مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي.. عالم مضطرب في حراك تعكسه الأفلام

ندى الأزهري

حين تصل مطار المدينة وأنت مسلح بكل الأوراق والوثائق التي باتت اليوم إجبارية للسفر، مثل شهادات التطعيم ووثيقة التسجيل قبل المغادرة لدى وزارة الصحة في البلد المتوَّجه له؛ ثمة شعور باطمئنان وفرحة بالوصول لا يعكرهما شيء، لا سيما مع موظفي مطار يبدون غاية في اللطف، لكن البعض يُحال نحو كوّة معينة، وهي إحالة ليست للخروج، بل للوقوف في صف طويل آخر. ما الذي يجري؟ سألتُ تلك الواقفة أمامي.. لماذا نحن هنا؟

إنه مجرد سوء طالع، فهذا البعض اختير لا على التعيين لإجراء فحص كورونا (كوفيد 19)، على الرغم من كل ما يملك من أدلة مثبتة على خلوّه من الفيروس اللعين. لحسن الحظّ، هذه المرة قضي الأمر بسرعة، وها نحن مستعدون أخيرا لمغادرة المطار لاستقبال نسمات بحر إيجة المتوسطية الذي تقع عليه تسالونيك، وهي المدينة الثانية في اليونان بعدد سكانها.

نعم، لقد كان الوباء صدمة غيّرت حياتنا وحركت حدودنا الجغرافية والأيدولوجية والاجتماعية والنفسية كما يقول منظمو مهرجان تسالونيك للسينما الوثائقية. وعنوان مثل “التحول.. عملية التغيير والانتقال إلى حالة جديدة للأشياء” يبدو مناسبا للدورة الـ24 التي أقيمت في الفترة من 10 وحتى 20 مارس/آذار الجاري.

مهرجان تسالونيك.. مرحلة استكشاف ما بعد الواقع الراهن

التحول بمعنى عملية التغيير والانتقال إلى حالة جديدة للأشياء و”تمهيد الطريق لواقع جديد يلغي أي يقين من الماضي”. لقد تغير العالم ومعه التفاعل البشري، حيث تطالب وسائل التواصل الاجتماعي بموقع متصدر في عالمنا، ونشأ واقع بديل ومتغير شديد التقلب وغير محدد. هذا العالم الذي أخذناه كأمر مسلم به واعتبرناه عالمنا لا يزال لغزا لم يتم حله. لذلك يتساءل المهرجان عن الطريقة التي يُسجّل فيها “شيء غير محدد”، فكيف “تُرسم خريطة للعالم قبل أن يتشكل بالكامل؟”.

 

مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي يستكشف ما بعد الواقع الذي نشهده حاليا، من خلال مجموعة مختارة من الأفلام التي تحدَّد بجرأة الأبطال ونقيض الأبطال، والأسرار الخفية والحقائق التي تعكس عتبة نعبرها، والمهرجان بسبب اقتناعه بالقوة الهائلة للسينما والفن لإعادة تشكيل الواقع يهتم بعرض أفلام تطرح جوانب ووجهات نظر لعالم معاصر متغير باستمرار، أفلام مفتوحة على العوالم والأشخاص بكافة تنوعاتهم وأفكارهم، حيث تلقي نظرة نقدية وحادة على أهم القضايا وأكثرها سخونة في عصرنا، ابتداء من المفهوم المتعدد الأبعاد للهوية ومصائر اللاجئين والمهاجرين، ومرورا بقضايا المرأة والأطفال والكبار ضحايا الحروب، ووصولا إلى حرب أوكرانيا التي كرّس لها المهرجان عدة أفلام في بادرة تضامنية له مع الشعب الأوكراني.

عالم مضطرب في حراك وتحوّل تعكسه الأفلام، ويبدو على تناقض مع سكون هذا البحر الذي تطلّ عليه المدينة، والهدوء الذي يثيره في النفس، بعد كل عرض وخروج من الصالات التي يقع معظمها على شواطئه.

السينما اليونانية.. حصة الأسد

المواضيع المُختارة تبرز في معظم الأفلام الوثائقية الطويلة التي عُرضت في المسابقات الثلاث لمهرجان تسالونيك، وهي “الدولية” و”القادمون الجدد” و”إلى الأمام”، كما في بعض أقسام وتظاهرات أخرى عديدة يصل عددها إلى 12 تظاهرة، وأبرزها “آفاق مفتوحة”.

صورة جماعية للفائزين بجوائز مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي

 

تحتوي كل مسابقة على 12 فيلما، ثلاثة منها من اليونان، وذلك في مبادرة تولي السينما اليونانية أهمية وتشجيعا، إذ تحتل الأفلام الوثائقية اليونانية مركز الصدارة في مهرجان تسالونيك، سواء في المسابقات أو في التظاهرات الأخرى، بعضها وثائقية يونانية من الماضي كجزء من قسم مبادرة “الوطن الأم”، أو “أراك.. القرن العشرين للسينما اليونانية”.

