مواقع التواصل الاجتماعي: شاشات عرض لوثائقي الجيب

لما جمعت السينما بين الفن والصناعة بدت عميقة التفاعل مع ما يطرأ من الاختراعات فتطورت من عرض الصور الصامتة إلى إدراج الصوت ومن الأبيض والأسود إلى اعتماد الألوان ومن اعتماد الشريط المغناطيسي إلى اعتماد الفيديو ثم غزتها المحامل الرقميّة, ولم تقتصر التحولات على التقنيات وإنما شملت المفاهيم والأجناس والتصورات الجماليّة في آن.

° فيديو الجيب: قدرة فائقة على استباق الحدث
وتصوير  أخطر اللحظات (حرق محمد البوعزيزي
لنفسه، دهس  سيارات الأمن لمتظاهرين مصريين،
تدمير نصب  الكتاب الأخضر في بنغازي)

ولهذه التحولات وطأتها على كيفيّة ضبط الفيلم لفاعليات فرجته وفتحوّل المتفرّج من متابع سلبيّ “يشاهد حدثا ما أو جريان حركة ويستغرق في تأملها بحيث يكون شاهد عيان”1 إلى المتفرّج المتفاعل الذي يحلّ في المركز من العمليّة الإبداعية بل أضحى يشارك فيها مشاركة فعليّة في ما بات يعرف بالسينما التفاعليّة بدءا من اختيار الفرجة فينتخب ما يشاهد من بين عشرات الأفلام المتاحة إلى التدخل بإضافة المؤثرات أو التعليقات التي تمثل خارطة فرجة وسار تأويل إلى النشر والإذاعة بين جمهور المتواصلين عبر هذه المواقع 2. ولئن ظل هذا النمط التفاعلي حبيس السينما التخييليّة فإن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي دفع بالفيديو الوثائقي إلى نمط من التقبّل التفاعلي فواكب الثورات السياسيّة من تونس إلى مصر إلى ليبيا وعمل المتفرّجون على تبادلها والتعليق عليها والتّدخل فيها أحيانا أخرى بزيادة مشاهد أو الحذف أخرى فتجاوزت وظيفتها الإخباريّة إلى التعبير عن الرأي وإبداء الموقف النقدي من الفيلم نفسه. وأحلّه ضمن سينما الجيب.

