مهرجان شرم الشيخ.. احتفاء بالسينما الآسيوية وحضور لافت للوثائقية رغم الهِنات

قيس قاسم

لقطة من الفيلم الأفغاني "رونا.. أم عظيم" للمخرج الأفغاني جامشيد محمودي الفائز بجائزة أفضل روائي طويل

تطرح الدورة الثالثة لمهرجان شرم الشيخ للأفلام الآسيوية بعد إتمام أعمالها التي استمرت من الثاني وحتى الثامن مارس/ آذار؛ أسئلة عن مغزى عقد مهرجانات سينمائية في مدن عربية لا تتوفر على بنية تحتية “سينمائية”، وما معنى أن تُعرض الأفلام المشاركة فيها داخل “قاعات” لا تستوفي شروط العرض؟ وما الغاية من أن تُقيم مهرجانا سينمائيا والشكوى من ضعف ميزانيته تسبق أيام انعقاده؟

أما السؤال المحوري فيتعلق بالجمهور وضعف وجوده في مناطق بعيدة سكانها قليلون، وحيويتها نابعة من كونها مراكز اقتصادية سياحية في الأساس. تلك الأسئلة وغيرها أخذت حيزاً كبيراً من نقاشات ضيوف الدورة، وكانت هِنات التنظيم والمشاكل اللوجستية حاضرة بين طياتها.

في العادة وحين تغلب الجودة على مجريات أي دورة، لا يتوقف المعنيّون بمتابعتها وتقييمها عند تفاصيلها الصغيرة، فالعامّ الجيد يطغى على السلبي التفصيلي. لكن في الدورة الثالثة حدث العكس تماماً، فقد سيطرت الهِنات التنظيمية والأخطاء التقنية على المشهد العام، مع أن فيها جهداً حقيقياً يشي بالرغبة في تحويل شرم الشيخ إلى مهرجان كبير يتجاوز مساحته التي أخذها في الدورتين الأوليين، وينافس بقية المهرجانات المصرية.

في الدورة الثالثة سيطرت الهِنات التنظيمية والأخطاء التقنية على المشهد العام

السينما الآسيوية.. عصر ذهبي وأسماء وازنة

من بين ما يشير إلى رغبة التَميُّز عند مدير دورته الحالية المخرج مجدي أحمد علي وفريقه؛ تعويله الكبير على القارة الآسيوية، واعتبار المهرجان فضاءً رحباً يمكن عرض سينماه داخله تجاوزاً للسائد في المهرجانات المصرية التي تحصر توجهاتها بالأبعاد العربية والأفريقية.

فمصر -وفق تصور منظميه- عربية الثقافة أفريقية الجغرافيا في العموم، لكنها تتوفر على بعد آسيوي متأتٍ من مجاورة جغرافية ومن بعد سياسي طالما حرصت على الاحتفاظ به، وذلك عبر مشاركتها في النشاطات الآفرو آسيوية.

وعلى المستوى السينمائي يوفر لهم ذلك الاختيار كنوزاً سينمائية، فالسينما الآسيوية تعيش اليوم عصرها الذهبي، فهي تقدم -وخاصة الكورية الجنوبية والصينية واليابانية- أسماء وازنة فرضت حضورها على المشهد السينمائي العالمي. وما حضور المخرج الصيني “شيه فيه” الملقب بـ”حكيم السينما الصينية”، وترؤسه لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة، وتقديمه محاضرة بمناسبة تكريمه، إلى جانب تخصيص حيز للسينما الصينية حمل عنوان “نظرة على السينما الصينية الحديثة”.. سوى أمثلة على ذلك.

لكن حتى ذلك الحضور المهم ضاع جزء كبير منه بسبب ضعف التنظيم وكثرة الأخطاء التقنية، فالندوة الخاصة بتكريم المخرج الصيني مثلاً بهت بريقها بسبب توزعها بين اللغة الصينية والعربية وأحياناً الإنجليزية، وزاد من تشتتها سوء الترجمة العربية من لغته الأم.

الأهم في المعرض هو إحضار المشرفين عليه تمثالاً أولياً من الكلس للفنانة سعاد حسني، يُخطَّط لصبّه من مادة البرونز، والقيام لاحقاً بنصبه وسط ساحة عامة من ساحات المدينة السياحية

سعاد حسني.. احتفاء باهت!

وإذا كان إهداء الدورة إلى الممثلة الراحلة سعاد حسني يطوي في داخله مزيداً من الترقب والمفاجآت عند ضيوفه، فإن ما قُدم لا يتجاوز العادي، فمعرض التصوير المقام ضمن إطار الاحتفاء بمنجزها الإبداعي لم يكن بمستوى المناسبة نفسها، حتى الصور النادرة لها -وبخاصة تلك التي تحكي عن بداياتها- لم تحظ بالعناية الكافية، فظهرت وكأنها مجموعة مستنسخة (كوبي) من صور أصلية لصقت بإهمال على جدران قاعة تابعة لفندق سياحي، وسرعان ما بدأت بالتساقط على الأرض.

