منصور الرحباني: عزف ثم قال وداعا

إثر نوبة أنفلونزا حادة وثلاثة أيام في دار العناية المركزة فقد محبو الموسيقى والفن واحدا من الأعمدة الفنية الكبيرة في الوطن العربي، حيث رحل منصور رحباني في أحد مستشفيات بيروت بعد أن نفذ سهم القدر مغيبا الفنان الذي تجاوز الثمانين من عمره.

ترك منصور الرحباني سلك الشرطة متوجها نحو براح الفن الواسع، حيث شيد مع أخيه عاصي ثم فيروز مدرسة خاصة بهم سادت وتوسعت وأصبحت مرجعا فنيا كبيرا للمتعة والفرجة، تجمع بين الموسيقى والغناء والمسرح. ثم اقتحمت مدرسته ساحة الفن السابع وأنتجت مجموعة من الأفلام الاستعراضية التي تعتمد على الموسيقى إضافة إلى جانب الحبكة الدرامية المعهودة.

هذه المسيرة الطويلة والحافلة بدأت بدراسة معمقة قام بها الأخوان عاصي ومنصور واستمرت لمدة طويلة تزيد عن مدتين جامعيتين بحساب سنين الدراسة النظامية. قاما خلالها بالتعمق في الموسيقى العربية بتجلياتها المختلفة، إسلاميا ومسيحيا ولبنانياوعربيا، ثم الموسيقى البيزنطية والحديثة بشكل عام.

وبعد رحيل توأم روحه الفني عاصي الرحباني عام 1986 تغلب منصور على المأساة وواصل مسيرة الرحابنة لوحده، معتمدا في ذلك على معارفه الواسعة في الموسيقى وخصوصا في الشعر والبناء المسرحي للعمل الغنائي. وقدم في مرحلة ما بعد عاصي وفيروز عدة أعمال مثل ” صيف 840 “، “سقراط” ، “المتنبي”، “ملوك الطوائف”، و”طائر الفينيق” وغيرها.
 ورغم أن هذه الأعمال لم تحظ بنفس القدرة من التوهج والشهرة مقارنة بأيام الرحابنة الأولى، إلا أن منصور قدّم في هذه الأعمال العديد من النماذج الفنية واللغوية التي سوف تبقيها الذاكرة الفنية طويلا. بل منها ما جرى مجرى الأمثال.

ومنصور المؤسس الفاعل للمدرسة الرحبانية، صحبة أخيه عاصي ثم فيروز، بقى وفيا لمبادئ هذه المدرسة التي تعتمد في جانب كبير منها على إعادة إنتاج فني للثقافة الشعبية، على نحو يحيل على استثمار للخيال الخلاق. مما أكسب ذلك الموروث جمالية جديدة مثلت امتدادا راقيا للإبداع عبر الأجيال. فظل فن من سلف متداولا وأنيقا.
التناول الجديد والحبكة الشفافة وحداثة الطريقة، تلك هي العناوين الكبرى للمدرسة الرحبانية. وتلك هي الوسائط التي جعلت فن الرحابنة فضاء يتسع للمتفرج والمستمع العادي. أما المتلقي ذي الحاسة الفنية “المحترفة” والتحصيل الثقافي المتخصص فلا يعدم ضالته في تلك الألحان ليفجر إشكالاته دون أن يجيب.

تعامل منصور مع فيروز كثيرا خلال فترة الرحابنة، ولكنه أيضا طوّر تعامله مع الفن وتسرب خطه إلى مجالات أخرى لفنانين من أجيال مختلفة مثل فيلمون وهبي، نصري شمس الدين، زكي ناصيف، ثم إلى أجيال جديدة مثل لطيفة التونسية وغسان صليبا وآخرين.

لقد كان منصور ضد التأويل الواحد للفن، وضد تقديم الخدمات الخاصة التي تضفي أنواعا مختلفة من الشرعية على السياسة. وكان يصر دائما أن يبقى وفيا لمدرسة الرحابنة التي يحظى فيها الفن بالمرتبة الوحيدة من الأهمية. عاش طويلا بعد عاصي قبل أن يأتي اليوم الذي يلتقيان فيه من جديد ويشرعان في حديث طويل بعيدا عن ضجيج بيروت، خارج حدود الوجود.. ولا شك أن حديثهما في هذا التلاقي الأبدي سيدور حول الموسيقى وربما بالموسيقى…موسيقى الروح.