلم، فهو مقسم بالتناوب بين فصل سياسي وفصل يتناول الجانب الروحي. في الفصول الروحانية نجد فلسفة عالية، بمعنى نكران الذات والتخطي والاقتراب من غاندي، أما في الناحية السياسية يكون فيه مرات دعوة لاستعمال العنف، وكمال جنبلاط نفسه في بعض المرات يُبرر استخدام العنف.

 • تناقض الشخصية..؟

هادي: يمكن أن يكون تناقض، وربما نجد لها تفسيرا آخر فعندما يقرر المرء أن يتحدث في السياسة وعندما يخوضها عمليا فإلى أي حد سيظل مثالياً.. وأعتقد هذه كانت مسيرة كمال جنبلاط، مسيرة مثل شد الحبل، في الحياة الروحانية فيه مثالية كبيرة، وحتى في الأيديولوجية السياسية فيه مثالية كبيرة، لكن وقت التطبيق لا يمكنك أن تظل بهذه المثالية.. وأذكر له جملة يقول فيها: “الأيديولوجيا تكون كتير سلمية، لكن التاريخ بيكون كتير عنيف”

• بالفيلم جُملة له يقول فيها: “العنف هو الحل”

 

المخرج اللبناني هادي زكّاك

هادي: نعم قالها عام 1958 وتم تطبيقها في عام 1975، وفيها جزء من الحقيقة فكيف تقدرين على تغيير الواقع إذا لم تستخدمي العنف، لكن لبنان أكثر بلد حتى استخدام العنف لا يؤدي إلى تغيير الواقع فيه.

 

• عندما بدأت تقرأ وتعمل على السيناريو الأول ما هو التصور الذي كان لديك؟

هادي: كان أول شيء يهمني أن أقدر على بناء فيلم يكون كمال جنبلاط هو الذي يحكي قصته، كان الأرشيف غير كافي لأنه لا يغطي كل المراحل، فكمال لم يكن يحكي عن الجانب الشخصي، ولا عن خصوصياته. وجدت مقابلة جيدة أجرتها الإعلامية المصرية ليلى رستم وكان فيها يحكي عن طفولته وعلاقته مع أمه، وفي مقابلة أخرى تحدث عن والده، وشاهدت الصحف، وقرأت كتبه السياسية وقصائده. كانت عملية تشبه “اللغز” أو معضلة، إذ كيف تقدر على جمع كل هذه القطع جنباً إلى جنب حتى يتكون نص متناسق. أما على صعيد الكتابة فكانت متعبة، لأني حاولت من خلالها أن أجعل المتلقي وكأنه يشاهد جنبلاط اليوم وهو الذي يُخبره بكل قصته.

• إذن، بدأت بقراءة الكتب، البحث عن الحوارات، ومراجعة كافة تفاصيل الأرشيف الصحفي، والاختيار من بينها، ثم حاولت تركيب قطع الفسيفساء..؟

هادي: هذا ما حدث. وفي نفس الوقت بدأت أجري حوارات مع الناس والأصدقاء وابنه، مع مراعاة أنني قررت أن يكون كمال جنبلاط الشخصية الرئيسية، أما باقي الشخصيات فنلتقي بها أثناء البحث لأن الفيلم سيكون بحث من مكان إلى مكان، وماذا تبقى من كمال جنبلاط ومن الأماكن.

• هل من البداية قررت وجود راوي  للأحداث؟

هادي: نعم، لأن هناك جُمل كثيرة لجنبلاط لم يقلها بصوته. طبعا كان حلمي أن أجد كل شيء بصوته، لكن لم يتحقق ذلك، ومن هنا بدأت تظهر مشكلة مَنْ سوف أختار؟ لأني لم أرد إنساناً يقلد صوته، وكنت أرغب في وجود ممثل صوته بعيد عن الشخصيات المعروفة في مجال الوثائقي، ومن هنا تم اختيار رجل مسرح هو رفعت طربيه، وقمنا بعمل جلسات عمل مطوّلة.

• ولماذا لم ترغب في ممثل يقلد صوت كمال جنبلاط؟

هادي: لأني في النهاية أصنع فيلماً وثائقياً، لذا رغبت في الحفاظ على الوثيقة كوثيقة، ولأن هناك بالفيلم صوت كمال جنبلاط. وإن كان المكتوب الذي أداه الممثل هو وثيقة.

• لكن أنت أعدت صياغة هذه الوثيقة، أليس كذلك؟

هادي: في بعض المرات نعم أعدت الصياغة.. لأن فيه جمل لو تم وضعها بشكل متتالي سيبدو المعنى غير مترابط، فتدخلت في الصياغة ليبدو السرد وكأنه نسق متكامل، لكن كل الخميرة من أفكار كمال جنبلاط، فأنا لم أقل شيئاً على لسانه، ومثلما تلاحظين أننا لا نرى ممثلاً بالفيلم، لم أحضر ممثل يشبهه، فقد استعنت بصورة أو بلقطات له.

