مهرجان خريبكة.. أفريقيا تحلم بالتغيير عبر السينما

المصطفى الصوفي

الأطفال لا يعبؤون بالمرض مهما غزا أطرافهم الطرية ونهش جسدهم النحيف في صمت

الأطفال لا يعبؤون بالمرض مهما غزا أطرافهم الطرية ونهش جسدهم النحيف في صمت، فتراهم في لحظات انتشاء يلعبون ويمرحون ويملؤون الفضاء زعيقا مثل فراخ صغيرة، ينتقلون في جنينية حسناء من غصن إلى آخر دون إحساس بالخطر الذي يتهددهم، وحين يباغتهم قط جائع ينتهي حلمهم بضربة واحدة، ويتحول رنين شقشقتهم إلى مأتم، ويتابع فصوله الحزينة باقي السرب الذي طار وحطّ على السطح، وهو يراقب القطّ يتسلل بين أغصان الشجرة الكبيرة كشيطان.

الستار يُسدل على هذه الدورة وفي قلبها غصّة، فرغم كل الجهود المبذولة من أجل جعل خريبكة عاصمة للسينما في أفريقيا إلا أنه اليوم يعيش ظروفا مالية قاسية

ميلودا.. مريضة لا تمل من اللعب

بين تلك الصبايا بلباسهن المزركش الأنيق واللاتي يلعبن لعبة الغميضة، وفي ظلّ تلك الشجرة الشامخة، توجد طفلة جميلة حدّ رقة الورد الذي يفوح بعبق ساحر لم يخطر على البال، إنها “ميلودا” المسكينة تلهو وتلهث وتجري وتلتقط أنفاسها بصعوبة، يا له من مشهد أليم للغاية، تشفق الصبايا على حالها وبعضهن يسخرن منها لكونها لا تستطيع أن تكمل اللعبة إلى النهاية، تكحّ بقوة وتسقط على التراب، تلتقط أنفاسها من جديد ثم تنهض لتواصل الجري، لكن قواها تخور هذه المرة وتسقط في نهاية المطاف.. المشهد مؤلم للغاية ومُبكٍ في بعض الأحيان.

في لحظة تظهر والدة ميلودا في الجهة الخلفية من تلك الأكواخ المبنية من الطين والقشّ، في ذلك الريف الأفريقي البعيد تظهر الأم وتلمح فلذة كبدها عن قرب، تهرول باتجاهها دون أن تعبأ بالشوك الذي وخز قدميها النحيفتين، ترتمي على ابنتها الصغيرة وتحضنها بحنان لا يوصف، تبكي في صمت ثم تنهض ابنتُها وتنفض ما علق بها من غبار، ترافقها إلى الكوخ وهي تدري أن صغيرتها قد اشتد عليها المرض، فقد حذرتها أكثر من مرة أن لا تلعب تلك اللعبة لأن فيها خطرا كبيرا على صحتها المنهكة أصلا.

ميلودا برأسها الأصلع الجميل وعينيها الناصعتين وأسنانها البيضاء المتراصة كقطة ثلج، تجلس جوار الكوخ وهي ترافق صويحباتها يلهون دون كحة ولا سقوط ولا غبار، تتألم في صمت وتبصق في التراب، ثم ترسم أشكالا مبهمة بعود شجرة على الأرض المتعطشة للماء دون أن تعرف ما الذي تعنيه تلك الرموز.

ميلودا مريضة جدا ومرضها خطير ككل الأمراض التي تفتك بصغار القارة السمراء، إنها حكاية مؤلمة للغاية كتلك التي تعيشها الفتاة دجو “السوبرمان”، أو “سوبا مودو” التي تحلم بالذي لا يمكنه أن يتحقق رغم إصابتها بمرض السرطان.

 

مودو.. هالكة تحلم بلمس النجوم

مرض “سوبا مودو” المتأخر بالسرطان لن يثني البطلة عن تحقيق الحلم الذي تريده، فهي تريد أن تتلمس النجوم مع بقية صويحباتها في عالم مليء بالانكسارات، وأبطاله غير موجودين أصلا. إنه نوع من الخيال الأسطوري الذي توجده السينما الأفريقية من خلال هذا الفيلم لمخرجه ليكاريون وإينانا.

