مهرجان “سينما الواقع” الوثائقي في باريس.. عن أحلام المهاجرين

ندى الأزهري

يحكي الفيلم صعوبات الهجرة وعبور المغرب وموريتانيا لمن قرر الهجرة

يُعدّ مهرجان “سينما الواقع” الذي يعقد في باريس من أهم مهرجانات الفيلم الوثائقي، وهو منذ نشأته قبل أربعين عاما فرض نفسه كمهرجان مرجع للسينما الوثائقية في فرنسا، فهو مهرجان اهتم بالتنوع سواء في التأليف السينمائي والأفكار أو في الشكل، وهو يجمع سنويا جمهورا واسعا مخلصا له وفضوليا ومهتما به.

نسخته الأخيرة التي انعقدت في الفترة من 15 وحتى 24 مارس/آذار الجاري في مركز جورج بومبيدو الثقافي بباريس؛ حاولت -بحسب المنظمين- تقديم الأفضل والأكثر ابتكارا في الإنتاج الوثائقي العالمي، كما كانت مناسبة للتعرف على تطورات هذا النوع عالميا، فهذا المهرجان يجذب أفلاما من مختلف دول العالم، إضافة إلى أسماء بعضها معروف ومكرّس وآخر جديد، وذلك كي تشارك جميعها في المسابقة الرسمية أو في الاستعدادات والتظاهرات العديدة الموازية، أو في اللقاءات بين محترفي هذا النوع، وهو ما يجعل من هذا المهرجان موعدا مميزا مع هؤلاء الذين يصنعون الوثائقي اليوم.

سمحت اختيارات هذا العام بتأكيد توجه العام الحالي للفيلم الوثائقي، وذلك من حيث اهتمامه المتزايد بأساليب تعبير جديدة منفتحة على آفاق واسعة تلتقي بالفنون المعاصرة التشكيلية، وبزوال الحدود أكثر فأكثر بينه وبين الروائي، وعلى سبيل المثال الفيلم المشارك بالمسابقة الرسمية التي تنافس فيها 22 فيلما والفائز “بالجائزة الكبرى لمهرجان سينما الواقع” وبثمانية آلاف يورو، إذ يتجلى فيه بوضوح هذا الاقتراب السردي من حدود الروائي، وهذا الاهتمام بالشكل الذي يجعل من الصورة وسيلة للتعبير أكثر من الكلمة التي هي “سلاح” الوثائقي الأساسي.

يستقبل "كليف" في مستودعه زبائن من أوروبا الشرقية؛ طامعين بسياراته الرخيصة التي أعاد تشكيلها وتركيبها من جديد

نيجيري في النمسا.. أسطورة الحديد

“تحركات الجبل المجاور” هو إنتاج نمساوي فرنسي مشترك للمخرج سيباستيان براميشوبير، واختار منطقة جبال الألب في النمسا -أكبر مستودع وطني لخام الحديد يعود تاريخه إلى العصر الروماني- ليشكّل سردا من نوع خاص، وكأنه استعادة وإعادة تدوير لهذه الخامة “الأبدية” بحسب أسطورة نيجيرية.

هناك مهاجر نيجيري يعمل وحيدا على حديد من نوع آخر، يمرّ “كليف” على مواقف السيارات قرب المتاجر الكبرى باحثا عن تلك التي تصلح لاستخداماته، وفي مستودعه الضخم المنعزل قرب الجبال؛ سيارات من كل الماركات والأنواع والأحوال، بينها المكسّر تماما والخارج من حادثة ما، وبينها ما هو في طريقه للتصليح والانبعاث من جديد على يديه.

يستقبل “كليف” في مستودعه زبائن من أوروبا الشرقية من هنغاريا وبلغاريا من وقت لآخر؛ طامعين بسياراته الرخيصة التي أعاد تشكيلها وتركيبها من جديد، أما كل ما يتبقى من سيارات غير قابلة للتصليح فهو يصلح للاستخدام من جديد كقطع غيار، وتكون وجهته أفريقيا وتحديدا نيجيريا.

