مهرجان القاهرة السينمائي ودورة الأحلام الكبيرة.. ماذا تحقق منها؟

قيس قاسم

وصفُ دورة مهرجان القاهرة السينمائي بـ"دورة الأحلام الكبيرة" يشي ضمنا بأن ثمة واقعا غير مرتجى يعيشه المهرجان

بعد انتهاء أعمال الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي، والتي وصفها عنوان العدد الأول من نشرتها اليومية بـ”دورة الأحلام الكبيرة”، صار لزاما على متابيعها التدقيق فيما تحقق خلالها، وذلك في محاولة للوصول إلى إجابة بشأن صحة الرهان على إدارتها الجديدة، ومدى قدراتها على تجاوز إرث الإخفاقات الذي لازم عمل المهرجان خلال سنوات انعقاده الأخيرة.

وصفُ الدورة بـ”دورة الأحلام الكبيرة” يشي ضمنا بأن ثمة واقعا غير مرتجى يعيشه المهرجان، وأن الحلم بانتشاله من وضعه الحالي كبير ويستحق العمل على تحقيقة. مهمة ليست سهلة أوكلت إلى السيناريست والمنتج الشاب محمد حفظي وعلى دوره رئيسا لها عوّل كثيرون، وبذلك وضعوا الدورة برمتها في اختبار صعب وجوّ ضاغط ظهر منذ إعلانه تكريم المخرج الفرنسي كلود لولوش وما رافقه من ردود فعل قوية إزاء مواقفه المؤيدة لإسرائيل التي وضعت إدارة المهرجان في حرج تم تجاوزه بإعلان المخرج اعتذاره بنفسه عن المجيء إلى القاهرة. وضع غير مريح وبداية متوترة لم تكن قطعا في حسابات فريق عمل المهرجان.

الفيلم الفيتنامي "الزوجة الثالثة" يعود إلى قرون مضت من خلال قصة تسرد حياة مراهقة ذات 14 عاما تزوجها مالك إقطاعات غني أملاً في إنجابها ولدا له

محاولات للنهوض.. لكن!

على جانب آخر كان فريق العمل ينشط باتجاه تعزيز قواعد عمله الاحترافية، وتجاوز فكرة الاكتفاء به منصة لعرض الأفلام وسَير النجوم فوق سجادته الحمراء. أرادوه كما يبدو من التفاصيل مهرجانا حقيقيا يشبه بقية المهرجانات السينمائية العالمية من فئة “ألف”، يسهم في تطوير السينما العربية ويدعم مبدعيها من خلال دعمه لمشاريعهم.

أما على مستوى علاقته بجمهوره ومدينته فما زالت في غير صالحه، فالدورة لم تُوفق في كسب الجمهور المطلوب منها الإتيان به إلى مراكز عروضها وبقية فعالياتها، رغم محاولتها التقرب منه عبر توسيع شبكة عروض أفلامها لتشمل مناطق سكنية مختلفة أوكلت لبعض دور السينما فيها مهمة عرض جزء من برنامجها الواسع.

والمؤكد أن منظميه يدركون أنه من غير المقبول على الإطلاق أن يظل مهرجان القاهرة بعيدا عن جمهوره، وهم على دراية كافية بجماهيرية مهرجان قرطاج التي لا يمكن مقارنتها بمهرجان القاهرة في كل الأحوال.

أما على المستوى اللوجستي فثمة عمل جاد لتجاوز أخطاء التجارب السابقة لكنه لم يرتق بعد إلى المستوى المطلوب، وعلى إدارة المهرجان التوقف عند تفاصيلها.  

وفي حقل البرمجة والأقسام المستحدثة ثمة جهد واضح لجمع أكبر كمّ من الأفلام الجيدة المستوى، ومنها أفلام فائز بعضها بجوائز مهرجانات كبيرة ومهمة، فقد جُلب هذا العام أكثر من 150 فيلماً من 59 دولة، وخُصصت خانة للسينمائيات العربيات لعرض ما أبدعن. أما على المستوى العربي فما زال يعاني من نقص في أعداد الأفلام العربية ومستوياتها، حتى الفيلم المصري “ليل/خارجي” المشارك في المسابقة الدولية لم يكن بالمستوى المتوقع من عمل عُوّل عليه لينافس أفلاما كبيرة أكثرها جاء من دول آسيوية ومن أمريكا اللاتينية.

"طيور الممر" يروي قصة حقيقية مرّت بها مجتمعات قبلية لاتينية وضعت لنفسها خلال قرون قواعد تُؤمن لها مصالحة مع ذاتها ومع الآخرين

طيور الممر والزوجة الثالثة.. مقاربة العادات والتقاليد

المسابقة الرسمية لهذا العام لافتة في تنوعها الجغرافي وانعكاس ذلك في مفرداتها، لكنها لم تخلُ من مقاربات فيما بينها مثل مقاربة الموروث التاريخي والعادات والتقاليد الاجتماعية في فيلمي “طيور الممر” و”الزوجة الثالثة”، فهما تحفتان شُبعتا بتحليل أنثروبولوجي (علم الإنسان)، الأول الكولومبي تناولها برؤية معاصرة عبر حكاية ظهور بداية الاتجار بالمخدرات في دول القارة الأمريكية وكيف غيّرت طباع وسلوكيات أجيال كاملة فيها، بينما يعود الفيلم الثاني الفيتنامي إلى قرون مضت من خلال قصة تسرد حياة مراهقة ذات 14 عاما تزوجها مالك إقطاعات غني أملاً في إنجابها ولدا له، إلى جانب توفيرها متعا جسدية تزيد من رغبته في امتلاك البشر بأشكال مختلفة يبقى عنوانها العام كما هو دائماً؛ استثمار مزايا السلطة الاقتصادية.

