“مقاطعو العنف”.. يسابقون الزمن لوقف موتهم العبثي!

قيس قاسم ـ السويد

لم تكن إستشهادات القائد السياسي والمدافع عن حقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية مارتن لوثر كينغ المتكررة بسوء أحوال ولاية شيكاغو إعتباطاً، بقدر ما كان إختياراً واعياً، أراد من خلاله تقديم نموذج حي وصارخ لمدينة أمريكية تعاني من أشد درجات التمييز العرقي والبؤس الإجتماعي. بعد عقود على رحيله ومع تَغيّر أَشكال التعامل الحقوقي مع السود، مازال فقراء الولاية يعانون من مشاكل أخرى، ليست أقل خطراً عليهم من العنصرية نفسها، فاليوم ينتشر في داخل مدنهم الفقيرة وَباء يدعى “العنف”، يسري بينهم كالنار في الهشيم ويحصد أرواح الكثير منهم، ومن أجل وقف انتشاره ينشط متطوعون من أبنائها يعملون بإخلاص ويطلقون على أنفسهم إسم “مقاطعو العنف”.
 قبل الشروع في تسجيل حال المدينة، ثَبت المخرج ستيف جيمس كامرته أمام جهاز تلفاز، لتنقل لنا جزءاً من تقرير إخباري بثته احدى القنوات حول جريمة قتل وقعت في المدينة ويتضمن إضافة اليه أرقاماً عن حوادث مشابهة: فالشاب القتيل، جورج روبنسون، واحد من ثمانية وعشرين طالباً قتلوا في مدارس شيكاغو حتى الآن، فيما فاقت نسبة عدد ضحايا عنف عصابات الإجرام في المدينة خلال عام 2009 نسبة عدد قتلى الجنود الأمريكان في مناطق أخرى من العالم، كالعراق وأفغانستان. المشهد الثاني سيكون حياً، فيه تجري مراسيم دفن الشاب بحضور عدد من أعضاء منظمة “أوقفوا إطلاق النار” وقد حضروا للمساعدة في منع قيام شباب آخرين بأعمال إنتقامية بخاصة وأن عدد منهم قد شوهد وهو يحمل أسلحة نارية بالقرب من الكنيسة. عبر المَشهَديَّن يضع جيمس مُشاهدي وثائقيه “مقاطعو العنف” في الجو العام لمدينة أنجوود في ولاية شيكاغو، وبالتدريج وخلال معايشة امتدت عاماً كاملاً، سيتعرف، ونحن معه، بشكل جيد على “المقاطعين” وعملهم، لمنع القتل المجاني.

مقاطعون وسط الخطر
 يعاين “مقاطعو العنف” الموضوع من خلال المقاطعين أنفسهم ويرتكن في قسم كبير منه على نقل تجاربهم التي سبقت إنضمامهم الى الحركة الناشئة وعلى نقل خبراتهم الميدانية في معالجة كل حالة طارئة تصل اليهم للتو، مسلاحاً في كثير من الأحيان بأرشيف يتضمن وثائق شخصية وعامة عن المنطقة نفسها وهو بهذا يجمع بين السرد الشفاهي المؤثر وبين الوثيقة القوية الحجة والإقناع. على مستوى التحليلي لا يُقحم  ستيف جيمس نفسه في إفتراضات نظرية حول العِرْق والمشاكل العنصرية في شيكاغو مبدلها بوقائع نقلتها كامرته بحيادية، فحَصر أغلبية المشاكل بالسود وبفقراء مهاجري أمريكا اللاتينية يدعمه عدد المقاطعين أنفسهم، وأيضا الحوادث الحية التي جرت بوجودهم وكان أغلب المتورطين فيها هم من هاتين الفئتين الإجتماعيتين ولهذا لم يتطرق وثائقيه الى هذا الجانب، مفضلا عليه ما أراده موضوعا له ونعني به العنف ومقاطعوه، فأخذ بعض عينات منهم أو بالأحرى فرض الناشطون منهم أنفسهم على كاميرته فما كان منها إلا أن أعطت للناشطة أمينة ماثيوس التي تبنت الإسلام دينا لها بعد خروجها من السجن، مساحة واسعة من تسجيلاتها على مدى عام كامل. قصة أمينة تُلخص الكثير. فهي إبنة جيف فورد رئيس أكبر العصابات المنظمة بعد “آل كابوني” في شيكاغو، والذي حكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة إشتراكه مع ليبيين في التخطيط لعمليات إرهابية. إنضمت الى عصاباته آمنة دون علمه وهي في السادسة عشر من العمر ومارست كل ما يمارسه أعضاءها من سرقة ودعارة وقتل. لم يكن الأب المِثال ولم تعرفه جيدا، لقد أرادت بإنضمامها الى المنظمة، وكونها  المرأة الأولى التي تدخلها، إشعاره بوجودها فحسب. حكايات آمنة وصورتها الكاملة التفاصيل كانت واحدة من العَينات المسجلة بعناية لعمق تجربتها وإيمانها الشديد بالدور الذي تلعبه. قوة كل نموذج من المقاطعين ومعايشته الزمنية الطويلة قادت الى تفرعات خدمت الوثائقي كثيرا، فالموقف من الشرطة أو المؤسسات الرسمية لم يكرس له حيزا في السيناريو غير أن غيابه شبه الكامل والسؤال الدائم عن دوره  فرض وجوده على أحاديث المشاركين في اللقاءات التي كانت تنظمها المنظمة، ناهيك عن موقفها غير المعلن من حركة “وقف إطلاق النار” والمُعبر عنه بسؤال خبيث لا يتوانون عن  طرحه متى  جاء ذكر المقاطعين أمامهم: “هل يُعقل أن يُصلح مجرم مجرما ثانيا؟” ربما كان هذا السؤال يسري، أيضا، في دواخل المتطوعين أنفسهم. فحيرة بعضهم كانت تصرخ في أعماقهم وتكاد تعلن عن نفسها دون رغبة منهم. فلا يقين في عمل خطر تتجاذب إرتداداته العنيفة ذواتهم في صراع، وأن لم يكونوا طرفا فيه اليوم، فقد  كانوا مشاركين في فعل مشابه له في السابق، ولعل ملاحقة أحد أعضاء المنظمة أثناء غيابه المتكرر ومشاهدته وهو يضع، كل يوم تقريباً، أكاليل من الورود على قبر شاب قتله قبل سنوات عَبَر بقوة عن حالة الكثير منهم. فمرتكب الجريمة لا يمكنه نسيانها بخاصة حين تكون دوافعها تافهة.

