نيويورك الماضي وروسيا الحاضر في جديد الصالات

أمستردام – محمد موسى

بعد شهرين تقريبا على غياب شبه كامل للأفلام التسجيلية عن برمجة صالات السينما في عدة دول اوربية، وخاصة بريطانيا، هولندا وبلجيكا، تعود صالات فنية في هذه الدول، و منذ بداية شهر مارس الجاري، بعرض مجموعة جديدة من الافلام التسجيلية، والتي يعود تاريخ انتاج بعضها الى بدايات العام الماضي، بل إن أحدها ( أطفال للمخرج الفرنسي توماس بالميس) هو من انتاج عام 2010. فيما غابت الافلام التسجيلية التي تعبر الحدود لتعرض في الوقت نفسه بعدة دول اوربية، باستثناء فيلم الابعاد الثلاث ( بينا) للمخرج الالماني المعروف فيم فيندرز، والذي لازال يعرض بعدة دول اوربية وفي صالات مجهزة بامكانية المشاهدة بنظام الابعاد الثلاث.
والمعروف إن برمجة الافلام التسجيلية في الصالات الاوربية لا يشبه تلك التي تخضع لها الافلام الروائية الطويلة، فالاولى، التي تنافس على مساحة صغيرة فقط ضمن برمجة الصالات الفنية، المحدودة العدد اصلا، تخضع كثيرا لسياسية الصالات المحلية، وتفاعلها مع جمهورها المحدود، لذلك تحظى الافلام التسجيلية ذات المواضيع المحلية على مساحة عرض دائمة، كذلك تهتم تلك الصالات بافلام السيرة الذاتية، او تلك التي تتناول سيرة فرق موسيقية، كالتي يقدمها فيلم (Beats Rhymes & Life: The Travels of a Tribe Called Quest) للمخرج مايكل رابابورت، عن فرقة “قبيلة تدعى بحث” لموسيقى الهب هوب الامريكية، والذي يعرض حاليا في عدة صالات سينمائية هولندية.
والالفت ان برمجة الافلام التسجيلية وسياسات توزيعها الاوربية لا تستجيب سريعا للاهتمام الاعلامي والشعبي الذي يسلط احيانا على السينما التسجيلية، فجميع الافلام التي نافست على جائزة الاوسكار في فئة الافلام التسجيلية لهذا العام، لم تعرض في الصالات الاوربية بعد، باستثناء فيلم ( بينا). في الوقت الذي قامت صالات اوربية عديدة باعادة عرض الفيلم الروائي( الانفصال) للايراني أصغر فرهادي، والذي عرض في تلك الصالات في العام الماضي، بعد فوزه بجائزة افضل فيلم اجنبي في الدورة الرابعة والثمانين من جوائز الاوسكار التي وزعت في السادس والعشرين من شهر فبراير الماضي.

