مهرجان مالمو للفيلم العربي.. وهج انتصار السينما العربية على عصر كورونا

قيس قاسم

بإعلانه أسماء الأفلام الفائزة في مسابقاته يختتم مهرجان مالمو للفيلم العربي بالسويد دورته العاشرة التي نُظمت من الفترة 8 وحتى 13 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وقد تزامن انعاقدها مع انتشار وباء كورونا الذي تعطلت بسببه مهرجانات كبيرة عن الانعقاد، وأخرى غيّرت من أشكال تنظيمها التقليدي، فجعلته عن بُعد من غير جمهور أو بحضور محدد.

لكن مهرجان مالمو أصر على استمرار وجوده في تحدٍّ ترك بعض الآثار عليه، وربما من أبرزها تعذر حضور أغلب الضيوف من الدول العربية من مخرجي الأفلام وممثليها وغيرهم لأسباب تتعلق بصعوبات السفر والتنقل.

كما فرضت الضوابط الصحية تقليصا لعدد زوار صالات العرض للتطابق مع الشروط التي وضعتها الجهات الصحية السويدية، وشددت على أن لا يتجاوز عدد زوار العرض السينمائي الواحد 50 شخصا، إلى جانب فقدانه فرصة الاحتفال بالذكرى العاشرة لانطلاقه، فقد كان من المفترض أن تأخذ طابعا احتفائيا خاصا.

رئيس مهرجان مالمو للفيلم العربي بالسويد “محمد قبلاوي” يقول إن المهرجان سعى إلى جلب أفضل الأفلام العربية للمهرجان

 

مالمو 2020.. دورة حية تتحدى تعقيدات كورونا

رغم ظروف هذه الفترة الاستثنائية تقرر تنظيم الدورة العاشرة من المهرجان كما أكد مديره محمد قبلاوي في حفل الافتتاح، وجرى العمل على إقامة دورة حيّة تتضمن كل مفردات البرامج التي سبقتها من إقامة السوق الخاص به إلى جلب أفضل الأفلام العربية لجمهور ربما يندر توفر الفرص الجيدة أمامه لمشاهدتها في بلد أوروبي مثل السويد، إلى جانب خلق المناخ المناسب لزواره من أبناء البلد والعرب ليتفاعلوا داخله ويتبادلوا وجهات النظر فيما يشاهدونه على الشاشة، إلى جانب اختيار لجان تحكيم تتوفر على قدر كبير من التوازن.

بدأت الاستعدادات لتنظيم الدورة قبل أشهر من عقدها، ورُتب الممكن من أجل إنجاحها، فعلى مستوى العروض كان هناك أكثر من أربعين فيلما عربيا؛ 19 منها طويلة و26 قصيرة و3 أفلام ضمن برنامج “ليال عربية”، اثنان من هذه الأفلام عراقيان والبقية موزعة على عروض خارج المسابقة والعروض الخاصة.

يتسابق على جوائز مسابقة الأفلام الطويلة 12 فيلما للفوز بها، بينما يرتفع مجموع عدد الأفلام المشاركة في مسابقة الأفلام القصيرة إلى 24 فيلما، ولافتتاح أعمال الدورة وقع الاختيار على الفيلم المغربي “آدم”.

 

“ستموت في العشرين”.. أفلام روائية قوية على حلبة التنافس

تباعد الفترة الزمنية بين عرض أغلب الأفلام الروائية الطويلة وبين فترة انعقاد الدورة الحالية يتيح للمهرجان أخذ أفضل ما هو متوفر عربيا؛ مما يُصَعب من مهمة لجنة التحكيم التي تجد نفسها أمام أعمال جيدة يصعب التفضيل بينها، كصعوبة التفضيل بين الفيلمين السودانيين “ستموت في العشرين” لأمجد أبو العلا  و”الحديث عن الأشجار” لصهيب قسم الباري.