فيديو الجيب فيلما وثائقيّا

سينما الجيب (Cinéma de poche) اصطلاح جديد وافد على ساحة النقد السينمائي يخصّ تلك الفيديوهات التي يتم تصويرها من قبل الشباب الهواة غالبا بالحوامل الرقميّة البسيطة المتاحة لهم كالهواتف الجوّالة أو المصورات الرقميّة بغاية توثيق لحظة حميمة. لقد أضحت هذه السينما تغزو، على أيامنا، الفضائيات وتدير إليها رقاب ملايين الجماهير في كامل أنحاء المعمورة بما ترصد من حراك الشارع الثائر في البلدان العربيّة فتفرض على النقد تصنيفها ضمن الأفلام الوثائقيّة. وتكسب شرعيّة الانتماء هذا من قدرتها الفائقة على توثيق الحقيقة وعلى استباق الحدث بحيث تكون في اللحظة وفي المكان المناسبين لترصد اندلاع احتجاج في إقليم من الأقاليم أو سقوط متظاهر إثر طلق ناري أو دوسا تحت عجلات سيارة قوات أمن ترعب بدل توفر الأمن.
° فيديو الجيب: قدرة فائقة على استباق الحدث وتصوير أخطر اللحظات (حرق محمد البوعزيزي لنفسه، دهس سيارات الأمن لمتظاهرين مصريين، تدمير نصب الكتاب الأخضر في بنغازي)
وما يكسب هذا الانتماء شرعيّته اشتمال هذه الأفلام على خصائص فنيّة مميّزة إذ تتم دون إعداد مسبق أو سيناريوهات جاهزة ما قبليّا وفق بناء نمطيّ مما يمنحه قدرا كبيرا من العفويّة والتلقائيّة ويدرجها ضمن نمط الدّراسة الوثائقيّة (L’essai documentaire) التي تسعى إلى التقاط وجوه من الحقيقة متجاهلة وجود الكاميرا بغاية تحقيق عرض يضمن  قدرا وافرا من واقعيّة الأحداث وتلقائيتها. وغالبا ما تصاحب هذه الأفلام بصوت من خارج الإطار ليشرح المشهد أو يعلّق عليه حتى ينزّله ضمن سياقه الاجتماعي والتاريخي وظروف تصويره. وتنزع هذه الأفلام إلى الزهد في المونتاج. ولما كانت تلتقط بواسطة كاميرا خفيفة محمولة أمكنها أن تلاحق الحدث في فضاءاته المختلفة ضمن لقطات متوالية (Des plan- séquences). كما تميل إلى الأنماط الوجيزة فلا تتجاوز غالبا الدقيقتين أو الثلاث مما يمنحها تكثيفا دلاليّا كبيرا.
وثائقي الجيب: من الممتع إلى المفيد 
السينما خطاب جماليّ أساسا قوامه اعتماد طاقات الصورة التشكيليّة والتعبيريّة لتجسيد الفكرة وإبداء الرأي وكثيرا ما تكون هذه المقاربة الجماليّة أهم من الفكرة نفسها، يقول ريجيس ديبراي “أما جواب عصر الشاشة فهو عدم الثقة أبدا في الأفكار وما همّ المنهج والمسطرة والبركار. المهم هو أن تكون الصور جيّدة أن صور ما تكون أكثر قابليّة للتصديق من وجه معين وشريط فيديو جيّد أكثر من خطاب بليغ”3. غير أنّ وثائقيات الجيب هذه كسرت القواعد السائدة جذريّا فتدفعت بالهم الجماليّ إلى الخلف وهمشته فلم تعوّل على خبراء الإضاءة ولم تحفل بتكوين الصورة ولا بطريقة تأطيرها فلم تكن تقسمها إلى قطاعات بين واجهة وخلفيّة وقطاع أوسط ولم توظف تقنيّة عمق المجال ولم تأبه بقاعدة الأثلاث الثلاثة ولم تتحاشى الأخطاء التقنيّة البدائيّة كالقفز على المحور (saut d’axe) أو حركيّة الكاميرا أثناء التصوير هذا فضلا عن اعتمادها أجهزة هاوية تحدّ من جودة الصورة. ومقابل تهميش الجمالي استمدت هذه الأفلام قيمتها من عظمة اللحظة التي توثقها ومدارها على شعوب تهب لتخلع حكاما فاسدين ولتتحرر من الدكتاتوريّة في زمن تراجعت فيه الحريات عالميّا بسبب ما تسميه أمريكا بحربها على الإرهاب وانحسرت الثورات بعد أن أضحى النظام العالمي أحادي القطب واستتب الأمر لليبراليّة متوحّشة في الغرب تنحرف أكثر نحو اليمين وجمهوريات في العالم العربي تتخذ من التوريث بديلا عن التداول السلمي على السلطة. وتعدّ الوظيفة التأثيريّة التحريضيّة إحدى مصادر هذه القيمة. فقد اتخذت شعوب تونس ومصر وليبيا من مواقع التواصل الاجتماعي بديلا إعلاميّا يكسر الطوق الذي ضربته حكوماتهم على المعلومة. ويمنح عزلتهم القسريّة خلف شاشات الحواسيب روح المجموعة ذات اللغة المشتركة والأهداف ذاتها بما حوّل وهن الفرقة إلى الشعور المتعاظم بقدرة الاتحاد على تغيير المصير الجماعيّ.