نيويورك مدينة الحالمين والفنانين والتي لم يبقى منها شيء
من الافلام التي بدأ عرضها في بريطانيا مؤخرا، الفيلم التسجيلي الامريكي (المدينة الفارغة) للمخرجة الامريكية سيلين دانهير، والذي يعود الى فترة بدايات السبعينات من القرن الماضي، ليركز على الحركة الفنية التي بدأت في التنامي في مدينة نيويورك، وخاصة الافلام السينمائية التجريبة التي ظهرت في تلك السنوات، كاستجابة للتغييرات التي جلبتها معها سنوات الستينات الثورية، وايضا تاثرا بموجة السينما الجديدة في فرنسا، والتي ألهمت مخرجين، موسيقين، وفنانين، لانجاز افلامهم الخاصة، التي صورت بكاميرات 8 ملم في شوارع المدينة ومواقع طبيعة اخرى، مبتعدة بالكامل عن نفوذ القصة والسرد التقليدي.
تمكن المخرج من انجاز عديد من المقابلات مع كثير من وجوه تلك السنوات الفنية. من الذين تحدثوا لكاميرا الفيلم، المخرج الامريكي المستقل المعروف جيم جارموش، والذي خرج من رحم عناد وتجريب تلك السنوات، وايضا من جمعيات الفنانين الذين تعاضدوا من اجل سينما شديدة الخصوصية، بعيدا عن راس المال التقليدي، فمعظم الاموال صورت بما يشبه المعجزات الصغيرة، بغياب اي امكانيات فعلية، باستثناء كاميرات ومواد خامة يتم سرقتها احيانا من المحلات من قبل صانعيها أنفسهم، والذين كانوا يخرجون الى شوراع مدينة نيويورك لتصوير اعمالهم، ليعرضوها بعد ذلك في بيوتهم الخاصة، داعين رفاقهم لمشاهدتها. هذا قبل ان يصل بعضها في وقت لاحق الى صالات فنية محدودة في مدينة نيويورك.
باستثناء جيم جارموش لم يستطع اغلب مخرجو تلك الفترة في الاستمرار في الوقوف خلف الكاميرات، ولم تتكمن الحركة السينمائية بمجملها من تاسيس موجة او تقاليد سينمائية مؤثرة، حتى ضمن السينما الامريكية المستقلة الامريكية، لكن هذا لم يكن ابدا على بال الذين اشتغلوا في تلك الاعمال التجريبة وقتها ، اذ اختاروا منذ البداية ان يبتدعوا عن وصف “موجة” او “اتجاه” ،  فالسينما كانت لمعظم الذين اشتغلوا بها في تلك السنوات، واحدة من ادوات التعبير عن حراك تلك السنوات الثري، فالذين وقفوا خلف الكاميرات في الشوراع الخلفية لمدينة نيويورك، جربوا ايضا في تاليف وغناء الموسيقى السوداوية، والفن التشكيلي ايضا.
يوفر الفيلم صور ومشاهد رائعة لمدينة نيويورك في تلك السنوات. المدينة التي زحفت اليها اموال شارع البورصات المعروف لتغيرها بشكل حاسم، من المكان الذي كانت تنطلق منه الاتجهات الفنية الحديثة، الى مدينة لرجال الاعمال الشباب، الذين حلو بدل فنانينها وادبائها، وغيروا في النهاية وجه المدينة الاستثنائي.
لذلك يمكن اعتبار الفيلم تحية الى نيويورك، المدينة الامريكية المتلاشية، باستعادتة تلك المشاهد التي سجلتها كاميرات مخرجين ومخرجات شباب، قدموا الى تلك المدينة، هاربين من تحفظ مدنهم الامريكية الاخرى، متوزعين على بنايات متهالكة، باحثين في المدينة، التي كانت تقترب من اعلان افلاسها، عن فهم جديد للعالم، يمثل الفن عصبه الاساس.

الشاب الثري الذي تحدى الرئيس الروسي بوتين
لا يخفى ان توقيت عرض فيلم (خودوركوفسكي) في الصالات البريطانية له علاقة بالانتخابات الروسية، خاصة ان شخصيتا الفيلم الاساسيتين مازالا تهيمنان على الاهتمام في روسيا، فاحداهما هو الرئيس القوي بوتين، والذي يريد ان يرجع الى قلب السياسية الروسية كرئيس جديد للبلاد وبعد سنوات من الاكتفاء بادارتها من الكواليس، والآخر يقبع في سجن بارد في سيبيريا البعيدة، معزولا بشكل كبير عن العالم.
يستعيد الفيلم قصة الروسي ” ميخائيل خودوركوفسكي “، وصعودة الالفت، من شاب مشغول بحياة واحلام عادية، الى واحد من أغنى اثرياء العالم، من الذين لم يتعدوا الاربعين من العمر، وحسب احصائية نشرت في عام 2004 . لكن تطلعات ميخائيل خودوركوفسكي الاخرى، دفعته سريعا الى مواجهة مع الرئيس الروسي بوتين، لتقذف به الى السجن، والذي لازال يقضي عقوبات فيه بتهمة التلاعب الضرائب، وهي التهمة التي يراها كثير من الروس بانها “لفقت” له لابعاده عن السياسية، التي بدأت تجذب الثري الروسي الشاب، والذي تحدى الرئيس الروسي بوتين في لقاء  تلفزيوني شهير، اثار وقتها كثير من الاهتمام في روسيا.