يتميز الاثنان بالجودة ومحاولة صناعهما تقديم سينما سودانية تُعيد الاعتبار لها بعد انقطاع طويل، ويستند منجز أمجد أبو العلا على نص روائي ملهم يمنح إمكانيات سرد رائعة، بينما يمنح الاشتغال السينمائي للنص (السيناريو) أبعادا درامية غاية في الجمال والمتعة البصرية.

لا غرابة لهذا أن يحصل الفيلم على عدة جوائز عالمية وعربية، ويُعد من وجهة نظر النقاد واحدا من بين أفضل ما أُنتج خلال السنوات الأخيرة عربيا، ذلك التوصيف ينطبق إلى حد بعيد على وثائقي صهيب الباري الذي عاد للسينما السودانية من خلال السينما الوثائقية، ليستعيد تاريخا من الانشغال بديمومة وجودها ومحاولة بعض عشاقها إبقائها حية رغم صعوبة الظروف التي يعيشها البلد والسينما معه.

 

“شارع حيفا”.. صراعات طائفية بعد الاحتلال

عراقيا هناك “شارع حيفا” الذي يستعيد فيه مخرجه مهند حيال تاريخا قريبا تزامن مع السنوات الأولى التي تلت الاحتلال الأمريكي وبروز الصراعات الطائفية، وقد كان اشتغاله السينمائي لافتا ومشجعا في آن واحد، لافت لأنه يشي بوجود مواهب سينمائية شابة تُجيد السرد البصري وتعرف كيف تُحيل الواقع إلى مَشاهد منقولة على الشاشة وفق رؤية عميقة لما عاشه البلد وأهله.

على مستوى التاريخ السينمائي يؤشر الفيلم على نقلة واضحة في المنجز السينمائي من فيلم حسب الطلب متوافق عادة مع مصالح وإرادات سياسية، إلى سينما مستقلة يتخذ صناعها مواقفهم الفكرية حول كل ما يحيط بهم بعيدا عن المنافع المادية أو الانحيازات السياسية؛ مما يشجع على تجارب جديدة في ذات السياق، وهي تجارب ربما ستؤسس لاحقا لسينما عراقية جديدة تتكامل مع منجزات جادة سبقتها، وبها يمكن التخلص من ركود سينمائي طويل، ويشجع على بروز محاولات مخلصة تضع السينما المستقلة في مقدمة هواجسها.

 

“بغداد في خيالي” و”الأوديسا العراقية”.. رحلة إلى بلاد الرافدين

عراقيا يجاور “شارع حيفا” فيلم “بغداد في خيالي” للمخرج السويسري العراقي الأصل سمير جمال الدين، ويقترح عرضه ضمن قسم “ليال عربية” مقاربة مع وثائقيه الملحمي “الأوديسا العراقية” الذي أنتج عام 2014. الفاصل الزمني بين الفيلمين ليس كبيرا، فكلاهما قارب الموضوع العراقي، ليستكمل عبرهما قراءته لجوانب من التاريخ السياسي المعاصر لموطنه الأصلي.

في كلا الفيلمين شغلت المخرج فكرة المدنية وتحولات المدن، وإذا كان ظِل مدينة بغداد في الروائي ما زال باقيا في أرواح من تركها، وملازما لصراعاتهم السياسية ومواقفهم الاجتماعية، فإن تحولات المدن العراقية كلها، كانت موضع معاينة دقيقة في “الأوديسا” يندر وجود شبيه لها في الوثائقيات التحليلية العربية.

قام الفيلم بمسح مرحلة زمنية طويلة، وتنقلاته بين الذاتي والعام أتاح له عرض عينات بشرية ينتمي جلها للطبقة المتوسطة وينحازون لأفكار تنويرية، وكان التدخل الشخصي في مساره متاحا له عبر التعليق وبعض الصور الفوتوغرافية بوصفه جزءا من مشهد اهتم هو بكتابته بصريا، وعمل على تشخيص ما مر بالمدينة العراقية وأهلها من تحولات.