خلال يومه يراقب “كليف” زبائنه وأساليبهم في المساومة، يصغي للطبيعة وأصواتها ويتأمل في سحرها، وعلى وقع موسيقى تصويرية قادمة من أعماق الغابات النيجيرية؛ يسترجع أسطورة نيجيرية تربط الحديد بالخلود، والعمل بالحديد بأرواح الأرض، ويقول مطلعها “رِجْلٌ من ذهب، قلب من فضة، قبعة من حديد، الحديد خالد للأبد..”.

أسطورة تُستعاد مرات عدة في الفيلم، وعلى وقعها يكون المشهد الختامي للفيلم، وسيارة “كليف” تلفّ لتعود به إلى المستودع قاطعة الغابات النمساوية الباردة، يعود إلى نيجيريا بعد بيع كل ما جمعه خلال سنة من حديد السيارات المفككة.

 

فيلم ثقيل الوطأة.. أحيانا

باستثناء هذه المشاهد التي تدور في نيجيريا والتي أضفت حيوية ومتعة على الفيلم، كانت المشاهد صامتة في معظمها، وطويلة متكررة الأحداث في يوميات متماثلة في المكان نفسه، حيث يعمل “كليف” ويقيم ويتبادل حوارا قصيرا ومتشابها، وكيف لا يكون قصيرا وهو وهم -أي زبائنه- لا يتكلمون لغة مشتركة؟

هذا ما جعل من الفيلم (86 دقيقة) ثقيل الوطأة أحيانا، فمع كل دقة مطرقة وفكّ برغي وتحميل محرك وغسل ثياب وطهي طعام؛ يكرر المخرج الحدث وينسى الاهتمام بصاحبه، أي البطل لناحية تأملاته وأفكاره وشخصيته، بجعله يتحدث مثلا عن حياته، إن لم تكن الماضية فالحاضرة.

يبقى “كليف” نائيا عن المشاهد حتى بالصورة، فالعدسة نادرا ما تتوقف عند تعابيره أو وجهه، لدرجة لا تتذكر معها شكله، فهل هذا تعبير عن النظرة للغريب؟

ثمة مشهد وحيد يتحاور فيه “كليف” مع زميله النيجيري حول حياتهما في الغرب ونظرتهما، وهذا بعد عودته خائبا من موعد لم يتمّ ولم يكلف صاحبه -وهو من أهل البلد- نفسه إلغاءه. “هؤلاء البيض العنصريون، إنهم ليسوا كما في نيجيريا حيث تكفي الكلمة للالتزام بتعهد”، وهنا “لا يلتزمون إلا بالعقود وليس بالكلام”، وعلى هذه الأرض الغريبة عليك بالعمل فـ”إن لم تعمل لن تأكل”.

مشهد كان رائعا ولكنه غير كاف، فقد أبقى المشاهد على إحساسه بنقص هذا الفيلم “الوثائقي” لعناصر مهمة.

زهرة شابة جذابة وظريفة وعنيدة، أما سيد أحمد فهو ميكانيكي ومدرب قيادة

“حمادة”.. حلم الصحراويين بالهجرة

الفيلم الفائز بجائزة الجمهور الشاب هو فيلم عن الشباب اسمه “حمادة” للمخرج الإسباني إيلوي دومينغيز سيرين، فقد ربح جائزة قيمتها 15 ألف يورو تُمنح لتوزيع الفيلم، مما يعطيه فرصة العرض في فرنسا وأوروبا، كما حصل الفيلم على جائزة من المركز الوطني للفنون التشكيلية مناصفة مع فيلم من مدغشقر “نوفي نوفي” لميكائيل أندريانالي.

تسأل زهرة في بداية الفيلم: أي يوم نحن اليوم؟

يرد الشاب ساخرا: مثل البارحة!

بالنسبة للسيد أحمد وأصدقائه زهرة وطاهر؛ فإن الأيام تتتابع وتتشابه في وسط هذه الصحراء الكبرى في الجزائر، في بيئة قاحلة وعرة يحلم شبابها واحداً تلو الآخر بمغادرة مخيم اللاجئين الصحراويين، هناك حيث لا يسمع المرء سوى الرياح التي تهب ناثرة معها الرمال ومحركات السيارات القديمة وأحاديث عن الملل، وحلم المغادرة والفرار إلى أوروبا.

