مهرجان بنغلور السينمائي.. الهند كما ترى نفسها لا كما يراها العالم

ندى الأزهري

ما إن تتردد هتافات حماسية ويعلو الصفير، حتى ندرك أن الأمر متعلق بأحد نجوم السينما المحلية. كان هذا في حفل افتتاح مهرجان بنغلور السينمائي الدولي، ولم يكن ظهور مقطع من فيلم لـ”أميتاب باتشان” أو “شاه روخ خان” على شاشة ضخمة على المسرح ليثير ردّ الفعل نفسه. لقد كان هذا مفاجئا، فهل السينما المحلية لولاية كارناتَكا التي يُنتَج فيها 450 فيلما في السنة تتفوق في شعبيتها على سينما بوليود المُنتَجة في بومباي؟ هذا ما بدا من الأمسية الأولى للمهرجان.

في بلد المليار و366 مليون نسمة، وحيث تُنتَج ستة أفلام أسبوعيا في اللغات الأربع الرئيسية فقط، وحوالي 1800 فيلم في كافة الولايات سنويا، فإن الجمهور لا يقدّر بالمئات بل بالآلاف. المسألة ليست بالكمّ فقط، فهنا أناس يعشقون السينما.

أمام دور العرض التي تقدم أفلام مهرجان بنغلور (من 26 فبراير/شباط وحتى 4 مارس/آذار) صفوف حلزونية مُلّتفة لطولها على عدة ممرات، جمهور شاب في معظمه يأتي آملا الحصول على مكان لمشاهدة واحد أو أكثر من الـ70 فيلما التي تُعرض يوميا في 12 صالة. المركز التجاري الذي يحوي الصالات حافل بمحلات ذات علامات تجارية شهيرة لألبسة تُصنّع في الهند، لكن كثرة العروض السينمائية لا تمنح وقتا لشيء آخر، من صالة مكيّفة جدا إلى أخرى أكثر تكييفا، ومن فيلم هندي إلى آخر ماراتي أو من مالايام أو غيرها من الولايات، ينقضي يوم لا نشهد معه نور الشمس الساطع في الخارج، في محاولة الاطلاع على آخر إنتاجات السينما الهندية من خلال المسابقة الرسمية لهذه السينما في المهرجان.

بالطبع هناك عروض أخرى كثيرة لسينما العالم، وأشهر ما أنتج خلال العام الفائت، لكن مسابقات الجوائز المالية هي للسينما القادمة من شتى أنحاء الهند بلغاتها المحلية، كما للسينما المحلية بلغة كانّدا من ولاية كارناتكا الواقعة في جنوب الهند، والتي ينظم المهرجان في عاصمتها بنغلور مركز “الاقتصاد الجديد” في الهند القائم على تطوير التكنولوجيا الرقمية.

بوستر مهرجان بنغلور السينمائي الذي شارك فيه 13 فيلما ومخرجين يتحدثون سبع لغات هندية

 

مسابقة الأفلام الهندية.. 13 فيلما بسبع لغات

في أمكنة التجمع هذه يصعب الابتعاد عن الناس، لكن لا شيء يشير إلى خوف أو حذر من فيروس الكورونا، لا شيء يذكّر به، لا أقنعة ولا أحاديث ولا عناوين جرائد، كان هذا في بداية المهرجان، ثم في اليوم الأخير ومع بدء ظهور عناوين عن وجود الكورونا في ولاية كيرالا القريبة؛ ظهرت الأقنعة على نحو ملحوظ، لحسن الحظ كان هذا قبل المغادرة، وإلا فهل كنا لنقدر على الاستمرار في مشاهدة الأفلام وكأن شيئاً لم يكن؟

رغم كل ما حصل فقد أنسَتنا الأفلام -ولو على نحو مؤقت- وحسن الضيافة والتنظيم مشاكل العالم الذي يتهاوى من حولنا، ففي مسابقة الأفلام الهندية 13 فيلما أتت من سبع ولايات بسبع لغات، بعضها من اللغات المصنفة رسميّة في الهند مثل الهندية (اللغة الرسمية الأولى مع الإنجليزية ويحكيها 229 مليون كلغة أمّ أولى، وحوالي 450 مليون كلغة ثانية لهم)، والماراتية (لغة ولاية مهارَشترا ويحكيها 72 مليون شخص)، ومالايالام (لغة ولاية كيرالا ويحكيها 35 مليون تقريبا في الهند)، والتامول (ولاية تاميل نادو ويحكيها في الهند 61 مليون)، وكانّدا (ولاية كارناتكا ويحكيها أكثر من ستين مليون شخص).

كما حضر فيلمان من مناطق أقل كثافة سكانية، واحد بلغة تشاتيغارهي ويحكيها 18 مليون في ولاية تشاتيسغار فقط، وآخر بلغة تولو المحكية في ولاية كارناتكا أيضا من قبل مليونين.

