مهرجان برلين السينمائي الـ70.. أجواء سوداوية تتخللها لحظات من الربيع العربي

قيس قاسم

بعد مرور أيام معدودة على انطلاق الدورة الـ70 لمهرجان برلين السينمائي بدأت تتضح بعض ملامحها، وتوفرت إمكانية قياس مدى تأثير التغييرات الإدارية الأخيرة التي شهدها المهرجان على مستواه، ويبدو أن الجمهور البرليني غير معني كثيرا بها، وغير مُكترث بفيروس “كورونا”، فهو ما زال يتوافد على صالات العرض، ويُشاهد الأفلام بذات الحماسة التي عُرف بها من الدورات السابقة.

ومثل كل دورة يبدأ مؤشر الجودة عند النُقّاد بالتحرك صعودا أو هبوطا من خلال الأفلام المعروضة في أولى أيامه، فالمؤشر السلبي ظهر مباشرة بعد مشاهدة عروض اليومين الأولين، ومرده قلّة الأفلام الجيدة المستوى في المسابقة الرسمية باستثناء أفلام قِلّة، من بينها “أول بقرة” للأمريكية “كيلي” ريتشارد الذي ما زال من بين أقوى الأفلام المرشحة لنيل جائزة “الدُبّ الذهبي”.

أجواء مهرجان الدورة الـ70 لبرلين السينمائي

 

قسم “بانوراما”.. إفلاس بعد تاريخ من الثراء

تتعلق الملاحظة الأخرى بقسم “بانوراما” الذي عُرف في دورات سابقة بجودة اختياراته، لدرجة أن بعض النُقّاد كان يعتبر أفلامه في أحيان كثيرة هي أفضل من أفلام المسابقة الرسمية نفسها، لكن في دورة هذا العام ظهر قسم “بانوراما” فقيرا، من حيث عدد الأفلام المعروضة فيه ومستوياتها التي لم ترتقِ إلى مستوى يُناسب سمعة القسم.

على المستوى العربي يفتح فيلم المخرج البرازيلي الجزائري الأصل كريم عنوز “نرجس” نافذة للتفاؤل بحضور جيد، لا يتعلق بمستوى المنجز الذي يقف وراءه مخرج بارع فحسب، بل لكونه يقترح إجابة على السؤال المتعلق بالفيلم الوثائقي والحراك الشعبي العربي الأخير، وبشكل خاص في العراق ولبنان والجزائر.

شباب الحراك الشعبي الجزائري يوثق بالهاتف المحمول الهتافات والشعارات المطالبة بتغيير النظام السياسي

 

صدى الربيع العربي.. بحر الجزائر البشري الهائج

يتابع المخرج كريم عنوز نشاط شابة جزائرية في الحراك خلال يوم واحد في فيلمه “نرجس” الذي كان مبرمجا عرضه الأول في يوم 23 فبراير/شباط، وذلك تزامنا مع انطلاق الحراك الشعبي الجزائري في 22 من الشهر نفسه من العام الفائت.

اختياره لشخصية “نرجس” وحده يكفي لتحقيق جزء مهم من نجاح العمل، لما تتمتع به من جاذبية وشخصية قوية، حيث تنشط هي مع بقية الشباب من جيلها في حراك جماهيري تُعبّر شعاراته عن رغبة حقيقية في تغيير سياسي ومجتمعي طال انتظاره.

أول ما يلفت الانتباه في الوثائقي المهم هو التصوير، فقد صُوّرت الكثير من مشاهده بالهاتف المحمول، إلى جانب الاستعانة بكاميرات قادرة على التقاط المشاهد الواسعة، وعادة ما تؤخذ من بُعد من أجل الإحاطة بأكبر مساحة من المكان.

ذلك الاشتغال يظهر منذ اللقطة الأولى التي يظهر فيها المتظاهرون وكأنهم أمواج هائجة لبحر بشري، حيث يأخذ نرجس من بينهم ويركز عليها عدسات كاميراته، ليحقق بذلك معادلة الخاص والعام، فحين تكون لوحدها فهي تمثل نفسها، أما بوجودها مع بقية الناس فهي جزء من الحراك العام.

الشابة الجزائرية نرجس خلال مشاركتها في الحراك الجزائري، حيث تهتف لتغيير النظام السياسي هناك

 

“نرجس”.. مفاجأة الأيام الأولى للدورة

لم ينتظر كريم عنوز طويلا حيث جاء وباشر بتوثيق حدث نادر في تاريح بلده، ولم يتريّث لصنع فيلم تحليلي أو تاريخي، بل أراده أن يكون آنيا يُسجّل اللحظة ويترك إمكانية إكمالها إلى فرص قادمة.