غير أن الأهم في المعرض هو إحضار المشرفين عليه تمثالاً أولياً من الكلس للفنانة سعاد حسني، يُخطَّط لصبّه من مادة البرونز، والقيام لاحقاً بنصبه وسط ساحة عامة من ساحات المدينة السياحية.

تكريمات وورش ومسابقات

يحسب للدورة التفاتها إلى منجز المخرج المصري علي الغزولي الملقب بشاعر السينما التسجيلية، وتقديمها أعمالاً مميزة له من بينها “صيد العصاري” و”الريس جابر” و”حكيم سانت كاترين”، إلى جانب الندوة التي نظمتها في إطار تكريمها للناقد السينمائي والإعلامي المرموق يوسف شريف رزق الله، وهو أحد مؤسسي جمعية “نون” للثقافة والفنون، وهي الجهة المُنظمة للمهرجان.

وضمن طموحه ليكون مصدراً لاكتشاف المواهب السينمائية المصرية أقام المهرجان مسابقة لطلاب السينما، واختار لجنة تحكيم خاصة بها، فالمسابقة ضمت 29 عملاً توزعت بين طلبة معهد السينما و”الأكاديمية العربية”، أما جائزتها فكانت من نصيب فيلم “وأنا رايحة السينما” للمخرجة سندس طارق.

وفي محاولة منها لإضفاء حيوية جماهيرية على الفعالية السينمائية البعيدة عن العاصمة، نظمت جمعية “نون” ورشة “صناعة الفيلم” حضرها عدد من طلبة السينما في الجامعة الفرنسية في مدينة شرم الشيخ والمناطق المجاورة لها، لأن من بين الملاحظات والأسئلة المطروحة على الدورة الثالثة هي غياب الجمهور عنها، ويكاد ينحصر حضور فعالياتها بضيوفها.

فيلم "روك كابل" يتناول ظروف تأسيس وعمل فرقة موسيقية مختصة بآلة القيثار المعدنية في أفغانستان ، والصعوبات التي تواجه عازفيها

المفاجأة.. فيلمان أفغانيان فائزان

على الرغم من قوة الأفلام المشاركة في مسابقة الفيلم الروائي الطويل، خاصة تلك القادمة من دول آسيوية لها تقاليد سينمائية عريقة مثل اليابان والصين، فإن فوز “رونا.. أم عظيم” للمخرج الأفغاني جامشيد محمودي؛ يشير إلى اشتغالات سينمائية محلية غير محاطة باهتمام كافٍ، وذلك لأسباب ربما أقواها التجاهل الإعلامي والظروف الصعبة التي تمر بها أفغانستان، فأغلب وسائل الإعلام تسلط الضوء على الصراعات المسلحة الدائرة فيها، وأنظار العالم تتركز على المشهد السياسي دون بقية الجوانب الحياتية.

هذا التوصيف سيتأكد أيضاً عبر فوز فيلم “روك كابل” للمخرج ترافيز بيرد بجائزة أفضل وثائقي طويل، وفيه يتناول مخرجه الذي أمضى سنوات طويلة من حياته في أفغانستان ظروف تأسيس وعمل فرقة موسيقية مختصة بآلة القيثار المعدنية، والصعوبات التي تواجه عازفيها، والمنبثقة جُلّها من واقع محافظ، وأيضا نتيجة لظروف بلد لم تُتح له الفرص الجيدة لتقوية الجوانب الإبداعية عند فنانيه ومثقفيه.

“رونا.. أم عظيم”.. أفغاني بروح إيرانية

فيلم “رونا.. أم عظيم” متأثر بالمدرسة الإيرانية، وأسلوبها الخاص واضح في اشتغال مخرجه الذي عاش فيها يوم هاجرت أسرته إليها مجبرة. والتأثيرات الإيرانية نراها في التقشف الإنتاجي وفي السيناريو المكثف المتخلص من أي ترهل يتعبه، كما تضفي قصته المستمدة من تجربة المخرج نفسه عليه روحاً أفغانية تعكس في الوقت ذاته الظروف التي يعيشها المهاجر القادم منها إلى إيران.

ومن أفضال عمل جمشيد ابتعاده عن السياسة وتجنبه الوقوع في “بكائيات” تستجدي العواطف، رغم ما فيه من مرارات وأحزان عبّرت عنها مسيرة حياة أسرة رونا؛ الأم المحبة لأولادها وأحفادها والمعطاءة، والتي سبّب قرار هروب ولدها إلى أوروبا -طلبا للحصول على حق الإقامة في ألمانيا- مرارات، وكشفت عن أمراض ظلت مخفية داخل جسدها، لكنها تحررت وأعلنت عن وجودها لحظة مغادرته، لتضع شقيقه الأكبر”عظيم” أمام محنة وخيارات عسيرة سردها بأسلوب سينمائي متماسك، وجعل منه عملاً يستحق الإشادة والفوز بالجائزة، على الرغم من وجود أفلام منافسة أخرى من بينها الياباني “المسدس” الحائز على جائزة أفضل سيناريو، والكوري الجنوبي “الآنسة بايك” التي حصلت ممثلته الطفلة كين سي آه على جائزة التمثيل.

