“نظرة ما” على المشاركة الجزائرية في مهرجان كان 2019

 محمد علال

فيلم “أبو ليلى” (Abou Leila) للمخرج أمين سيدي بوميدن سينافس ثمانية أفلام روائية طويلة عالمية في مسابقة “لاكنزان”

“العنف يترك أثراً في الوجه لا تخطئه العين”، هذه المقولة الشهيرة للروائي السوداني الطيب صالح تعكس ملامح السينما الجزائرية في السنوات الأخيرة، وهي في الطريق نحو المهرجانات العالمية، تأتي محملة بالكثير من الحكايات الحزينة، تجعل من وجع العشرية السوداء مادة سينمائية دسمة، وقد تجسد ذلك اليوم مع إعلان الدورة الثانية والسبعين لمهرجان كان السينمائي الذي يقام في الفترة من 14 إلى 25 مايو/أيار المقبل عن مشاركة جزائرية جديدة بعد نجاح فيلم “بابيشة” (Papicha) للمخرجة الجزائرية مُنية مِدّور في دخول مسابقة “نظرة ما”.

تتعلق المشاركة الجديدة بفيلم “أبو ليلى” (Abou Leila) للمخرج أمين سيدي بوميدن الذي سينافس ثمانية أفلام روائية طويلة عالمية في مسابقة “لاكنزان” التي تعتبر أقدم مسابقة موازية في كان السينمائي، هذا ما كشفت عنه إدارة المهرجان يوم 22 فبراير/شباط 2019.

تحمل المشاركة الجزائرية الكثير من الأسئلة التي لا تزال تحاصر حقيقة ما حدث في الجزائر عام 1994، مَن هم ضحايا العشرية السوداء وما هي أحلامهم وحكايتهم؟ وكيف تحول الجيل الجديد من السينمائيين الجزائريين إلى سفراء يحكون للعالم قصص ذلك الزمن الموحش والمخيف جداً؟ هكذا يلتقي العملان عند حدود الحديث عن تفاصيل الخوف والعنف الذي كانت تعيشه الجزائر في تسعينيات القرن الماضي.

فلسفة من البحر إلى الصحراء

في الوقت الذي تركز فيه مسابقة “لاكنزان” على تقديم التجارب السينمائية الأولى للمخرجين الشباب، اختار كل من أمين ومنية حكاية الجزائر من عام 1990 إلى 1994، وقد اتجه الأول نحو الصحراء لتصوير “أبو ليلى” بطريقة فلسفية، ينقلنا عبر شخصيات مركّبة إلى قالب درامي يتتبع خطوات ضابط الشرطة “لطفي” -الذي جسد دوره الممثل إلياس سالم- نحو الصحراء الكبرى رفقة زميله وصديق الطفولة “س” الذي جسد دوره الممثل سليمان بن واري، في رحلة البحث عن إرهابي خطير يدعى “أبو ليلى” وجسد دوره الممثل حسين مختار.

في الضفة الشمالية، ركزت كاميرا منية مدور في فيلم “بابيشة” على موضوع الإرهاب وكيف توغل في سواحل الجزائر العاصمة ومدينة تيبازة، مع حضور نسائي كبير جداً. وقد منحت دور البطولة “بابيشة” للممثلة الشابة ليندا خذري التي عرفناها في فيلم “السعداء” للمخرجة صوفيا جامة، ويرافقها كل من الممثلة أميرة هيلدا وشيرين بوتلة ونادية قاسي ومريم مجقان، في رحلة تهدف لرسم الأمل وتجاوز التطرف والتعصب، حيث يبدو من خلال “تجارب الأداء” أن المخرجة ركزت على ممثلات حسناوات لإعطاء لمسة رومانسية تجعل من المشاهد أكثر تعاطفا مع النساء من ضحايا العشرية السوداء.

