“مارادونا”.. عرّاب الكرة الذي انتصر للمطحونين ضد القوى الإمبريالية

في رحلته من الروائي إلى التسجيلي، لم يبرح المخرج الصربي “أمير كوستاريتسا” بفيلمه “مارادونا” (Maradona) ذلك الطابع الذي صبغ أفلامه المشهورة، وهي أفلام ذات نزعة كرنفالية تتضافر فيها كل مكونات الفيلم لصنع احتفال سينمائي.

احتفال يبرر وجود ذاته، مستقلا عن مرجعياته، واضعا كل طاقات العمل في الصناعة السينمائية تحت ضغط التقطير، ودمج كل مفردات السينمائي، للحصول على حالة شعورية واحدة لا يصل إليها المتلقي الذي وُضع موضع التحدي، إلا إذا استسلم لمسار الفيلم محررا نفسه من كل أفكاره المسبقة، ليس حول السينما فقط، بل أيضا بما بتعلق بموضوع الفيلم ذاته.

بل وربما أكثر من ذلك، هي وجهة نظر تجاه الحياة بالمعنى الشامل للكلمة يصر المخرج “كوستاريتسا” على توصيلها والتأثير بها، ليس على آلية التلقي سينمائيا فقط، بل من أجل الرغبة العارمة في التغيير في الإطار الأوسع بما يتضمنه ذلك التوجه اجتماعيا وسياسيا.

“هدف القرن”.. تعبير عفوي عن طبقات الشعوب اللاتينية

“وحده الإله قادر على الحكم من دون أن يكون موجودا”. بهذه العبارة بدأ فيلم “أمير كوستاريتسا” الذي يبدو أنه وجد ضالته في مجال الوثائقي من خلال موضوع متعدد الأوجه يناسب تماما توجهاته المشار إليها في الروائي، فـ”مارادونا” لا يجسد -بوصفه رمزا- حالة عالية من الكرنفالية ومسرَبا من مسارب الجسد في تفجراته كلاعب كرة قدم فقط، ولا تعبيرا عفويا عن رغبات الطبقات الواسعة لشعوب أمريكا اللاتينية بعاداتها وطقوسها فحسب.

هدف مارادوما الأشهر في مرمى المنتخب الإنجليزي في مونديال 1986

كما لا يقتصر وجود “مارادونا” على المستوى العالمي في إطار لعبة لها شعبيتها الهائلة وإنجازاته في سبيل نيل الأرجنتين لكأس العالم في مونديال 1986، بل إنه أصبح علامة رفض ومقاومة في وجه المستعمر القديم الجديد بعد المواجهة الأرجنتينية البريطانية في جزر الفوكلاند.

كل ذلك بسبب تسجيله في مرمى بريطانيا الهدف العجيب الذي سمي في الفيلم مرارا “هدف القرن”، عندما اجتاز الملعب منفردا متجاوزا كل اللاعبين البريطانيين المتساقطين واحدا تلو الآخر، أمام الآلة البشرية القادمة إليهم كالوعد من وراء المحيط، ثم بسبب تسجيله الهدف الثاني بيده، معاندا كل الأعراف والقوانين التي وضعها البريطانيون أنفسهم عند اختراعهم لكرة القدم.

“يد الله”.. ضربة تصنع النصر على أباطرة الاضطهاد

لا يستخف “كوستاريتسا” بملعب كرة القدم بوصفه ساحة للنزال في تلك السنوات من ثمانينيات القرن المنصرم، وبوصفه آخر ميادين المواجهة الممكنة بين المضطهَدين والمضطهِدين على المستوى الشعبي، وبعبارة أخرى هو آخر الاحتمالات الممكنة التي يستطيع فيها المضطهَد ولو على المستوى المعنوي تحقيق نصرٍ يبدو عادلا، حتى وإن كان هدف النصر قد سجل باليد التي وصفها مارادونا يوما بأنها “يد الله”.

ففي البداية يظهر مشهد للرسوم المتحركة تصور فيه “مارغريت تاتشر” رئيسة وزراء بريطانيا السابقة في معركة كاريكاتورية مع “مارادونا”، ويشير المخرج بذلك إلى أولى مراحل تلك المواجهة ببعدها الراهن والمباشر، تبعا للمواجهة المادية بين بريطانيا والأرجنتين.