البحث عن اللَين
واحدة من الإستنتاجات المثيرة في تسجيلي ستيف جيمس أن الكلمة وفي ظل فقر وبؤس إجتماعي تلعب دور السلاح القاتل فأكثر الجرائم كانت ترتكب كرد فعل على شتيمة أو كلام سيء. فرد الفعل العنيف على الكلمة  تعبير مبطن عن وجود مرضي “إجتماعي” تساعد

هي على سرعة إنتشاره وسريان مفعوله الى مساحات أكبر. فالعنف في النهاية نتاج إجتماعي طبقي، يجد تعبيراته في أشكال مختلفة وينتشر مثل مرض وبائي  وصفه صاحب فكرة المشروع الإجتماعي والطبيب الإختصاص بعلم الأوبئة، غري سلوكتين: “العنف مثل بقية الأمراض الخطرة في التاريخ البشري، تنقل عدواه، ميكروبات غير مرئية، وقبل أن يتحول الى وباء، يصعب السيطرة عليه، لا بد من إيجاد دواء فعال له، وهذا ما نحاول عمله في مشروعنا “وقف إطلاق النار!””. الى جانبه وبخبرة مكتسبة تضيف آمنة أستنتاجا غاية في الأهمية كما بَيَن لنا الوثائقي الأمريكي والذي يعرض في الصالات الأوربية الآن، يتعلق بطرائق الوصول الى معالجات ناجعة لمرضى العنف وتتمثل في إكتشاف النقاط اللينة داخل الإنسان العنيف الهائج لا الضعيفة فيه. فاللينة هي التي يمكن خرقها دون هدم كيانهأو إستفزازه. ستُكسب كلمات آمنة وتجبرتها الغنية غِناً الى وثائقي لامس مشكلة خطرة وتعرض بسببها فريق عمله الى مخاطر كثيرة، سجلت كامرته مرة إصابة أحد المتطوعين برصاصة أطلقها شاب غاضب من مسدسه بعد فقدان سيطرته على نفسه، ومع هذا لم يتأثر لا العاملين في الفيلم  ولا المقاطعين للعنف بها بعد أن تعلموا وخلال سنة كاملة ان التحكم بالغضب واحد من عناصر تجنب المشاكل، أما إزالتها فهي بحاجة الى عملية تغيير هيكلي (سياسي اقتصادي اجتماعي) يبدو أن لا الولايات المتحدة ولا حتى أوباما مستعدين له ولهذا جاء المقاطعون ليلعبوا دورا هو في الأساس دور المؤسسات الرسمية والقضائية. في المقابل وكوظيفة إبداعية جمع “مقاطعو العنف” طوعاً أقطاب التفاعل  الإجتماعي الحاد، في فيلم وثائقي جسد العلاقة الملتبسة بين ضحايا جدد وأخرين سبقوهم ولا يريدون تكرار تجاربهم الشخصية المريرة، مرة أخرى، مع شباب مثلهم قد تقودهم الظروف السيئة عنوة الى نهايات تراجيدية يعرفونها أفضل من غيرهم ألف مرة.