المخرج “سجين بابّو” يستلم جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه “برياني”

 

سينما متعددة اللغات.. ملامح الغنى الثقافي في الهند

هذه الأفلام التي تعبّر بلغات مختلفة في بلد واحد، تعتبر أفضل تعبير عن الغنى الثقافي واللغوي في الهند، مع ذكر أن هناك لغات أخرى تُقدّر بالعشرات إن لم تكن بالمئات، لكن تلك التي تعتبر رسمية في مناطقها هي 22 لغة.

هذا قد يلزم لإدراك أن نعت السينما في الهند بالسينما الهندية هو فقط لناحية انتمائها لبلد هو الهند، وليس لانتمائها للغة الهندية، فماذا عن تلك الأفلام وما علاقتها مع سينما بوليود الناطقة باللغة الهندية والمُنَتجة في بومباي (عاصمة ولاية مهارشترا)؟ باختصار لا شيء يُذكر.

هي أفلام كثير منها تجاري وقليل منها ينتمي للسينما المستقلة التي يؤلفها ويخرجها مخرجون بميزانية ضيئلة في معظم الأحيان، تستوحي فكرتها من الواقع مهما كان قاسيا ومظلما، ولا تعتمد -إلا فيما ندر- على الغناء والرقص، وهما ما يميز سينما بوليود، لا نجوم فيها ولا تُشاهد خارج مناطقها إلا في المهرجانات، خلافا لأفلام بوليود التي تنتشر في كل أنحاء الهند وكل ولاياتها. هي أفلام مهرجانات في معظمها، مما يمنحها فرصة لتنطلق نحو جمهور أوسع يتجاوز مناطقها.

 

“الأرض المُرّة”.. جثة من طبقة المنبوذين تبحث عن مدفن

تتنوع مواضيع هذه الأفلام، وبعضها يركز على العادات والتقاليد وطريقة حياة ومعتقدات وتحولات المجتمع، وما يطرأ عليه من مشاكل كالاغتصاب مثلا والنزوح من القرى، كما يثير عددا من المسائل منها مسألة فساد أجهزة الأمن وقضية الطبقية في الهند، حيث ما زال نظام الطبقي الاجتماعي ساريا في العُرف على الرغم من إلغائه في القوانين.

ثمّة أربع طبقات في الهند تُقسّم الأفراد إلى فئات اجتماعية متفاوتة “القيمة”، هناك من هم في الأعلى ومن هم في الأدنى، كما هناك هؤلاء الذين لا يحق لهم “شرف” الانتماء لأي طبقة، ويُطلق عليهم اسم “المنبوذون”، أو “الذين لا يُلمَسون”، حيث لا يجب على المنتمين إلى الطبقة العليا لمسهم.

في فيلم “الأرض المُرّة” لـ”نيتين بسكار” (الناطق بلغة كونكاني المحكيّة في ولاية غوا) رجل طبّال يعزف في معبد القرية خلال الاحتفالات الدينية، وهو من طبقة المنبوذين الذين لا يحقُّ لهم حرق موتاهم كما تحتّم الديانة الهندوسية، وحين ماتت زوجته المريضة كان عليه إيجاد مكان لدفنها، لكن أهل القرية وأصحاب الأراضي لم يرضوا أن تدفن عندهم، حيث تبدأ رحلته المهينة وهو يحمل زوجته الميتة على أكتافه في محاولة العثور على أرض لدفنها.

إنه فيلم يُبرز على نحو مقنع حياة هذه الطبقة وأسلوب عيشها، وتبدو شخصياته الفقيرة بلباسها وطريقة تعاملها مع الآخرين كأنها حقا من الطبقة المعوزة، كما يمتاز الفيلم بمواقع تصويره، إذ اختار المخرج قرية منعزلة ذات طبيعة جميلة، ويمثل الفيلم نقدا صريحا لهذا التفاوت الطبقي وللتعامل الفوقي للطبقات العليا في الهند.

 

“الكلب وصاحبه”.. قصة نزوح جماعي

أما فيلم “الكلب وصاحبه” فهو الفيلم الروائي الأول للمخرج والمنتج وكاتب السيناريو “سيدهارت تريباتي” الذي كان يسافر عبر ريف الهند دارسا وموثقا للثقافات القبلية وأنماط الحياة الزراعية والتدخلات التنموية بينها، فيطرح قضية النزوح عن الأرض.

الفيلم بلغة تشاتيغارهي المحكية في منطقة تشاتيسغار الواقعة في وسط شرق البلاد، وهو قصة عن الحياة اليومية لرجل متواضع وكلبه الذي كان عليه أن يترك القرية بسبب منطق الاستغلال الاقتصادي والربح اللذين يحكمان في منطقة يواجه فيها القرويون نزوحا واسع النطاق بسبب اكتشاف الفحم.