الشابة الجميلة تحلم بأن تصبح بطلة خارقة، غير أن حياتها تظلّ مهددة بسبب المرض. تتكفل عائلتها بمساعدتها على تحقيق حلمها في قريتها الفقيرة التي تعيش فيها حياة بسيطة، فنهاية البطلة حتمية، لكن أهالي دجو لا يريدون أن ترحل صغيرتهم دون أن تحقق جزءا من حلمها ولو بطريقة رمزية، وهو ما يقودهم إلى تصوير شريط سينمائي يجسد أدواره أفراد عائلة دجو، والتي تلعب فيه دور البطولة بامتياز وبفرحة عارمة، وقد تكون آخر هدية تقدمها “دجو” إلى الأهالي قبل رحلة العشاء الأخير، متجاوزة كل أشباه الوهن والألم والفقر، وذلك من أجل لحظة صادقة وإنسانية تترسخ فيها قيم التضامن المطلق لزرع الفرحة والابتسامة في وجه الطفل المريض، ترسمها مشاهد هذا الفيلم الذي عالج حكاية واقعية في قالب فني مؤثر ومؤلم للغاية، مما قاده إلى نيل الجائزة الكبرى “جائزة عصمان صامبين” خلال اختتام فعاليات الدورة الـ21 لمهرجان السينما الأفريقية يوم 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري، والذي جرى في أجواء احتفالية رائعة بالمركب الثقافي لمدينة خريبكة التي تشتهر بأنها أول مصدر للفوسفات في العالم.

والملاحظ أن الفيلم (مدته 74 دقيقة) تُوج مؤخرا بجائزة أفضل سيناريو خلال الدورة الـ29 لأيام قرطاج السينمائية في تونس خلال الفترة من 3 وحتى 10 نوفمبر/تشرين الأول الماضي، وكان من سيناريو عدد من الكتّاب وهم موغانبي نتيغا ووكامو وا ندينغو وأنجيري غاكورو وسياس ميامي، كما قام بتشخيص أدواره كل من ستسي واويرو ووماريان نينغو ونياوارا نداميبيا، فيما ألفت موسيقاه التصويرية سان بيغير، ومونتاج كريستيان كرامر وشاريتي كيريا، وإنتاج “وان فين داي فيلمز”.

إنه فيلم بسيط لكنه ممتع، وتشدك مشاهده بحكايته المشوقة وبمواصفاته الإنسانية التي تتعاطف مع مواقف تذرف لها الدموع، خاصة مثل هذه المواضيع الموجهة للطفولة البريئة التي تعيش أوضاعا مزرية في القارة الأفريقية. وبالتالي يحمل الفيلم رسالة فنية نبيلة موجهة إلى أصحاب القرار للاهتمام بهذه الفئة المحرومة التي تعيش ويلات الفقر والمرض والجوع والحروب والمجاعات، لكنها تنتصر على أوجاعها وآلامها بالحلم فقط، فهل يكفي الحلم لتخليص القارة من ويلاتها لتبقى السينما في بعدها الفني والجمالي؟ إنها محاولة لرسم خارطة طريق لهذا الحلم على أمل السير في دروبه، ليُخرج القارة السمراء من الظلمات إلى النور.

 

“فتوى” و”رأفة الغاب” و”الحصّادة”.. أفلام من أفريقيا

وعودة إلى جوائز الدورة التي استمرت من 15 وحتى 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري، فقد آلت جائزة “سمير فريد” الخاصة بلجنة التحكيم للفيلم التونسي “فتوى” للمخرج محمود بن محمود، وهو الفيلم الذي تُوّج مؤخرا بالجائزة الكبرى “التانيت الذهبي” في مهرجان قرطاج السينمائي الأخير.

و”فتوى” هو فيلم كتبه المخرج نفسه وشخصه كل من أحمد الحفيان وغالية بن علي وسارة الحناشي، ويحكي قصة إبراهيم التونسي المقيم في فرنسا الذي يعود إلى بلاده لحضور جنازة ابنه الذي لقي مصرعه في حادثة دراجة نارية، لكنه يكتشف أن الراحل كان ينشط ضمن خلية ذات توجه أصولي متشدد، ويسعى بمختلف الطرق لمعرفة من كان وراء انحراف ابنه، فضلا عن شكّه في ظروف وملابسات وفاته.

وذهبت جائزة السيناريو إلى الفيلم الرواندي “رأفة الغاب” لمخرجه جويل كريكيزي، ويحكي قصة حرب ضروس يصعب فيها التمييز بين العدو والحليف وسط أكبر غابة كثيفة وخطيرة في أفريقيا، وشارك المخرج في كتابته إلى جانب كل من كازي سكورين وأورليان بودينو.