يروي “طيور الممر” قصة حقيقية مرّت بها مجتمعات قبلية لاتينية وضعت لنفسها خلال قرون قواعد تُؤمن لها مصالحة مع ذاتها ومع الآخرين، غير أن ظهور المخدرات غيَّر الكثير من عاداتها، وأنتج رفاهاً من نوع جديد لم تعرفه القبائل من قبل. وقد أدى الطمع النابع منه إلى حروب وقتال أجبرها على نبذه والعودة إلى موروثها الأخلاقي والاجتماعي الذي يعتمد الكثير منه على الثقافة الطوطمية (ديانة خاصة) والإيمان بها.

نص الفيلم –الذي كتبه كل من “كريستينا جاجييو” و”تشيرو جيرا”- مدهش غير مدع شديد الخصوصية لا يشبه الأفلام الهوليودية التي تناولت موضوع تجارة المخدرات، أو تلك التي رسمت بعض شخصيات ذاع صيتها في ذلك الحقل المليء بالمخاطر.

نَفَس المشترك يمكن تلمسه في فيلم المخرجة آش مايفر، فهو لم يعرض تفاصيل حياة إمبراطوريات آسيوية كالتي قدمتها أعمال سابقة كثيرة جُلّ إنتاجها ضخم الميزانية، بل أخذ منحى البساطة والسرد الهادئ الذي يقول الكثير، ويدعو بسهولة شديدة إلى مراجعة الموروث التاريخي والعادات والتقاليد الآسيوية الطابع بمنظور عصري، السينما بكل جمالها هي وسيلة توصيلها والأهم هنا هو تواضع ميزانية الفيلم ومحصلته الكبيرة.

يُحسب للمسابقة جلبها تحفة “ليلة الاثني عشر عاماً” للأورغواني ألفارو بريخنر، وتركه لليوم قبل الأخير من الدورة، لتبقي على حيوية برنامجها والتذكير بأن عنصر المفاجأة موجود وقد يظهر في كل لحظة. وإلى حقل المفاجآت في المسابقة يمكن إضافة فيلمين من آسيا هما “مامانغ” للفلبيني دينيس أوهارا، والتايلندي “مانتا راي” لبوتيفونغ أرونفينغ، لتُميز الدورة بهما نفسها عن بقية دورات المهرجانات العربية التي لم توفر بنفس القدر أفلاماً مبهرة من آسيا كما قدمها مهرجان القاهرة.

حسب للمسابقة جلبها فيلم "ليلة الاثني عشر عاماً" للأورغواني ألفارو بريخنر، وتركه لليوم قبل الأخير من الدورة

جريمة الإيموبيليا.. ظلم المقارنة

خارجها، هناك فيلمان يُجليان الفرق بين مستوى إنتاج السينما المصرية هذا العام وبين أخرى صُنعت في مناطق مختلفة من العالم نسميها كلها ظلما “نامية”، والمقصود هنا الفيلم المكسيكي “روما” الحائز على الجائزة الكبرى لمهرجان فينيسيا الدولي ومقارنته -بحكم إدراجهما في “القسم الرسمي خارج المسابقة”- بالمصري “جريمة الإيموبيليا” للمخرج خالد الحجر الذي أراد ارتداء ثوب أفلام الجريمة والغموض دون فائدة، فنص الفيلم المصري ضعيف مُفكك لا إبداع فيه، مغرق في المبالغة وبشكل خاص أداء بطله الممثل هاني عادل. وذلك في الوقت الذي ضمت فيه المسابقة نخبة من أفلام مذهلة مثل “أيكا” للروسي سيرجي دفورتيسفوي، و”النهر” للكازاخستاني أمير بيجازين.

وهنا لا بدّ من التوقف عند اهتمام الدورة الحالية -وحتى قبلها- بالسينما الروسية والشرق أوروبية، معتمدين في اختياراتها بشكل أبرز على متابعة مبرمجيها لمهرجان كارلوفي فاري وبقية مهرجانات شرق أوروبا.

 

الدورة الأربعون.. احتفاء بالندوات

ربما الدورة الأربعون من بين الدورات القليلة لمهرجان القاهرة التي أولت عناية خاصة للندوات والجلسات وعاملتها كمفردة رئيسية لا تقل قيمة عن بقية مفرداتها، وذلك حين وضعوا للراغبين في متابعتها بطاقات دخول خاصة بها كالأفلام. ومن بين المتميزة منها جلسة مع “كلاوس إيدر” السكرتير العام للاتحاد الدولي لنقاد السينما “فيبريسي” تداول خلالها مع بعض النقاد العرب سبل تفعيل عملية نقل الفيلم العربي والتعريف به خارج محيطه وعدم الاكتفاء بالكتابة عنه. كما طرح موضوع عضوية الاتحاد ولماذا لا يضم سوى ثلاث دول عربية بينما البقية خارجه. وفي حقل التكريمات هناك التفاتة خاصة للناقد يوسف شريف رزق الله المدير الفني للمهرجان والمساهم المخضرم في حقل الكتابة النقدية.

تشير الدورة الأربعون حقاً إلى توجه جاد يهدف إلى استنهاض مهرجان القاهره والعودة به إلى مجده يوم كان يتسيّد المهرجانات العربية ويُعامل عالميا معاملة المهرجانات الدولية المهمة، هل سيحصل ذلك؟ سؤال مفتوح على احتمالات كثيرة، وقادم الدورات كفيل بالإجابة عليها.