قارب سمير في فيلمه أسباب موت الطبقة المتوسطة وتخريب البعث لروح مدن العراق بحروبه العبثية وتشويهه المتعمد لها، فعرض رؤيته لاحتضار بلد وسجل واقعا معاشا لا تزال آثار جراح العسف والقهر ظاهرة فيه.

كانت بغداد في الفيلمين ساحة حيوية شهدت كل ذلك الخراب، فلم ينقطع الحنين إليها ولم تنقطع صلة ما جرى فيها بالنسبة للذين هجروها إلى لندن المدينة الأوربية المُرحلة إليها صراعاتهم وخلافاتهم، وهذا جزء أساس من مسار حكاية “بغداد في خيالي”.

 

“جدار الصوت” و”بيك نعيش”.. قلق سياسي في المسابقة الروائية

كان التنوع الجغرافي والتوازن قائمين في المسابقة الروائية، فمن لبنان يحضر “جدار الصوت” لأحمد غصين الذي يقترح فيه قراءة لوقائع تاريخية قريبة من خلال عرض شرائح وعينات بشرية عاشت لحظات القصف الإسرائيلي على مناطق من لبنان، وكيف ظهرت من خلال الإحساس الشديد بالخوف تناقضات وصراعات وأنانيات تزيح تراكما من الادعاء والتباهي بانتصارات لم تصل إلى عمق المواطن اللبناني الذي كان يواجه خوفه وحيدا معزولا.

يعود الفيلم التونسي “بيك نعيش” لمهدي برصاوي إلى مرحلة ثورة الياسمين من خلال أسرة تونسية تتحول حياتها إلى كابوس مرعب بعد إصابة ابنهم بطلق ناري في حادث إرهابي، وبروز صراعات عائلية تعكس توترا اجتماعيا وسياسيا، وقد عولج الفيلم بأسلوب سينمائي متزن وبرؤية نقدية لما يحدث في تونس من تحولات كبيرة.

يجمع مهرجان مالمو في مسابقته الطويلة بين الروائي والوثائقي، وفي هذا العام اختار للتنافس فيها المصري “احكيلي” لماريان خوري واللبناني “بيروت المحطة الأخيرة” لإيلي كمال والسوداني “الحديث عن الأشجار” لصهيب الباري.

لقطة من فيلم “تستاهل يا قلبي” الذي يتحدث عن الشابات المصريات اللواتي مررن بتجارب زواج فاشلة وتوصل عدد منهن إلى استنتاجات حاسمة

 

“تستاهل يا قلبي”.. مزيج روائي ووثائقي في مسابقة الأفلام القصيرة

في مسابقة الأفلام القصيرة هناك دوما مفاجآت واكتشافات، وتوفر أيضا لمنظمي المهرجان إمكانية إقناع بعض مخرجيها باختيار “مالمو” كمكان لعرضه الدولي أو العالمي الأول، مثل فيلم “تستاهل يا قلبي” للمصرية لمياء إدريس، فهو فيلم بسيط يجمع بين الروائي اشتغالا والوثائقي روحا، ويذهب إلى العمق في مناقشة أزمة الزواج في مصر.

يأخذ الفيلم بعض الشابات المصريات اللواتي مررن بتجارب زواج فاشلة وتوصل عدد منهن إلى استنتاجات حاسمة، بينما لا يزال قسم آخر بحاجة إلى سماع آراء غيره والتفاعل معها، من تلك النقطة تنطلق لمياء لتوسع مساحة فيلمها ليصل إلى مستويات من المصارحة والبوح لم نألفها في أفلام مصرية قصيرة.

لازمت هذه المصارحة  الحصافة والرقي، مما يشجع متفرجه على المضي في تأمل تلك الحكايات والتفكير في أسباب تحول الزواج في مصر إلى مشروع لا بد من تقديم تنازلات كبيرة لنجاحه، وقد تسقط في طريق التنازلات سعادات وآمال بعيش حياة سوية.