وتتيح جائزة “الإسكندر الذهبي” في المسابقة الدولية الطريق للفيلم الوثائقي الفائز بها؛ الذهاب إلى الأوسكار عبر وصوله إلى القائمة القصيرة، وتُعنى مسابقة القادمين الجدد بعرض الفيلم الأول أو الثاني لمخرجين في أول الطريق، أما “وإلى الأمام” فتهتم بأفلام ذات لغة سينمائية جريئة في طرحيها الفني والموضوعي، وهناك جوائز أخرى عديدة مالية تمنحها مؤسسات مختلفة.

أفلام الأطفال.. وأخطاء يرتكبها الكبار

في قسم المسابقة الدولية للأفلام الوثائقية الطويلة ارتأت لجنة التحكيم منح جائزتيها لفيلمين عن الأطفال، وذلك “لتأثرها العميق بهما معا، من حيث تسليطهما الضوء على الأهوال والأخطاء التي يرتكبها عالم الكبار بحق الصغار”، وكذلك لتميزهما ومنحهما الأمل في الأجيال القادمة، وقدرتهما على جعل العالم أفضل.

هكذا فاز بـ”الإسكندر الذهبي” (12 ألف يورو) الفيلم الأوكراني “منزل مصنوع من الشظايا” (A House Made of Splinters) (2022) للمخرج الدانماركي “سيمون ليرنغ ويلمونت”، والذي  يتابع مجموعة من الإخصائيين الاجتماعيين تعمل في شرق أوكرانيا، حيث ألحقتْ الحرب هناك أضرارا فادحة بالعائلات الفقيرة التي تعيش قرب خط المواجهة، وتسعى المجموعة بلا كلل لخلق مساحة آمنة وممتعة للأطفال في دار الأيتام، حتى يتقرر بعدها عبر المحاكم مصيرهم مع أسرهم أو أسر أخرى.

لقطة من فيلم “منزل من الشظايا” الفائز بجائزة “الإسكندر الذهبي” في قسم المسابقة الدولية

 

أما الفيلم الثاني الفائز بجائزة اللجنة الخاصة (5 آلاف يورو) فكان “بلاتو الصغير” (إشارة إلى أفلاطون) (Young Plato) (2021) للمخرجة الإيرلندية “نياسا كيانين” والمخرج “ديلان ماك غراس”.

تدور أحداث الفيلم في بلفاست في فترة ما بعد الصراع، ويرصد معاناة الطبقة العاملة المهمشة من الفقر والمخدرات والأسلحة على مدى أجيال، لكنه يرسم حلم مدير المدرسة “كيفن ماك أريفي” وفريقه المتفاني في تمكين الأطفال من رؤية ما وراء حدود مجتمعهم، وفتح آفاقهم ودفعهم للتفكير النقدي والمثابرة.

يركز الفيلم على أسلوب المدير في تطبيق الفلسفة مع تلامذته، ودورها في تشجيعهم على التشكيك في أساطير الحرب والعنف، وكذلك في بعض الأحيان تحدي ما يرويه لهم آباؤهم وأقرانهم ومحيطهم.

“سائقو الشيطان”.. الصوت المُضطهد لبدو فلسطين

في قسم “قادمون جدد”، مُنحت الجائزة الذهبية (10 آلاف يورو) لفيلم “أرض ذهبية” (Golden Land) (2021) للمخرجة الفنلندية “إنكا آشته”، وهو قصة عائلية مؤثرة عن قضية الهجرة والانتماء، حيث يتابع في سرد مؤثر متمكن وتصوير لافت أبا وأطفاله، وذلك في اتجاه معاكس لما يحصل عادة، فقد عادوا من أوروبا إلى الصومال، آملين عبر كفاحهم ببناء مستقبل أفضل على أرض الآباء والأجداد.

كما يفوز “سائقو الشيطان” (The Devil’s Drivers) (2021) للألماني “دانيال كارسنتي” و”محمد أبو غيث” في نفس القسم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة (4 آلاف يورو).

 

ويسلط هذا الفيلم المهم -الذي صُور خلال خمس سنوات- الضوء على فئة مهمشة ومضطهدة من البدو، وهم السكان الأصليين في المنطقة الواقعة في جنوب الجليل، هناك حيث بنى الإسرائيليون قراهم على قمم التلال ومنعوا الأهالي من استخدام أراضيهم ومصادر المياه الخاصة بهم. ولم تكتف إسرائيل بهذا، بل اعتبرتهم تهديدا لأمنها وتعرقل تشغيلهم، لهذا اضطر هؤلاء في سعيهم لكسب العيش إلى محاولة العمل في إسرائيل كعمال غير شرعيين.

