هل يعود أصل النشيد الوطني اللبناني إلى المغرب العربي؟

طرحت إحدى القنوات اللبنانية أسئلة تشكك في أصالة النشيد الوطني اللبناني عبر مقابلة أجرتها مع الفنان غسان الرحباني ادعى فيها أن النشيد اللبناني مسروق من نشيد جمهورية الريف المغربية التي تأسست عام 1921، وبحسب الرحباني تم تأليف نشيد جمهورية الريف عام 1924 من شعر إبراهيم طوقان، بينما النشيد الوطني اللبناني تم وضعه عام 1927 من نظم رشيد نخلة وتلحين وديع صبرا.
واستند الرحباني في ادعائه على مقطع من فيلم وثائقي عن السياسي المغربي “مهدي بن بركة”  للمخرجة سيمون بيتون، حيث ورد لحن النشيد اللبناني على صور للملك محمد الخامس ولكن بكلمات مختلفة هي كلمات قصيدة “بطل الريف” لإبراهيم طوقان.

كما عادت هذه القناة اللبنانية وتوسعت في الموضوع وصنعت تقريرين إخباريين أوردت فيهما أدلة جديدة تثبت سرقة النشيد. وهذه الأدلة مستقاة من مصدر واحد هو كتاب “شاعران معاصران” لعمر فروخ المطبوع عام 1954 وقد خلص التقرير الأخير إلى الإدعاء بأن محمد فليفل قد باع لحن نشيد بطل الريف إلى وديع صبرا بالسر ليتقدم به إلى مسابقة اختيار النشيد الوطني اللبناني ويفوز لاحقاً، أو بأن وديع صبرا سرقه من فليفل.  وبعدها طلبت القناة من الموسيقي زياد سحاب تلحين نشيد لبناني جديد لأن سرقة النشيد قد ثبتت وبالدليل “القاطع”. مما أثار تذمر العديد من اللبنانيين الذين طالبوا الدولة اللبنانية بالتدخل وكشف الحقيقة.

الأمير عبد الكريم الخطابي

لا يبدو النشيد الوارد في الفيلم الوثائقي أنه من تسجيل قديم يعود لعهد جمهورية الريف، فنوعية تسجيله ترجع إلى حقبة الخمسينات. وإذا انتبهنا إلى التغيير الموجود فيه لأدركنا أنه تم تسجيله في عهد الملك محمد الخامس “عهد الملكية والإستقلال”. فقد تم تغيير عبارة “الأمير الهمام” التي يخاطب بها الشاعر طوقان المناضل عبد الكريم الخطابي، لتصبح “الزعيم الهمام” وهذا ما كان ليحصل إلا في زمن الملكية التي كانت لا ترى أحداً من خارج العائلة المالكة أميراً.

كما أن كلمات النشيد تمدح شخصية الخطابي، ومن يطلع على حياة وشخصية المناضل الخطابي وأفكاره يدرك بأنه لن يقبل أن يكون نشيد في مدح شخصه نشيداً لجمهورية الريف. هذا عدا أن المراجع والمصادر التي تناولت تجربة جمهورية الريف لم تذكر أن لهذه الدولة الفتية نشيداً، والخطابي لم يذكر الموضوع في مذكراته الخاصة.

 أما الأدلة التي استندوا عليها والموجودة في عبارتين من كتاب “شاعران معاصران” لعمر فروخ فهي تتعارض مع أحداث التاريخ وكلام محمد فليفل. والعبارة الأولى هي: “في أحد أيام الشتاء من عام 1924 إجتمع ابراهيم طوقان وعبد الرحيم قليلات ومحمد فليفل في مقهى الكاريون..، كانت البلاد العربية تعصف يومذاك بأخبار انتصارات العرب في شمالي أفريقيا على الجيوش الفرنسية والجيوش الإسبانية.
وخطر لإبراهيم أن يضع في هذا الإجتماع نشيداً لهذه الثورة ويدون صدى هذه الحرب في نفوس العرب المتوثبة إلى التحرر ..فكان هذا النشيد الذي وضعه إبراهيم في تلك الجلسة التاريخية… واستطاع محمد فليفل أن يضع لحناً قوياً يليق بهذا النشيد العاصف في تلك الجلسة التاريخية نفسها.

