لبنان، من”سنوات الضوء”إلى الكابوس…

ندى الأزهري- باريس

“سنوات الضوء”، الفيلم الوثائقي الذي أخرجه اللبناني جان كيروز وأعده المنتج جورج صليبي   وعرضه معهد العالم العربي في باريس، طمح إلى استعادة صورة “لبنان الجميل” أو ما كان يسمى “سويسرا الشرق”،  عبر تغطية ربع قرن من تاريخ  لبنان الفني والسياحي والثقافي مع تركيز على الجانبين الأولين. إنها سنوات “الأحلام والأضواء” التي سبقت الحرب الأهلية والممتدة من 1950 إلى 1975،  الفترة  التي كانت خلالها بيروت “عاصمة النجوم والممثلين والفنانين”. اعتمد الفيلم على صوت معلق لسرد علامات طبعت تلك المرحلة  كما على شهادات ومقابلات مع شخصيات ووجوه لبنانية عاصرتها،  كالشاعر أنسي الحاج والمخرجة والممثلة المسرحية نضال الأشقر والمطرب وديع الصافي ومديرة مهرجانات بعلبك مي عريضة، والملحن الياس رحباني ومؤسس فرقة كركلا عبد الحليم كركلا وروميو لحود وغيرهم… وتناوبت مساهمات هؤلاء مع مقاطع غنائية من الأرشيف تعود إلى سنوات الستينات من مهرجانات بعلبك ومشاهد من أفلام و برامج تلفزيونية وعرض لبعض الصور النادرة.
ركز الفيلم في معظم مراحله على تاريخ مهرجانات بعلبك. واستهل الكاتب أنسي الحاج الحديث موحيا بالأجواء البهيجة لتلك الفترة مع اكتشافه لصوت فيروز ثم عن “الحلم” اللبناني الذي تحول إلى “كابوس”. واستعرضت مي عريضة تاريخ تأسيس مهرجانات بعلبك في عهد الرئيس شمعون عام 1956 وما شهدته أثار تلك المدينة من عبور لشخصيات عالمية وعروض مسرحيات للكوميدي فرانسيز. كما أشارت إلى دور المهرجان في اقناع أم كلثوم بالقدوم للغناء على مسارحه للمرة الأولى عام 1966 ثم لتعيد الكرَة مرتين. واعتبر كركلا أنه كان محظوظا في بداياته بالتمثيل  ككومبارس على مسارح بعلبك خشبة “السحر والخيال” وأنه بعد دراسته رجع إليه “ككريغراف عظيم” وفق تعبيره! فيما استعاد روميو لحود أول إطلالة على الناس عام 1966 في “فخر الدين” والتحضيرات لهذا العمل الذي رأى أنه “اعظم ما عرف”! وكانت “تضلوا بخير”،آخر مسرحية قدمت في مسرح بعلبك، كأنها إيذان لما سيجري، للحرب التي ستقضي على “سنوات الضوء” تلك وليغرق لبنان بعدها في ظلام الحرب الأهلية.

وينتقل الفيلم بايقاع سريع مرح من مهرجانات بعلبك إلى مسرح بيروت التي كانت “تغلي بالثقافة” إنما مع شعور بوجود “جمر تحت الرماد” كما عبرت نضال الأشقر، وإلى دور الصحافة ولا سيما “دار الصياد” وسعيد فريحة، في خلق هذا “الزمن الجميل”.
ولم تغب السينما اللبنانية التي كانت كأنها “تولد لتموت”،  عن هذا السرد الفني للتاريخ فاستضاف الفيلم المخرج جورج نصر بعد الحديث عن علي العريس اول مخرج لبناني حقق فيلما في الأربعينات. حقق نصر عام  1957 ” إلى اين؟” الذي عرض في  مهرجان كان و”وضع لبنان على الخريطة السينمائية في العالم” كما ذكر. وبعدها جاءت مرحلة ظهور محمد سلمان والاستعانة بنجوم مصر. ووصفت المرحلة بين بداية الستينات ونهاية السبعينات  “بالذهبية” للسينما الللبنانية بسبب هجرة السينمائيين المصريين إلى لبنان وسورية بحيث تم إنجاز بين 25-30 فيلم. مرحلة اعتبرت في الفيلم ” نهضة ثقافية” وهذا على الرغم من المستوى  الباهت لمعظم تلك الأعمال ودخولها في خانة الافلام التجارية البحتة.
وحاول الفيلم البحث في الأسباب الذي ساهمت في ازدهار لبنان وذكر منها الثورة في مصر عام 1952  التي دعت إلى هروب رؤوس الأموال إلى لبنان،  ثم افتتاح مطار بيروت الدولي لتمسي بيروت” واجهة الشرق”. ولم يغب عن القائمة افتتاح كازينو لبنان عام 1959 “هذا الصرح الذي كان مجمعا ثقافيا(!) سياحيا”، حيث عرضت فيه استعراضات لم تحصل في “لاس فيغاس وباريس”، وكان “قبلة أنظار العالم”، وحفلاته “قمة الفن”…
اختتم الشريط  بالحديث عن أثر ظهور التلفزيون في الخمسينات على  النهضة الفنية اللبنانية وما تركه إعلاميون كعادل مالك الذي نجح بجمع عبد الحليم وفريد الأطرش في لقاء تاريخي عام 1971،  و انتهى مع عبارات المذيعة غابي لطيف عن “بيروت التي علَمت العرب معنى الحرية”…
ولكن أين هؤلاء العرب؟ ولما لم يحضروا في الفيلم؟ وأين الشخصيات الأدبية  والفكرية اللبنانية والعربية التي علَمت تلك الفترة من تاريخ لبنان؟
لم يوفر الشهود أي عبارة تشهد على إعجابهم الشديد بلبنان الساحر ” كامل الأوصاف” و” واجهة الشرق”…، واختفت كل نظرة انتقادية. وبدا الفيلم كعرض لهيئة سياحية تروج للبلد مع محاولة لإضفاء صبغة “ثقافية” غلب عليها الطابع الاستعراضي.  ولم يكن السرد تاريخيا بقدر ما كان رغبة بالتأكيد على لبنان في “صورته المشرقة” وتوثيقا “للزمن الجميل” ولا بد من القول انه نجح في هذا وبدا ذلك واضحا على الجمهور اللبناني الحاضر الذي كان انجذابه على اشده وقد أعاد الفيلم بعضهم إلى الوقت الذي غادر فيه وطنه وكأن الزمن قد توقف بالبلد حينها. قد يكون موقع لبنان هذا وصورته هو ما أكثر ما ترك اثره في المخرج والمنتج  وما أحباه فيه ويشعران بالحنين إليه… فليكن، هذا خيار شخصي وللفنان الحرية باعتماد جانب واحد، جانب يعبَر عن صورة في الخيال. ولعل صورة لبنان الساهر الراقص المغني والمبتهج في ليله الذي “بلا قيود”، في بحره وشوارعه اللاهية في فنانيه الكثر، هي الصورة الأكثر تعبيرا عن وطن كان “ست الدنيا”. هنا لم يستخدم تعبير”أم الدنيا”، ربما لأن هذا اللقب محجوز لمصر أو ربما لأن صورة الست تناسب لبنان أكثر من الام!.