ونال جائزة الإخراج التي يطلق عليها اسم جائزة “إدريسا ويدراغو” فيلم “الحصّادة” لمخرجه إيتيان كالوس من جنوب أفريقيا، وقد استحوذ على اهتمام الجمهور وكان مرشحا لنيل الجائزة الكبرى، وذلك لرؤيته الإخراجية المميزة والأداء اللافت لممثليه، فضلا عن الموضوع الذي يطرحه في قالب فني وسينمائي ممتع.

و”الحصّادة” فيلم اجتماعي وجداني يتقاسم مع المُشاهد الكثير من المواقف الصعبة، إضافة إلى القضايا التي ترتبط بالضياع والتشرد والعنصرية والأمومة، والقيم الروحية المحافظة والإرث، والمراهقة التي يعيشها البطل “خوانو” في منطقة معزولة عن السكان البيض، فضلا عن ألم اليُتم والوحدة والصراع من أجل تحقيق الذات في المجتمع.

 

سينما القارة السمراء.. ثراء الرؤية

جائزة أفضل “دور رجالي” التي يُطلق عليها اسم الممثل الراحل ابن مدينة خريبكة “محمد بسطاوي”، فقد ذهبت للممثل سامي بوعجيلة، وذلك لتألقه اللافت في فيلم” السعداء” لمخرجته صوفيا دجاما بندجبار من الجزائر، أما جائزة أفضل “دور نسائي” فمُنحت للممثلة المغربية “خلود” لأدائها المميز في فيلم “أنديكو” لمخرجته سلمى بركاش. وكانت جائزة أفضل “دور رجالي ثان” من نصيب ستيفان باك عن فيلم “رأفة الغاب” لمخرجه الزواني جويل كريكيزي الذي فاز بجائزة السيناريو، وعادت جائزة أفضل “دور نسائي ثان” للممثلة لينا الخودري عن الفيلم الجزائري “السعداء”.

لجنة تحكيم هذه المسابقة التي ترأسها المخرج الكونغولي بالوفو باكوبا كانييدا وضمت في عضويتها المنتج عمر سالو من السنغال ومخرج الأفلام الوثائقية وزيزي غامبو من أنغولا والمخرج البوركينابي أبولين تراوري والسيناريست الموزمبيقي ليسينو أزيفيدو والناقدة والإعلامية ياسمين بلماحي والممثلة نفيسة بنشهيد من المغرب.. أكدت على جودة مختلف الأفلام، مبرزة قيمتها وتقاربها في مناقشة مواضيع ترتبط بالواقع والمجتمع، لكن مع اختلافات بينها من حيث المعالجة السينمائية والطرح الفني، وهو ما خلق نوعا من الثراء في الرؤية السينمائية العامة للخطاب السينمائي في القارة السمراء، وفي علاقتها بكل ما هو كوني وإنساني وجمالي.

فيلم "أنا لست ساحرة" يحكي قصة فتاة منبوذة من طرف المجتمع لاتهامها بممارسة السحر والشعوذة

جائزة “دون كيشوت” للساحرة شولا

وشارك في هذه المسابقة التي شهدت تنافسا قويا ومتابعة مهمة من قبل الجمهور 15 فيلما يمثلون 13 بلدا أفريقيا هي رواندا وكينيا وجنوب أفريقيا وتونس وزامبيا ومالي والكونغو برازافيل والكوت ديفوار وتنزانيا وغانا والكاميرون والجزائر وبنين ثم المغرب.

وخصصت إدارة المهرجان بموازاة المسابقة الرسمية جائزة تمنحها الجامعة الوطنية للأندية السينمائية المغربية، وذلك تقديرا للدور الذي لعبته ولا تزال في وإثراء الحقل السينمائي المغربي، مسابقة للظفر بجائزة السينيفيليا “دون كيشوت”.

تكونت هذه المسابقة من أحمد كورال ممثل النادي السينمائي من برشيد، وفاطمة الفوراتي عن النادي السينمائي الخريبكي، وإدريس اليعقوبي عن النادي السينمائي بالقنيطرة ضواحي العاصمة الرباط، وارتأت منح الجائزة لفيلم “أنا لست ساحرة” لمخرجته لينغانو نيوني من زامبيا.

وفيلم “أنا لست ساحرة” يحكي قصة فتاة منبوذة من طرف المجتمع لاتهامها بممارسة السحر والشعوذة، حيث تعيش البطلة “شولا” وضعا إنسانيا قاسيا للغاية وهي مكبلة اليدين بشريط داخل مخيم للساحرات، وإذا ما حاولت شولا التخلص من قدرها تتحول إلى عنزة بيضاء، وهو الأمر الذي يجعل البطلة بين خيارين؛ إما أن تعيش بقية حياتها كساحرة مكبلة في حالة وضيعة أو كعنزة بيضاء.