ملامح التشابه وأوجه الاختلاف

فيلم “أبو ليلى” هو واحد من أبرز الأفلام الجزائرية التي كان من المتوقع أن يحقق التميز في عام 2019 (راجع مقال الجزيرة الوثائقية في موضوع بعنوان “السينما الجزائرية عام 2019.. عشرة أفلام بتوقيع بوشارب وبن غيغي وداميان وآخرين” نشر يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 2018).

ما يجمع “بابيشة” بـ”أبو ليلى” أكثر مما يفرقهما، حيث تتقاطع تفاصيل القصة والزمان وحتى الفريق التقني وبعض الممثلين بين حدود الجغرافيا الجزائرية من الساحل إلى أقصى الجنوب. فحسب التجربتين فإن الإرهاب لم يترك شبراً واحداً من البلاد دون أن يدنس أرضها بأعماله الإجرامية، ففي فيلم بابيشة المقتبس من كتاب “سنونوات كابل” للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا، نشعر بأننا أمام عمل يصب في خانة الأعمال المدافعة عن المرأة الجزائرية، بينما نشعر بأن فيلم “أبو ليلى” جاء خصيصاً ليدافع عن ذلك الرجل الذي حارب الإرهاب.

كما يوحي عنوان “بابيشة”، وهي كلمة جزائرية محلية تعني الفتاة الحسناء التي تتميز بالدلع تشد إليها أنظار الجميع، فإن الفيلم جاء لينتصر لقصص أناس مهمشة سينمائيا، وعادة ما تتجاهلها التقارير الإعلامية، لهذا جاء العمل (الجزائري الفرنسي البلجيكي)، ليسرد في ساعة ونصف حكاية تلك الفتاة الجامعية التي تقيم داخل الإقامة الجامعية مع زميلاتها وقررت أن ترفض الاستسلام إلى الأفكار الإرهابية، فبابيشة لم تكن يوماً من بين المكترثين بالسياسة وهمومها، لا طموح لها في الحياة إلا أن تعيش في هدوء بين الألوان والفنون، بسيطة كالفراشة التي تحلم بتنظيم معرض للأزياء، وهي تتذكر كل يوم أختها التي راحت ضحية الإرهاب.

لقد تسببت الحرب الأهلية الجزائرية في مقتل أكثر من 200 ألف شخص وصدمت الشعب الجزائري طيلة عشر سنوات. ويأتي هذا العمل بتوقيع أبناء تلك الفترة، فأمين ومنية ومعظم الممثلين الذين شاركوا في الفيلمين هم جيل جديد من السينمائيين الجزائريين الذين كبروا في زمن صعب جداً أمام قلة فرص التكوين السينمائي وفي مقابل فتاوى كانت تحرم الفن والسينما.

من خلال “بابيشة” و”أبو ليلى” نلمس رؤية جديدة لمخرجين شباب أرادوا فتح ملفات حساسة سُجلت عندما كانوا أطفالاً، لهذا نجد أن الطرح السينمائي يبدو مختلفاً تماماً عن طبيعة الأفلام الجزائرية التي تناولت فترة الإرهاب بعدسة مخرجي الجيل الذهبي للسينما الجزائرية، فنحن اليوم أمام فلسفة سينمائية تهتم أكثر بتفاصيل حكايات أشخاص عاشوا على هامش العشرية السوداء.

وجوه شابة تتسلم المشعل رسميا

“أبو ليلى” هو الفيلم الأول الروائي الطويل الذي يخرجه أمين سيدي بومدين، وقد سبق لمهرجان كان أن استضاف المخرج ضمن ورشة “سيني فونداسيون” في نسختها الثانية عشرة عام 2016، والتي شملت مشاركة 16 مخرجاً شاباً كانوا يحملون مشاريع سينمائية واعدة، حينها زار “أمين” مهرجان كان بمشروع فيلمه “أبو ليلى” الذي يعود إليه اليوم ليبحث عن جائزة من جوائزه القيمة.