هؤلاء الذين بقوا يقضون أيامهم في إصلاح السيارات التي لا تقودهم إلى أي مكان، ويناقشون التغييرات السياسية التي لا تحدث، ويحاولون مجابهة كآبة الحياة اليومية والاستمتاع بيومهم والحلم فيه بحياة أفضل، وذلك خارج حدود هذه المنطقة القاحلة.

 

زهرة وسيد أحمد.. لاجئون على أمل

عنوان الفيلم “حمادة”، وهو مصطلح عربي يكتب الفيلم في بدايته: يعني “فارغ” أو “غير حميم”، وهو وصف اعتمده الفيلم بالنظر إلى هذه المناظر الطبيعية الرملية والصحراوية، وبالنظر إلى فراغ حياة الشباب فيها، لكن روح الدعابة والحماس للشخصيات لا سيما زهرة؛ تتناقض مع حقيقة المخيم والضغوط اليومية التي يعيشها اللاجئون الصحراويون.

زهرة شابة جذابة وظريفة وعنيدة، تُشيع حولها أجواء من الأمل والحماسة والرغبة بالتغيير. وهي -على عكس أصدقائها الذكور- لا تنوي مغادرة المخيم، حيث تتكيف معه وتقضي معظم وقتها في تعلم القيادة أو البحث عن وظيفة، وادعاء مؤهلات وخبرات لا تتمتع بها. زهرة شابة مصرّة ومثابرة، تنتهي بالحصول على عمل، وهو وإن كان تطوعيا فإنه سيقودها حتما إلى تغيير تحلم به.

أما سيد أحمد الميكانيكي ومدرب القيادة، فإن الفيلم يرصد مشاعره وتطورها، وبالتالي تحولاته من شاب لم يفكر يوما بالهجرة، وحتى مع سفر أصدقائه -كل بوسيلته- إلى إسبانيا؛ يظن “أن كل ما سيفعله في الغرب يستطيع فعله حيث هو”، لكن مرض أمه غيّر الكثير، فالأعمال الصغيرة التي يؤديها من وقت لآخر قد تصلح لليومي، ولكن ليس للطارئ.

سيد أحمد قرر السفر، ولن يرتاح إن لم يفعل كما يعترف لصديقه طاهر، إنما بعد أن فعل ووصل إلى إسبانيا؛ اكتشف أخيرًا أن فيها “كل شيء فظيع”، إنه “ابن عائلة ولا يريد العيش في المهانة والعنصرية”، ويصرّ على هذا خلال محادثة هاتفية مع أصدقائه بأنه يريد العودة “فنحن لا نعرف قيمة الشيء إلا حين نفقده” كما يقول لأصدقائه الصحراويين، إذ يبدو أنه اعتاد على إيقاعات وأجواء المعسكرات الصحراوية، وهو في قرارة نفسه متعلق بها.

تمكّن المخرج الإسباني إيلوي دومينغيز سيرين من رسم صورة رائعة للشاب الصحراوي

الشاب الصحراوي.. صورة رائعة في محيط قاسٍ

يحكي الفيلم من خلال سرد إحدى الشخصيات صعوبات الهجرة وعبور المغرب وموريتانيا لمن قرر الهجرة، “فلا أحد يعبأ بالصحراويين”، كما يسترجع ذكريات البعض عن حياة مضت وانتهت لهؤلاء الذين تركوا –الصحراء الغربية- جنوب المغرب بسبب الأحداث السياسية التي يتطرق لها الفيلم في بضعة مشاهد.

يستعيد الفيلم ماض حين كان الأجداد يأتون من سفر وبحوزتهم ما اصطادوه من أسماك لذيذة، أما اليوم وفي هذا المخيم “فانظروا الأسماك تأتينا في معلبات”.

تمكّن المخرج الإسباني إيلوي دومينغيز سيرين من رسم صورة رائعة للشاب الصحراوي، وجمع الفيلم بين لحظات حميمية صادقة لشخصياته وحافلة بالمواقف والأقوال الطريفة والذكية وسط هذا المحيط القاسي.

المخرج الشاب (1985) عمل في الصحافة والإذاعة قبل أن يصبح مخرجا، ترك إسبانيا إلى السويد وأخرج فيلمه القصير الأول عام 2012، وتابع إخراج الأفلام القصيرة، وفاز بالعديد من الجوائز، وتمّ اختياره في “مواهب البرليناله” (مهرجان برلين السينمائي) عام 2017.