• فيه لقطتين أريد سؤالك عنهما، الأولى فيه لقطة صورة له أعتقد أنك من خلال التقنية الحديثة في المونتاج نجحت في تحريك الصورة الثابتة فبدا كمال جنبلاط وكأنه يتحرك، وفيه لقطة لشخص بظهره، أعتقد أنك وظّفته للإيهام بأنه كمال جنبلاط أثناء السرد، ويظل بظهره الذي نراه في المرآة حتى يخرج من الكادر.. أليس كذلك؟

هادي: تمام. من بداية الفيلم نجد شخص بالمرسيدس ونرى تفاصيل منه، أو نلمحه وهو يمشي، هي لقطات أدائية، إيحائية، لأنه كان فيه تجنب للعناصر التي تذهب أكثر باتجاه الروائي ليبقى العمل كله أكثر وثائقية.

• الكاميرا وهى تصور ابنه وليد جنبلاط كانت متحركة حرة، لم تكن هناك كوادر منمقة أو إضاءة منضبطة، أو تلك الجماليات التي تعودنا عليها في أفلامك السابقة وخصوصا شريط “مرسيدس”، هل كان ذلك مقصوداً أم أن وليد جنبلاط كان على عجلة من أمره أثناء التصوير؟

هادي: كانت الكاميرا تلاحق وليد جنبلاط، وتطارده فنكتشف معه وهو يفتح باب، أو يفوت من غرفة إلى أخرى، أو يفتح صندوق، وهو أيضاً كان يتكلم بعفوية وكنت أريده كذلك، كنت أتجنب تصويره بالصورة التليفزيونية التي يظهر بها دائما في اللقاءات وهو غالبا لا يكون مرتاح فيها وهو جالس. هنا كان فيه مجال لأن يترك الكادر ويمشي حتى يخرج منه فيروح ويجيء، وهذا في رأيي كان يخلق عفوية جيدة للفيلم لأن الشريط فيه نواحي كثيرة جامدة منها صور وأشياء مدروسة جيداً لأنه فات عليها زمن، بينما وليد جنبلاط كان مثل باحث، وهو لم يُجزم بأي موقف. 
• 

في المشهد الأخير بعنوان “الموت المستحيل” تعيد تمثيل فعل الاغتيال والحكي عنه. كنت تنتقل بين الشخص الشاهد الذي يستعيد تفاصيل تلك الجريمة وبين وليد جنبلاط الذي يحكي عن شيء آخر ليس له علاقة بالاغتيال، وإنما له علاقة بشخصية والده، إلى أن يصل وليد إلى الحديث عن الاغتيال.. فهل تعمدت ألا تحكي مشهد الاغتيال بشكل متتابع وراء بعضه لئلا يتورط معه المتلقي عاطفيا، ويظل عقله متيقظاً لكل ما يُقال من أفكار وآراء..؟

 

هادي: هذا الفصل مرتبط بفلسفة كمال جنبلاط وحكيه عن الحياة والموت بشكل مستمر، وهو مثلا من مرحلة مبكرة يقول: “الطفل فينا يموت حتى يخلق الشاب، والشاب فينا يموت ليخلق إنسان جديد”
فالحياة عنده هي موت وحياة باستمرار، وحتى مشهد الاغتيال نعود له ثلاث مرات في الفيلم، نبدأ به، ثم نتوقف، ثم نعود إليه، وكأنه يتكرر. ومعالجة مشهد الاغتيال نفسه في بداية الدراما، وغالبا هو مشهد لا يريد أن يبكينا، ربما مشهد الدفن أكثر.. لأنه يتضح من قصائده أنه كان يتوقع الاغتيال ولم يتفاجأ به، بل كان ينتظره. وثانيا لأنه لا يؤمن بالموت، ومن هنا كان عنوان هذا الفصل “الموت المستحيل”.

• إلى أي حد أنت راض عن الفيلم؟

هادي: علاقتي بالفيلم ليست واضحة، أولا لأنه أخذ ثلاث سنوات عمل وكان صعب فعلا. أعتقد أن علاقتي به هي حب وكراهية وطلاق وعودة، نختلف ونرجع، من دون أن ننسى أن هناك جهة منتجة هي “رابطة أصدقاء كمال جنبلاط”، وطبعاً فيه شيء إيجابي أن تفكر هذه الجهة أن تصنع فيلماً مختلفاً عنه، لكني أيضاً كنت بحاجة إلى طاقة للمفاوضات معهم والنقاش المستمر المُضن الذي يأخذ كثيراً من الطاقة ويشبه إلى حد ما العمل الدبلوماسي، وهذا كثيراً ما يجعل المخرج لا يركز على العامل الفني، لكن أعتقد أن بهذا الفيلم فصول أحبها أكثر من فصول أخرى، وهى الفصول هي التي ليس لها علاقة بالجزء السياسي.