بيده، سدد مارادونا الهدف الثاني في مرمى المنتخب الإنجليزي 1986 واحتسبه الحكم هدفا صحيحا

لكننا نرى في مراحل متقدمة من الفيلم مشاهد أخرى يظهر فيها الأمير “تشارلز” -الذي يصرح “مارادونا” أنه رفض مصافحته عندما أراد ذلك- في مواجهة “مارادونا” على أرض الملعب مهزوما، وفي مشاهد تالية للرسوم المتحركة وبما يتوازى مع التقدم في الزمن المرصود وزمن الفيلم، وصولا إلى “هوغو تشافيز” و”موراليس” مرورا بـ”كاسترو” واحتفاء هؤلاء بأسطورة الكرة “مارادونا”.

حصان “ريغان”.. معركة ضد أعتى رموز التجبر الإمبريالي

نرى في المشاهد الكاريكاتورية شخصيات الاضطهاد متجاوزين “تاتشر” و”تشارلز” وصولا إلى “توني بلير” الذي أصبحت له أنياب وذيل وقرنا شيطان، ثم ما يلبث “مارادونا” أن يدفنه في أرض الملعب.

مارادونا يرتدي قميصا يصف بوش الابن بالنازي إثر غزوه للعراق 2003

وبعد بريطانيا جاء دور “جورج بوش” راعي البقر بمسدسيه اللذين يصوب بهما نحو “مارادونا”، فتتوضح المواجهة الحديثة أكثر على أنها حرب مفتوحة بين شعوب مظلومة وبين الإمبريالية العالمية، حتى إن “رونالد ريغان” على حصانه -وهو أعتى رموز التجبر الإمبريالي في القرن العشرين- لم يسلم من “مارادونا” و”كوستاريتسا” اللذين توحدا معا على ما يبدو في وجهة نظر مشتركة.

لكن هذه النتيجة إذ يتوصل إليها المرء، ليست بذلك الوضوح وعرضها لم يكن بتلك المباشرة رغم إظهار تفاصيلها بتلك الحدة.

“لا أقوى على منع نفسي من تسجيل الأهداف”

لقد وارى المخرج “كوستاريتسا” ما يريد قوله بجملة من الشبكات المكثفة التي أخفت الهدف بغرض توكيده، وبغية تعميمه على مستويات متعددة، منها مستوى الشارع المتعدد الحاضر بقوة والمتعدد أيضا، ومنها مستوى الساسة، ومستوى كرة القدم، ومستوى المحور “مارادونا” نفسه، وهو مدمن الكوكايين المتمرد الذي شبه نفسه بـ”روبرت دي نيرو” في فيلم “الثور الهائج” (Ranging Bull)، حين قال: كم أرى نفسي به، هو لا يستطيع التوقف عن اللكم، وأنا لا أقوى على منع نفسي من تسجيل الأهداف.

مارادونا.. أسطورة كرة القدم العالمية التي لم تنجب الأندية مثيلا له

وإنه لتشبيه خارق وبليغ ما قاله “مارادونا”، وربما لم يتوقع “كوستاريتسا” أن يصطاده في فيلمه، فـ”مارادونا” الذي أصبح بطلا “استعراضيا” كما وصف في الفيلم، يشبه إلى حد بعيد تلك الشخصية التي ابتكرها المخرج “سكورسيزي” وبطله “روبرت دي نيرو” ببدانته الراهنة، وإخفاقه في مجال اللعبتين؛ كرة القدم والملاكمة، فقد أصبحا ذكرى في عيون من حولهم، تبدّت في حالة استعراضية صرفة، بعد أن زالت مبررات وجودها المادية.

إذن “مارادونا” هو ذاك الأسطورة التي ابتكرتها دخائل الناس، وهو غير موجود بالمعنى الذي قصده “كوستاريتسا”، إنه البطل والرمز الذي احتاجه ملايين البشر عندما كانت الولايات المتحدة تحدد وتضع لهم حكامهم وحكوماتهم.

إنه منهم، إنه المنبثق من معاناتهم، وهو الناطق باسم فقرهم وجوعهم.