يحاول المخرج الالماني سيريل توسشي إعادة ترتيب حكاية ميخائيل خودوركوفسكي، من طفولته وحتى اليوم، فيذهب الى روسيا، التي يتلقى فيها تحذيرات بانه قد يدفع حياته اذا فتح ملف الثري الروسي الشائك، لكنه ينجح في مقابلة زملاء دراسة لخودوركوفسكي، والدته، زوجته السابقة، وابنه الذي يعيش في الولايات المتحدة الامريكية، والذي لا يجروء على العودة الى زيارة والده في السجن. كما سيأخذ التحقيق التسجيلي القوي المخرج الى بريطانيا، اسرائيل، الولايات المتحدة الامريكية، المانيا، لتعقب اثرياء روس، هربوا من البلد، بعد ان تم القبض على خودوركوفسكي في عام 2003.
رغم محاولات ضيوف الفيلم شرح الظرف التاريخي الذي حول خودوركوفسكي الى واحد من اكثر اثرياء العالم في غضون سنوات قليلة فقط، الا انه لم ينجح في مسعاه تماما، فهو، اي الفيلم، اعاد تقديم المعلومات نفسها، عن تلك السنوات، عندما قام الاتحاد السوفيتي ببيع اصول شركات النفط الى روس عاديين، ليتحولوا خلال سنوات قليلة، وبسبب ارتفاع النفط الى اثرياء روسيا الجدد، لكن الشيء الذي ينجح الفيلم في تفسيره، لماذا تم البيع الى هذه المجموعة من الروس بالتحديد ؟ وكيف وقع الاختيار عليهم ؟ وما هي طبيعة الاتفاقات التي تمت وقتها؟
عندما يصل  الفيلم الى حادثة اعتقال خودوركوفسكي، عندما كان يستعد للسفر في طائرته الخاصة، قبل ان تهاجمة قوة روسية امنية خاصة، يستعين بالتحريك القاتم، والذي يذكر بالفيلم الاسرائيلي ( الرقص مع بشير)، والذي هو الآخر يعيد تجسيد وقائع حقيقية حدثت في حرب لبنان وأثناء اجتياح القوات الاسرائيلية لها في عام 1982. هذا التحريك، والذي سيعود مرات قليلة في فيلم (خودوركوفسكي)، لن يكون تكمله عادية للروايات التي نسمعها على الشاشة فقط، بل سيمنح قصة خودوركوفسكي كثير من القسوة والسوداوية، كما لم تفعل اي من شهادات الذين عرفوا الثري الروسي، وحتى شهادة والدته او ابنه.
يضع الفيلم هدفا للمشروع التحقيقي بلقاء خودوركوفسكي نفسه، والذي يتم في نهاية الفيلم، لكنه، اي اللقاء، سيكون عاديا كثيرا، بسبب الظروف الامنية التي تم فيها، حيث كان خودوركوفسكي يتحدث من خلف زجاج متين، ومحاط بالحراس. في رده على سؤال المخرج، عن وقته في السجن وكيف يقضيه، يرد الثري الروسي بان مشغول بالكامل بمراجعة ملف القضية، للعمل على اعادة فتحها من جديد. لكنها عندما تفتح من جديد في نهاية عام 2011، وبعد ان انهى المخرج الالماني تصوير فيلمه، لا تفضي الى اي نتائج جديدة، فخودوركوفسكي سيرسل الى عقوبة جديدة في السجن السيبيري، وبعيدا جدا عن موسكو والرئيس بوتين.