على المستوى الفني ثمة اختلاطات بين رؤية إخراجية تعرف كيف تستثمر بساطة الإنتاج لصالحها وبين التقاط عفوية وسلاسة ودمجها بخيال سينمائي معبر عنه بمشاهد عروس تتجول في شوارع المدينة شبه مغيبة، تلاحقها الأنظار بتعجب وغرابة لا تقل عن غرابة عروس صار عثورها على شريك مناسب أزمة تتجاوز خصوص الفرد إلى عموم المجتمع.

إلى جانبه هناك الفلسطيني “3 مخارج منطقية” لمهدي فليفل صاحب “عالم ليس لنا”، ويعود مرة أخرى إلى مخيم عين الحلوة ليكمل سيرة صديقه رضا الصالح، وهناك أيضا الفيلم الجزائري “ميس” لأميرة جيهان خلف الله،  واللبناني “أمي” لوسيم جعجع.

يافطة عُلّقت في مدينة مالمو السويدية عن مهرجان مالمو للفيلم العربي الذي عُقد في المدينة في الفترة ما بين 8 و13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري

 

سوق مالمو.. ملاذ لدعم السينمائيين العرب

“سوق مالمو” هو تميّز المهرجان الأبرز، وخلال سنوات قليلة أصبح من بين أفضل الأسواق السينمائية العربية، وكواحد من مصادر دعم السينمائي في داخل الوطن العربي وخارجه، واقترن بتفرد يتمثل بمشاركة منتجين سويديين إلى جانب المنتجين الرئيسين، مما يوفر منصة مهمة لتعاون تتشارك فيه أطراف كثيرة من بينهم منتجين من أبناء البلد المُضيف للمهرجان والداعم الرئيس له.

ثمة نقاش يجري حول حجم الدعم وقلته متناسين دعاة تقليص مساحة توزيعه لينحصر بمشروعين أو ثلاثة بدلا من عشرة أو أكثر، من أجل الفائدة العامة الأخرى غير المادية والمتمثلة بتوفير نقاط تشجيعية وإعطاء أصحاب المشاريع السينمائية قوة دفع من خلال المشاركة أو الفوز للذهاب إلى مهرجانات أخرى تقوم بنفس الدور، مما يفتح أمام السينمائي العربي أبوابا أكثر وأوسع.

في دورة هذا العام وخلال حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من برنامج سوق ومنتدى مالمو لدعم صناع السينما العربية حصل 18 مشروعا على جوائز تجاوزت قيمتها 100 ألف دولار.

 

أيام مالمو لصناعة الأفلام.. جوائز ومفاجآت

أُعلن في اليوم الأخير من الدورة الاستثنائية وفي الحفل الختامي عن الأفلام الفائزة بجوائز مسابقاته، وفيها نال التونسي “بيك نعيش” لمهدي برصاوي جائزتي أفضل فيلم روائي طويل وأفضل ممثلة لنجلاء عبد الله.

وحصل السوداني أمجد أبو العلا على جائزة أفضل مخرج عن فيلمه “ستموت في العشرين”، ونال “لما بنتولد” جائزتي أفضل سيناريو وأفضل ممثل لمحمد حاتم،  بينما  فاز  السوداني “الحديث عن الأشجار” بجائزتي أفضل فيلم وثائقي وجائزة الجمهور.

كما حصل “تستاهل يا قلبي” للمياء إدريس على جائزة أفضل فيلم  روائي قصير، وذهبت الجائزة الثانية لفيلم “3 مخارج منطقية” لمهدي فليفل، ومن مفاجآت حفل الختام إعلان مدير المهرجان محمد القبلاوي عن تغيير موعد انعقاده الجديد ليكون في الشهر الرابع من العام القادم أي بعد ستة أشهر من ختام الدورة الأخيرة وتغيير اسم سوقه إلى “أيام مالمو لصناعة الأفلام”.