إنه فيلم فيه الكثير من الإشراقات السينمائية الممتعة التي تطرح أكثر من سؤال عن جدوى بعض الطقوس والعادات في بعض المجتمعات الأفريقية التي تتخبط في أوحال الجهل والأمية والمعتقدات البالية.

الفيلم الرواندي "رأفة الغاب" يحكي قصة حرب ضروس يصعب فيها التمييز بين العدو والحليف وسط أكبر غابة كثيفة وخطيرة في أفريقيا

أفريقيا.. الحلم بالتغيير عبر السينما

تلك إذن كانت بعضا من مشاهد مرافقة لميلودا المريضة ذات العينين اللامعتين والرأس الأصلع الجميل، مشاهد توزعت بين الحلم والمرض والحياة والموت، وبين الكثير من القيم التي تتصارع فيها الأعراف وتتجاذب أنساق الوقائع والأحداث مجتمعا أفريقيا موغلا في الغموض والتنوع. وهو مجتمع يحلم بأن يغير ما به عبر السينما التي تظل ذلك الضوء الآتي من زوايا متعددة ليمنح للعالم وللمشاهد رؤى مختلفة تنتصر لقيم الوجدان والإنسانية، ولروح الحلم في بعده الجمالي والكوني.

تلك كانت المشاهد التي أسدل الستار عليها بإضاءة النور في مختلف زوايا القاعة السينمائية الأفريقية، لتبقى السينما الأفريقية في خريبكة من خلال كرنفالها الاحتفالي بسحر الأدغال محطة عبور إلى ضفة الحلم مهما كانت الإكراهات والصعوبات.

شهد حفل الاختتام بالإضافة إلى فقرة توزيع الجوائز تكريم أحد الوجوه السينمائية المتألقة والبارزة في السينما المغربية الممثل المغربي محمد خوي، وهو ممن لعب أدوارا مهمة في أفلام وطنية ودولية ونال جوائز متعددة من بينها “سميرة في الضيعة” للطيف لحلو، و”أندورمان من دم وفحم” لعز العرب العلوي، و”حب في الدار البيضاء” لعبد القادر لقطع، و”بيل أو فاص” لمخرجه حميد زيان الذي فاز مؤخرا بجائزة أفضل فيلم روائي طويل بمهرجان كاليفورنيا السينمائي، وكذلك “عين النساء” لرادو ميهايلينو، وفيلم “علي بابا والأربعين لصا” لمخرجه بيير أكنين، وغيرها من الأفلام التي استحق عنها التتويج والتكريم في كثير من المهرجانات والمناسبات.

 

يوم سينمائي في سجن خريبكة

إضافة إلى عروض الأفلام والعديد من الأنشطة الموازية في هذه الدورة التي كرمت السينما الأنغولية كضيف شرف، فقد شهدت الدورة ندوة دولية مهمة حول “النقد السينمائي في زمن شبكات التواصل الاجتماعي”، فضلا عن يوم سينمائي في السجن المحلي بخريبكة، وهي الفقرة التي كان لها أثر كبير على نزلاء السجن وعلى المتابعين، لما لها من أبعاد إنسانية وفنية وتواصلية لجعل السينما فنا للجميع يصل إلى مختلف الفئات وفي كافة الفضاءات.

هكذا يُسدل الستار على هذه الدورة وفي قلبها غصّة، رغم كل الجهود المبذولة من أجل جعل خريبكة عاصمة للسينما في أفريقيا، خاصة وأن المهرجان يُعد من أقدم المهرجانات السينمائية في المغرب وأفريقيا بعد مهرجان واغادوغو الذي تأسس عام 1977، لكنه اليوم يعيش ظروفا مالية قاسية، وهو ما يحول دون تحقيق رهاناته الفنية والتنموية بسبب تأخر بعض الشركاء، ليبقى المجمع الشريف للفوسفات الشريك الرسمي الملتزم والوفي إلى جانب المركز السينمائي المغربي، وهذا ما جعل نور الدين الصايل مدير مؤسسة المهرجان التي تنظم هذه التظاهرة يطلق نداء في افتتاح الدورة من أجل إنقاذ المهرجان ومنحه المزيد من الدعم الكافي، وذلك لتحقيق هذا الحلم السينمائي بكل احترافية.