لقد مثلت مواقع التواصل وسائط تقنيّة لنشر هذه السينما فأنشأت معها تفاعلا مخصبا كسر عن العالم الافتراضي عزلته وجرّد الحكام الدكتاتوريين من استئثارهم بوسائل الاتصال ومن تحكّمهم في مصائر الشعوب كما أفقد المقولات التي تؤبد خنوع العرب واختزالهم في ظواهر لغويّة أرضيتها الصلبة أما على المستوى الجمالي فقد قلب الموازين فدفع بالمضمون إلى الواجهة مقارنة بالمقاربات الشكليّة التي هيمنت على تقبل السينما لزمن طويل. فنسف ما ارتقى حتى الأمس القريب إلى مصاف المصادرات التي تنظر بعين الريبة إلى هذه المواقع وإلى وسائط الاتصال عامّة  فقد دأبت الفلسفة المعاصرة على التنبيه إلى مخاطر الوسائط الحديثة إذ “تمثل وسائل الاتصال مصدر انعزال” ويجد علماء الاجتماع “4 مجتمع الانترنت حيث يتحدث كل إلى الآخر عبر حاسوب متصل، غير مؤنس  ومن مؤثرات هذه الوضعيّة تحريف الحياة وتوليد ضرب من العزلة كان مجهولا إلى الأمس” 5 وتتحول إلى ملاذ لمراهقين لفظتهم عزلة الحياة المعاصرة وزجت بهم في المنازل لــ” يتوجهوا فطريّا  تقريبا إلى الانترنت وإلى منتديات النقاش والحوار حيث يتبادلون الرسائل” 6 ومن هنا كان تحميلها مسؤولية تعميق استلاب الإنسان واتهامها بتمييع الشباب وهدر طاقاته في تسليّة مشبوهة توفّر للاستخبارات الأمريكيّة والإسرائيلية قواعد بيانات واسعة عن المجتمعات العربيّة وتتيح لهم تجنيد الجواسيس بكل يسر.
 
الهوامش:
1 .Catherine Guéneau, Du spectateur à l’interacteur ?, in  Médiamorphoses – 2006 – n.18, P 68
2 .تحاول الباحثة كاترين قينو(Catherine Guéneau) أن تعيد التفكير في مفهوم المتفرج في ضوء ما ترسّخ من محامل رقميّة جديدة شأن ألعاب الفيديو والأقراص المضغوطة (CD ROM) ومواقع الاتصال الاجتماعيّة في الإنترنات فترصد نزعتها إلى الدّفع به باستمرار من هامش العمليّة الإبداعيّة إلى المشاركة الفاعلة فيها. فهو من يختار موقع الإبحار ومن يختار اللقطة ليعاود مشاهدتها أو إرسالها إلى أصدقائه دونا عن عامة الفيلم بما يشبه الأبيات الشوارد من القصيدة. وهو من يختار طبيعة اللّعبة و درجة صلابة المنافس والخلفيات والديكورات في ألعاب الفيديو التي تأخذه إلى عالم المغامرات المتخيّل. وهذا ما أدى إلى نشأة نمط جديد من الأفلام التفاعليّة التي يتولى المتفرّج فيها الضغط على نواحي من الصورة ليشاهد أحداثا معينة أو يستمع إلى مؤثرات صوتيّة محدّدة تنتخب من بين قائمة من الاحتمالات. ورغم أن هذه الأفلام لا بتدو مؤهلة حاليّا للعرض في القاعات فإنها تبشّر بمتفرّج لا يساهم في فهم الأحداث فحسب وإنما في كتابة سيناريو الحكاية وإخراجها من خلال تحديد مسار نموّها وتشكيل أحداثها. وتورد الباحثة ما تقترحه قناة arte على موقعها الالكتروني من هذه الأفلام التفاعليّة نموذجا لذلك ولنا أن نضيف ما يورد على أيامنا في مواقع المؤسسات الاقتصادية من مسابقات تستدعي من المتفرّج التوليف، من خلال عمل المونتاج، بين لقطات مقترحة لابتكار عمل إشهاري لمنتوج بعينه لكزيد من التوسع أنظر  Catherine Guéneau, Du spectateur à l’interacteur ?
3  ريجيس ديبراي، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي ، نشر إفريقيا الشرق 2002، ص ص 289-290.
4.   Horkheimer et Adorno, La dialectique de la raison, Gallimard, 1983 P 36
 5 Thérèse Nehr, L’âge de la maturité: essai, Editions L’harmattan, Paris 2002, P 77.
6 Françoise de Panafieu, La solitude, pourquoi ?, les éditions de l’atelier, Paris 2006, P 98
.