 

الأفلام العربية.. حضور كالغياب

جائزة أفضل فيلم عربي التي حصل عليها السوري “مسافرو الحرب” لجود سعيد؛ أنقذت الفيلم العربي من الخروج من المولد بدون حمص، وفي الأصل يبدو أن تخصيص جائزة للفيلم العربي يراد به ضمانة فوز أحدها بجائزة ما.

وفي كل الأحوال لم يكن حضور الروائي العربي أو المصري بشكل خاص لافتاً، فجُلّها لم يرتقِ إلى مستوى بقية الأفلام المنافسة، في حين كان احتمال فوزها في مسابقات الطلبة أو القصيرة قوياً، ولهذا لاحظنا حصول بعضها مثل المصري “رسالة لوالدي”، والفلسطيني “العبور”، والسوري “نخب ثان” على جوائز، فيما ذهبت الأولى للإيراني “نسيان”.

لم يحرز الفيلم الوثائقي العربي جوائز تُذكر، لكن حاله يظل أفضل من حال الروائي الطويل، وذلك بوجود أفلام مهمة تنافست ضمن المسابقة المخصصة لها، مما يشير إلى تحسّن في مستواه، وكسره المتكرر لهيمنة الروائي.

 

“الفِرقَة”.. حفل موسيقي في مدينة “الصدر”

ففيلم “الفرقة” العراقي يرتقي إلى مستوى الأفلام الوثائقية الجيدة المصنوعة وفق رؤية إخراجية واضحة تعرف كيف تسرد بصرياً ما هو موجود على الورق. والفيلم قريب من فيلم “روك كابل”، فهو يذهب أيضاً لرصد استعدادات فرقة موسيقية عراقية لتقديم عرض لها في مدينة “الصدر” في بغداد.

وتكشف تفاصيل ترتيبات العرض عن تحولات كبيرة جرت على مشهد المدينة، وتأكيد قابليتها على التلون والتكيّف مع السلطات التي تحكمها، فالمدينة التي أسسها الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم سميت وقتها بـ”الثورة” تيمناً بثورة يوليو/تموز 1958 التي أنهت الحكم الملكي وفتحت الطريق أمام الانقلابات العسكرية المتتالية.

وفي عهد صدام حسين سُميت مدينة الصدر “مدينة صدام”، أما بعد الاحتلال الأمريكي فأطلق عليها سكانها اسم “مدينة الصدر”. في تلك المدينة يريد عازفو الفرقة إقامة حفلتهم، ومخاوفهم من فشل تحقيقها مشروعة في ظل مناخ لافظ لها.

مخرج فيلم “الفرقة” الباقر جعفر عرف كيف يلتقط تلك المخاوف ويسجل عبرها تفاصيل الحياة في المدينة المأسورة بالهواجس والخشية من الفن، مع أنها كانت على الدوام منبعاً له.

“الفرقة” يُوصل لنا حقيقة أن موروث المدينة الثقافي ما زال حاضراً، لكن فرصة بروزه في ظل الأوضاع التي تعيشها الآن غير ممكن، وما محاولة إحياء الحفل الموسيقي سوى رغبة من قبل أعضائها لإجلاء ما هو كامن فيها من روح ثقافية لا يمكن محوها بالمطلق.

فيلم "الفرقة" العراقي يرتقي إلى مستوى الأفلام الوثائقية الجيدة المصنوعة وفق رؤية إخراجية واضحة تعرف كيف تسرد بصرياً ما هو موجود على الورق

“الشَّغْلة”.. عوالم الراقصات في مصر

أما الفيلم المصري “الشغلة” فهو أقرب إلى الوثائقي التلفزيوني، موضوعه مثير كونه يتعلق بحياة الراقصات في مصر، ومحاولته الإحاطة بعوالمهن بعد اتخاذهن من الرقص “شَغلة” يؤمّن بها حياتهن وحياة أسرهن.

موضوع حيوي اقترب منه المخرج رامز يوسف، لكن اشتغاله لم يرتقِ إلى مستوى حساسياته الاجتماعية، كما أنه افتقر إلى الصبر المطلوب للوصول من خلاله إلى مستوى تحليلي عميق يتعدى السرد “الريبورتاجي” التلفزيوني إلى السينمائي المتمكن من الغور عميقاً، وذلك في ظاهرة مجتمعية تستحق في مصر بشكل خاص دراستها وثائقياً.

وفي الأحوال كافة يظل هذا الفيلم من بين الوثائقيات العربية التي فيها شيء يستحق البناء عليه، عكس أغلب الأفلام العربية السطحية التي يثير اختيارها تساؤلات إزاء قدرة المهرجان على استقطاب أفلام جيدة تُفضل المشاركة في مسابقاته بدلاً من تفضيلها الذهاب إلى “الجونة” و”القاهرة” أو “الإسماعيلية” المختص بالأساس بالأفلام الوثائقية.