حسب كرونولوجيا إنتاج الفيلم، يبدو من الواضح جداً أن الفريق الشاب الذي يقف خلف الشركة المنتجة “تالة فيلم” الجزائرية اشتغلوا على نار هادئة ولم يتسرعوا أبداً في إنجاز هذا العمل. لقد انطلقت التجربة أولاً في رحلات مكوكية للبحث عن الدعم، وقد ساهم معهد الدوحة للأفلام في إنجاز العمل عندما راهن عليه ضمن 36 مشروعاً من 19 دولة، لتأتي مرحلة التصوير بداية من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، لحاجة العمل لمناخ شتوي، ليدخل لاحقاً في مرحلة ما بعد الإنتاج في فرنسا أوائل عام 2019، ولم يصبح الفيلم جاهزاً للعرض إلا بدخول شهر أبريل/نيسان الجاري.

أمين سيدي بومدين هو مخرج وكاتب سيناريو أفلامه، درس الإخراج في المعهد الحر للسينما الفرنسية في باريس، وعمل في عدة مشاريع أفلام كمساعد مخرج، وأنتج عدداً من الأفلام القصيرة، وكانت أول تجربة إخراجية له بعنوان “العشاء الأول” وهو فيلم قصير أخرجه عام 2005.

لكن البداية الحقيقية له كانت عام 2011 مع فيلمه القصير “غدا الجزائر” الذي ساهم في تقديمه كمخرج جزائري واعد جداً.

“أبو ليلى” هو الفيلم الأول الروائي الطويل الذي يخرجه أمين سيدي بومدين، وقد سبق لمهرجان كان أن استضاف المخرج ضمن ورشة “سيني فونداسيون”

ما يميز اختيارات أمين سيدي بومدين هو رهانه على الممثلين غير المعروفين، فهو لا يميل إلى النجوم بل يريد دائماً وجوهاً جديدة غير مستهلكة، وهو ما يتجسد في اختياره لسليمان بن واري الذي لا يعتبر من بين الممثلين المعروفين في الجزائر، ولأول مرة تضعه اختيارات تجارب الأداء أمام اختبار مقاسمة البطولة مع الممثل إلياس سالم الذي يصنف في خانة نجوم الجزائر.

لقد تطلبت عملية البحث عن الممثلين للمشاركة في “أبو ليلى” عامين من البحث والسفر بين المدن الداخلية، وهو ما يؤكده مسؤول تجارب الأداء الجزائري إبراهيم جاب الله لـلجزيرة الوثائقية مشيراً إلى أن “المخرج الشاب متطلب جداً”، مما يعكس سر تفوق العمل، كما قال مسؤول تجارب الأداء أن أمين يعرف جيداً ماذا يريد من الممثل، وهو يهتم بأبسط التفاصيل.

تمت عملية اختار الممثلين بعد جولة شملت العديد من الولايات الجزائرية من العاصمة وصولاً إلى تمنراست وبشار، وقد تجاوز عدد الذين ترشحوا للمشاركة في العمل نحو 300 شخص.

في عمل “أبو ليلى” نلتقي بكوكتيل من الممثلين الشباب معظمهم من الجنوب والمدن الداخلية، وهو شأن الشخصيات الخمس الرئيسية، حيث يشارك كل من فؤاد ميغراغي وعزوز عبد القادر في دور الإخوة التواراق، ويظهر في العمل الممثل مراد أوجيت في دور الشرطي الذي يجهز في الأخير على الإرهابي أبو ليلى، بينما تحمل الممثلة مريم مجقان على عاتقها حقيبة الصحفية التي تحقق في حادثة مقتل مجموعة من الأولاد في الصحراء، وهي نفس الشخصية الذي تظهر بها مجقان في فيلم “بابيشة” حيث سنشاهدها في دور الصحفية أيضاً والتي تحقق في حادثة مقتل شقيقة البطلة.