إن نقل المشهد اليومي من خلال نرجس هو نقل لمشهد الجزائر خلال عام كامل، فالهتافات والشعارات وأشكال التعبير والانفعالات المختلفة كلها مرصودة من خلال الشابة الدائمة الحراك التي لا تملّ من التنقل والعمل بين الناس لرفع صوتها وصوتهم عاليا. دقّة نقل الانفعالات يُولّد شعورا عند المتلقي بأن الآمال العظيمة التي يراهن عليها الناس والمنقولة على الشاشة بدقة لافتة؛ ليس من العدل أن تُخمَد، أو أن يُكتَب عليها بالفشل.

ما هو منقول من كلام وصورة يجلي موقف الناس من نظامهم القديم الذي قرروا تغييره لا استبداله فحسب، وتجربة نرجس تقول إن الحراك قد وحّد الشعب الجزائري على هدف واحد، وهو تغيير النظام السياسي مهما غلت التضحيات من أجل تحقيقه. فـ”نرجس” دون تردد هو مفاجأة الأيام الأولى من الدورة الـ70.

لقطة من فيلم “جميع القتلى” الذي يتحدث عن تاريخ العبودية في البرازيل، ونظرة الفتاة البيضاء الدونية لعبدتها العاملة عندها

 

“جميع القتلى”.. نظرة جديدة في سينما الاستعمار

يبدو أن السينما العالمية والأوروبية بشكل خاص مهمومة اليوم بتاريخ بلدانها، ومحاولة قراءته نقديا أكثر من أيّ وقت مضى. حيث تناولت أفلام كثيرة معروضة في الدورة الأخيرة مراحل مختلفة من تاريخ استبدادي يخضع لنقاش سينمائي، يتجسّد بقوة في الفيلم البرازيلي “جميع القتلى” لـ”كايتانو غوتاردو” و”ماركو دوترا”، حيث ينقل المخرجان بأسلوب بطيء وحوارات طويلة مرحلة من تاريخ الهيمنة البرتغالية على البرازيل، وربطها بواقع مدينة سان باولو، من خلال حياة شقيقتين من عائلة بيضاء ذات أصول برتغالية، وعبر عرض علاقة أفرادها بالعبيد الذين كانوا يعملون في بيتهم.

هذه النظرة الدونية لأبناء البلد والإحساس بالتفوق تتجسد تعبيراتها القوية في سلوك الشقيقتين، وتُنقل على الشاشة بكل تفاصيلها وتعبيراتها البصرية، حيث لا يميل المخرجان إلى عرض العنف الجسدي، ويكتفيان به كما يحدث في أفلام أخرى تتحدث عن تلك المرحلة من تاريخ السيطرة الأوروبية على أمريكا اللاتينية، بل يقترحان الذهاب بدلا منه إلى دواخل المستعمرين، لإظهار الكمّ الهائل من القسوة الكامنة في أعماقهم.

 

“رادو جودي”.. محاكمة الدكتاتور تشاوشيسكو

يُراجع المخرج الروماني “رادو جودي” المرحلة الاستبداية لحكم الرئيس الشيوعي تشاوشيسكو، من خلال حادثة مقتل طالب على أيدي رجال مخابراته، بعد أن اعتقلته ووجهت له تهمة “التأثر والترويج” للأفكار الغربية.

يستعين صانع “طباعة كبيرة” بأرشيف الدولة الديكتاتورية خلال حكم الرئيس الشيوعي “نيكولاي تشاوشيسكو”، ثم يقوم بإعادة تشكيل الحقائق المستحصلة منها سينمائيا بأسلوب مبتكر، يجمع بين الوثائقي والروائي والتجريبي.

يتوقف عند العام 1981 الذي قتُل فيه الشاب، ويأخذ آلاف النماذج من أساليب الدعاية التي كان يستخدمها النظام لتحسين صورته وتبرير استبداده، ثم يقوم بدحضها عبر موقف شاب شجاع لم يقتنع بها فذهب إلى تكذيبها.

يقوم الوثائقي بتكذيب تلك الدعاية أيضا عبر نقل مشاهد ولقطات من واقع بائس جعل من البلد نموذجا لردائة الأنظمة الأوروبية الشمولية، وجعل فيلمه في الوقت نفسه مرجعا بصريا لمن يريد معرفة تاريخ رومانيا المعاصر في مرحلتها الاشتراكية.