وحين تخلّى أهل القرية عنها قبل عامين، ظلّ “شوكي” مصمما على البقاء فيها مع كلبه مقررا أن المنازل ليست للبيع، فهي ليست لهم بل للأرض التي ولدتهم، لكن مع إشعار الإخلاء الأخير من شركة التعدين يقضي “شوكي” وكلبه “خيرو” الليلة الأخيرة في القرية مفكرا في ما يحدث، وشعور بحنين لا يفارقه إلى أيام مضت للأبد.

فاز الفيلم بجائزة لجنة تحكيم النقاد الدوليين “فيبرسي”، نظرا لقدرته الرائعة على سرد قصة مؤثرة محلية وعالمية في آن واحد.

 

“البذرة”.. مثابرة أم أرملة في الشرق المتمرد

جاء فيلم “البذرة” للمخرجة “راجني باسوماتاري” ليجسّد الأمل والإيجابية في المناطق المتضررة من التمرد في منطقة بودو أقصى شرق البلاد، وهو يسرد حياة أرملة ومثابرتها في مواجهة احتمالات لا يمكن التغلب عليها.

تتأقلم “آلاري” لأكثر من عقد مع وفاة زوجها الذي قُتل خطأ في تبادل لإطلاق النار بين كوادر المتمردين وقوات الدولة، وسرعان ما يبرز لديها قلق جديد بشأن ابنها “إراك” الذي كبر مع مناخ سياسي متمرد على الدولة، حيث العديد من شباب بودو ينضمون إلى الحركة الانفصالية المستوحاة من قادتهم الأيقونيين، مثل “ماو” و”جيفارا”، وحين يفعل مثلهم تنهار كل أحلامها، إلى أن تكتشف أنه ترك لها مفاجأة سارّة. وقد نال الفيلم تنويها خاصا من لجنة التحكيم.

 

“برياني”.. مجتمع ظالم في الجنوب

نال الفيلم القادم من كيرالا في أقصى جنوب الهند “برياني” لمخرجه “سجين بابّو” جائزة لجنة التحكيم التي أشادت بالفيلم بسبب تعامله الطموح مع القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية، من خلال قلب وعين امرأة تتحول شخصيتها من خلال ظروفها.

يروي الفيلم حياة خديجة، وهي امرأة مسلمة متزوجة محصورة داخل جدران الأسرة، حيث أُجبرت على إخفاء رغباتها باسم الأعراف الدينية والاجتماعية، ثم حين تضطرها الظروف لعيش حياتها بعيدا عن قريتها التي نبذتها لاتهام أخيها بالانضمام إلى داعش؛ تختار طريقة مختلفة لتحرير نفسها ماليا وجنسيا، وحين تقرر خديجة الردّ على القوى التي دفعتها للعيش حياة يتيمة من الإذلال والبؤس تفعل هذا بأسلوب مبتكر يُعيد لها اعتبارها في نظر نفسها، إنه فيلم عن معاناة النساء المسلمات في كيرالا وعن الاتهامات التي تطال المسلمين حول انتماءاتهم.

 

“بانغران”.. جائزة أفضل فيلم هندي

أتى الفائز بجائزة أفضل فيلم هندي من ولاية مهاراشترا بلغة ماراتي، وهو فيلم ذو إنتاج ضخم مختلف عن كل الأفلام السابقة، إنه “بانغران” للمخرج والممثل الحائز على عدة جوائز في مهرجانات السينما الهندية “ماهش فامان مانجركار”.

الفيلم ممتع ويتبع أسلوب بوليود باعتماده الغناء كخلفية لرواية القصة التي تتناول حياة شابة أرملة تتزوج مرة ثانية، وتدور أحداثه في 1947 بعد فترة استقلال الهند مباشرة، لكن بالنسبة للنساء كانت الحرية لا تزال حلما بعيد المنال، فقد استغرق الأمر فترة طويلة من النضال كي يتقبل المجتمع فكرة الزواج من الأرامل، أو منع الفتيات القاصرات من الزواج. وفي مجتمع يهيمن عليه الذكور، أُجبرت النساء على الالتزام بدورهن التقليدي، والحفاظ على وظيفة الأم إلى الأبد، دون أن يكنّ قادرات على التعبير عن مشاعرهن.

جاء سرد كل هذا من خلال قصة شابة جميلة أرملة تتزوج من منشد أرمل مثالي في تعامله معها، لكن العلاقة بينهما تبدو معقدة لعدم قدرته على إرضاء رغباتها، فهو محب ومخلص لزوجته المتوفاة، لكن الأحداث تتطور نحو النهاية المأساوية في جو مفعم بالشجن وبالأغاني الجميلة.