ولم يكن هذه النشيد باكورة أناشيد طوقان بل باكورة شعره الجيد كله.. “. لكن محمد فليفل في مقابلة إذاعية ضمن برنامج “قصة نشيد” في الإذاعة اللبنانية يذكر أن أول لقاء وتعاون تم بينه وبين طوقان كان عبر نشيد “موطني”، حيث التقى طوقان لأول مرة في منزل الشاعر عبد الرحيم قليلات. وهذا اللقاء حدث في أواخر عام 1924 حيث قَدِم طوقان إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية.

وتذكر كتب التاريخ أنّ أول إحتكاك وهو أيضاً أول إنتصار لجيش الخطابي على الفرنسيين كان يوم 13 أبريل من عام 1925 لتتوالى بعدها المعارك والانتصارات. ولم يتمكن الفرنسيون والإسبان من هزيمة الخطابي إلا بعد أن استخدموا الأسلحة الكيماوية المحرمة بمباركة ألمانية أميركية وذلك عام 1926 وقضوا عندها على هذه الدولة الطموحة.

الشاعر إبراهيم طوقان

فإذن اللقاء المذكور من أجل نشيد الريف تم بعد الـ13 من أبريل عام 1925 لأن قبلها لم تكن هناك معارك مع الفرنسيين، بل كانت مجرد معارك صغيرة ومناوشات مع الجيش الإسباني. وما تاريخ 1924 مع بعض تفاصيل اللقاء الواردة في كتاب عمر فروخ إلا خطأ، لأن الكاتب لا يذكر مصدره ويبدو أنه روى حادثةً سمعها ضمّنها في كتاب وضعه عام 1954 أي بعد حوالي 30 سنة، وهناك هامش كبير للخطأ بعد كل هذه الفترة الطويلة لحادثة مروية من الذاكرة ولم يعاينها المؤلف شخصياً.

نشيد “بطل الريف” لحّنه بالفعل عام 1925 الأخوان فليفل لكن لحنه كان مختلفاً عن لحن النشيد الوطني اللبناني الذي وضعه صبرا لاحقاً بعد سنتين. وقد شاع نشيد الريف وكان ملء الأفواه والأسماع كما ذكر عمر فروخ في عبارة ثانية من كتاب “شاعران معاصران” ومجرد شيوع لحن النشيد يومها بهذه الطريقة يكون من الصعب سرقته أو اقتباسه ويكون إدعاء بيعه باطلاً. وقد نوى فليفل على تقديم النشيد هدية لعبد الكريم الخطابي عن طريق طوسون باشا (أحد أحفاد محمد علي) لكن طوسون باشا اخبره لاحقاً بالقضاء على دولة الخطابي فحزن للأمر وأصيب بخيبة وقتها.

طوسون باشا.. أحد أحفاد محمد علي

عندما قررت الحكومة اللبنانية في أواخر عام 1926 إجراء مسابقة لاختيار النشيد الوطني، طلبت لجنة التحكيم من الأخوين فليفل إختيار الوزن الشعري المناسب لهذا النشيد فاختارا وزن قصيد “بطل الريف” ليؤلف الشعراء على شكلها وبحرها الشعري قصيدة النشيد الوطني اللبناني حيث فازت يومها قصيدة الشاعر رشيد نخلة “كلنا للوطن”. وطلبت اللجنة من الموسيقيين تلحين هذه القصيدة ليفوز لحن وديع صبرا بالمرتبة الأولى ويحل الأخوين فليفل بالمرتبة الثانية. فإذاً ما يربط نشيد بطل الريف الذي وضعه الاخوان فليفل بالنشيد الوطني اللبناني هو الوزن الشعري فقط.
وقد كان أثير الموضوع مغربياً قبل أن يتناوله الفنان غسان الرحباني في الإعلام اللبناني، حيث ذكر المدون مهدي الباديخو أنه ذكر مسألة التشابه في اللحن بين النشيدين قبل أشهر من الجدال اللبناني، حيث أكّد وقتها أن كلمات نشيد بطل الريف أُنزلت في قالب النشيد الوطني اللبناني. كما أن الباحث اللبناني آلان حردان أكّد في مقالة له وبالتعاون مع الباحث المغربي مصطفى القادري بأن جمهورية الريف لم يكن لها نشيد وذلك بعد أن قاما بالرجوع إلى الأرشيف الإسباني لهذه المرحلة وإلى تقارير الضباط الفرنسيين.