 

“حكايات سيئة”.. انتحار جماعي في إيطاليا

يظهر العنف المجتمعي السائد اليوم في أوروبا في أفلام كثيرة، من بين أشدّها قسوة الإيطالي “حكايات سيئة” للمخرجين “فابيو دلنوتشينزو” و”داميانو دلنوتشينزو”، وذلك عبر حكايات لأطفال يأتون صيفا مع عوائلهم لمنتجع سياحي، وهناك يعيشون تجارب مختلفة وسط احتكاكات دائمة مع أهاليهم، والعنف الجسدي والإهانة النفسية أبرز عناوينها، مما يوصل الصغار إلى قرار بوضع حدّ لحياتهم عبر الانتحار جماعيا.

لا يشي مسار الفيلم حتى وقت متأخر منه أنه سينعطف بحدّة ليتحول من فيلم مراهقين إلى تراجيديا تُعبّر عن مرارات جيل من الإيطاليين يعيش اليوم في مناخ يتعرضون فيه لشتى أنواع الاضطهاد النفسي والجسدي، حيث يحيل وجودهم في مكان واحد إلى تورية عن مجتمع بأكمله، فكل عائلة في المُجمع السياحي تعاني من تمزقات ومشاكل اقتصادية ومجتمعية جدية تنعكس على علاقتهم ببعضهم.

يتساوى التركيز تقريبا بين الكبار والصغار داخل الحكاية، فحصة كل مجموعة من النص الرائع تُكمل الأخرى، وتقدم جانبا من المشهد الإيطالي الغالبة عليه سمة العنف.

بالمجمل يشير فيلم “حكايات سيئة” إلى مآزق إيطالية تنعكس على أجياله الجديدة، ويحفزها لاختيار الموت طريقا للتخلص منها.

لقطة من الفيلم الكوميدي الفرنسي “سيرة محذوفة” الذي يروي قصة امرأة فرنسية مُطلقة يتولى طليقها رعاية ابنها

 

“سيرة محذوفة”.. سوداوية طاغية بطعم كوميدي

تطغى السوداوية على الكثير من أفلام “برليناله” 2020، لكن فجأة يظهر من بينها نص كوميدي جميل يخفف قليلا من حدّتها، ذلك ما يفعله فيلم “سيرة محذوفة” للمخرجين الفرنسيين “بينو دلبين” و”غوستاف كيرفن”.

أفلام الحروب والسياسة كثيرة، وبدلا منها يقترح المخرجان كتابة نص شديد الانجذاب نحو الحياة الفرنسية اليومية، وقادر على رصد جزئياتها بروح مرحة، ولتحقيق ذلك اختارا موضوع التكنولوجيا الحديثة وصلتها بحياة الناس، وكيف أصبحت جزءا منها، بحيث يستحيل التخلي عنها، ويقدم الفيلم أمثلة عليها منها الهاتف المحمول الذكي وشبكات التواصل الاجتماعي وفقدان الخصوصية، وغيرها من أشياء يتعامل معها الفرنسي كل يوم وصار عبدا لها.

إن رصد الفيلم للتأثيرات السلبية يأتي عن طريق قصة امرأة فرنسية مطلقة وعاطلة عن العمل، ويتولى طليقها رعاية ابنها عند والده لأنه متمكن ماديا ويستطيع توفير وشراء الملابس الثمينة والأجهزة الإلكترونية الجديدة. تسمع منه سبب اختياره البقاء مع والده، وتتفهم موقفه لأنها عاجزة في كل الأحوال عن تحقيق مطالبه، فصلتها بالعالم الخارجي يتم مثل ملايين الفرنسيين عبر الشبكة العنكبوتية، ومنها تأتيها المشاكل.

من خلال كل مشكلة تواجهها يقترب المُشاهد من الصورة التي يريد الفيلم توصيلها عن العالم الذي نعيش فيه اليوم، والذي يُدار من قبل “آلهة” غير مرئيين يملكون الأقمار الصناعية، ويتحكمون بالمعلومات وصفحات التواصل الاجتماعي، ليدخل بروح خفيفة وظريفة إلى أعقد المشاكل التي يواجهها الإنسان في العصر الإلكتروني، مما جعله فيلما ممتعا شاملا في نظرته إلى أعقد الأمور وأصعبها، بأسلوب كوميدي قلمّا نشاهد اليوم مثله على الشاشات.