يتابع الفيلم قصة حمودة وعائلته وتوقيفه من قبل القوات الإسرائيلية، كما يظهر كل هؤلاء المظلومين المهملين من أهل المنطقة الذين يعيشون بقلق وتوتر وملاحقات.

لقد منحت اللجنة الفيلم جائزتها للفيلم لأنه “يسلط الضوء على مسائل مُلحّة للغاية، ويعطي صوتا لمجموعة مضطهدة ومهمشة من الناس الذين تُركت قصتهم إلى حد كبير دون سرد”.

“هاو” و”رسائل إلى نيقولا”.. قصص متشابكة وأم تتحدث لطفل لم يولد

ويفوز فيلم “العروس” (The Bride) للإيطالية “دوريا تزيانو” و”سميرة غوادغولو” بـ”الإسكندر الذهبي” (6 آلاف يورو) في مسابقة “إلى الأمام”، وذلك في فيلم يراقب الحياة الواقعية في الأماكن اليومية لأبطاله، حيث السلطة الذكورية القامعة، معتمدا بذلك على الصمت أكثر من الكلام، وذكريات الماضي في قرية ريفية جنوب إيطاليا تستعد لتحضيرات الاحتفال بعرس.

 

كما يفوز فيلمان مناصفة بجائزة لجنة التحكيم، الأول هو فيلم “هاو” (Amateur) للإسباني “مارتان غوتييريز”، ويتضمن الفيلم ثلاث قصص متشابكة؛ رجل عجوز متزوج، وذكرى انتحار شخص قضى أيامه الأخيرة وهو يحاول أن يتخلى عن متعلقاته، والقصة الثالثة تصوير مكثف لأحد أحدث أفلام المخرج الفرنسي “جاك أوديار” وهو يرسم صورة حميمة للقرية الجبلية.

أما الفيلم الثاني فهو “رسائل إلى نيقولا” (Lettersto Nicola) لليونانية “هارا كامينارا”، حيث شهادة مُصوَّرة لأم أفريقية تروي لطفلها الذي لم يولد بعد تجربتها على متن سفينة الإنقاذ أكواريوس في وسط البحر الأبيض المتوسط.

“أدر وجهك للشمس”.. جنود مجهولون غيّبتهم حرب هتلر وستالين

هناك جوائز أخرى عدة تمنحها شركات أفلام من مختلف أقسام المهرجان، كما أن هناك أفلاما في المسابقات الثلاث المذكورة وفي قسم “آفاق مفتوحة” غاية في الإتقان والإمتاع، وكلها أفلام مهمة وإن لم تفز بجوائز.

أهم هذه الأفلام “ميلان كونديرا.. من المزحة إلى التفاهة” (Milan Kundera From the Joke to Insignification) (2021) للمخرج التشيكي “ميلوسلاف شميدماير”، ويتابع الفيلم سيرة الكاتب التشيكي الفرنسي الشهير “ميلان كونديرا” الذي خُلعت منه جنسيته بعد الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، واضطر للمغادرة إلى فرنسا التي أصبحت وطنه واللغة الفرنسية لغة أدبه.

وفيلم آخر هو “أدر جسدك للشمس” (2021) للهولندية “ألونا فان ديرهورست”، ويروي قصة مأساوية ومذهلة لجندي سوفياتي من التتار عانى من الأسر لدى القوات النازية خلال الحرب العالمية الثانية، تلته معاناة أخرى خلال حكم ستالين، حيث تم إرساله إلى سجون العمل القسري “غولاج”، ليقع هناك في حب فتاة مجهولة تراسله أملا في خلاصه.

 

وبعد 60 عاما تبدأ ابنة هذا الجندي الأسير “سنا” القاطنة في هولندا باقتفاء أثر والدها الصامت، وذلك في محاولة منها لفهم ما الذي جعل والدها هو هذا الرجل الذي عرفته عندما كانت طفلة، حيث تستخدم مذكراته ومختلف السجلات الشخصية والعامة في عملية البحث، كما تقوم برحلة إلى المعسكرات ترافقها فيها المخرجة إلى سيبيريا.

تنقب المخرجة في أرشيف الأفلام للعثور على آثار هؤلاء الملايين من الجنود السوفيات الذين وقعوا في نيران الحرب بين هتلر وستالين وكان لهم دورهم، لكنهم استبعدوا من رواية بطولات الحرب وذكرياتها.

إنه فيلم يُحوّل الجنود المجهولين إلى وجوه وأشخاص لم يكن أحد لينتبه لهم لولا هذا الفيلم القوي.