هل بدأ سمير فريد النقد السينمائي في مصر؟

د. أمــل الجمل

كان سمير فريد يُصر علي وصف الناقد السينمائي تشبهاً بالناقد الأدبي والناقد المسرحي في محاولة منه لإضفاء هالة من الاحترام والتقدير الفكري والثقافي علي السينما ومهنة النقد السينمائي.

 ليس صحيحاً علي الإطلاق ما يدعيه البعض من عدم وجود نقد سينمائي قبل وجود كتابات الناقد السينمائي المصري سمير فريد، وليس صحيحاً تأكيد البعض؛ ”أن النقد السينمائي في الصحافة المصرية عرف مساهمات كانت تدور كلها في إطار النقد الانطباعي الذي يفتقر إلي الرؤية والمنهج حتي جاء الراحل سمير فريد وأعطى لتعبير الناقد السينمائي وزنا، لم يكن قائما قبل احترافه لهذا المجال.“ صحيح، بالطبع، أن سمير فريد كان يُصر علي وصف الناقد السينمائي تشبهاً بالناقد الأدبي والناقد المسرحي في محاولة منه لإضفاء هالة من الاحترام والتقدير الفكري والثقافي علي السينما ومهنة النقد السينمائي حيث كان يُنظر إليهما نظرة دونية وتعاملان باستهانة واستخفاف باعتبار السينما وسيلة للتسلية، وصحيح أن فريد كرس للنقد السينمائي والحياة السينمائية حياته، متأثرا في منهجه النقدي للأفلام بأفكار وتعاليم أساتذته في النقد الأدبي، لكن ليس صحيحا بالمرة غياب أو عدم وجود النقد السينمائي قبله، مثلما لا يمكن وصف النقد قبله بأنه كان يقتصر علي ”النقد الانطباعي الذي يفتقد إلي الرؤية والمنهج“، فهذه الجملة إضافة إلي كونها تشي بازدراء النقد الانطباعي والتقليل من قيمته وشأنه وأهميته، فهي أيضاً تُضيف تأكيداً علي افتقاده للرؤية والمنهج، وذلك رغم أن ”الانطباعية“ هي منهج نقدي انتقل من الفنون التشكيلية إلي النقد الأدبي، وكان له أنصار في كافة أنحاء العالم، وبعضهم إلي جانب انتمائه التاريخي ظل مؤمنا بأن الانطباعية هي المنهج الذي يُمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها. وكان طه حسين (1889 – 1973) زعيم النقد الانطباعي في العالم العربي، مدركاً أن الحضور الانطباعي ضرورة يقتضيها النقص الذي يواجه الناقد/المؤرخ.

ودافع عن ذلك المنهج، كذلك، تلميذه د. محمد مندور (1907 – 1965) – والذي تتلمذ علي يديه ناقدنا الكبير سمير فريد منذ الدراسة الثانوية، حتي أن د.مندور من شدة إيمانه بالانطباعية ودفاعه عنها اشتبك في صراع فكري أدبي حاد مع د. زكي نجيب محمود، سنة 1948، بشأن: ”هل يقوم النقد علي “الذوق” أو علي ”العلم“؟ إذ كان د. مندور يري أن النقد ليس علما، لأن مرجعه كله إلى الذوق الشخصي المدرب المصقول بطول الممارسات القرائية والتحليلية والفهمية، بينما كان د. زكي نجيب محمود يري أن النقد علم؛ أي منهج بحثي، ومجموعة قوانين تفسر الظواهر والتي مرجعها العقل لا الذوق، وأن الاحتكام المطلق إلي الذوق هو إشاعة للفوضى النقدية، مؤكداً علي أن تذوق العمل -وتحديد ما إذا كان المرء يحبه أو يكرهه – هي خطوة أولي تسبق النقد وتكون بمثابة المادة الخام لمرحلة النقد والتعليل والتي يُميزها العقل بمعني المنهجية العلمية، حيث يحلل ويعلل ويفسر ويستعين بكل ما أمكن من علوم.   

جانب من ندوة سمير فريد.

  هذا فيما يخص وصف البعض للنقد السينمائي بمصر قبل كتابات سمير فريد” بالانطباعي“. أما فيما يخص الشق الأول المتعلق بادعاء كثيرين بعدم وجود نقد سينمائي قبل الستينيات فالأكثر دقة أن في نصف تلك السنوات لم تكن هناك حركة نقدية قوية تهتم بالتوثيق بدقة شديدة فالأجيال الأولي ارتكبت كثير من الأخطاء ثم حدث التطور والتصحيح بالتدريج، حتي أن جيل سمير فريد استغرق بعض الوقت، بل كثيرا من الوقت والجهد ليصل إلي ما وصل إليه من أساليب منهجية في النقد والتوثيق، ومثلاً يعترف سمير أنه أثناء تصميمه لشهادة ميلاد الفيلم، ورغم أنه لم يبن جهوده من فراغ واستفاد من خبرات وجهود آخرين فمع ذلك وعلي مدار مرات ثلاث قام بتعديل تصميمه للبيانات في تلك الشهادة لتكون جامعة وكافية لتوثيق بيانات الفيلم وذلك بعد أن كان يُدرك في كل مرة أنها تعاني نقصاً وتستلزم تعديلا. صحيح أنه في تلك السنوات لم يكن هناك حركة نقدية لها تأثير فاعل وبارز لكن هذا لا ينفي الحضور، فكمال رمزي يقول: ”كان في الساحة النقدية قبله سعد الدين توفيق، حسن إمام عمر، عثمان العنتبلي، إلى جانب جيل جديد مثل هاشم النحاس، صبحي شفيق، فتحي فرج..” وسمير فريد نفسه في كتابه ”صبحي شفيق“ أكد أن؛ ”مصر عرفت النقد السينمائي منذ بداية نشأة السينما، لكنها لم تشهد وجود الناقد السينمائي المتفرغ تماماً للنقد إلا مع جيل الستينيات والأجيال التالية اللاحقة، فهم يمثلون المرحلة الثالثة من تاريخ النقد السينمائي المصري.

أما نقاد السينما من منتصف العشرينيات وحتي منتصف الخمسينيات من القرن العشرين فكانوا ما بين سينمائيين يُمارسون النقد على هامش عملهم في الإخراج، أو صحفيين يمارسون النقد علي هامش عملهم الصحفي.“ فإذا كان ما يكتبه الصحفيون لم يكن في ذلك الوقت يُعتبر نقدا سينمائيا، ويقترب من الأخبار والدعاية وما إلي ذلك من الصورة النمطية الشائعة عن الصحفي الفني أو الناقد الفني، فمن المؤكد أن المخرج المثقف الذي كان يُمارس الكتابة النقدية السينمائية سيكون له مستوي مغاير، فمثلاً، المخرج أحمد كامل مرسي كان من بين المخرجين الذين كتبوا النقد السينمائي في ثلاثينيات القرن العشرين، وفي عام ١٩٣٣ شارك في إصدار مجلة ”فن السينما“ مع مجموعة من السينمائيين المثقفين مثل نيازي مصطفي، وأحمد بدرخان، والتي صدر منها قرابة ١٥ عددا، مثلما شارك أيضا في تكوين جمعية للنقاد عام١٩٣٣.

”الانطباعية“ هي منهج نقدي انتقل من الفنون التشكيلية إلي النقد الأدبي.

 إذن، علميا، وتاريخيا، وحتي من الزاوية التوثيقية لتاريخ السينما المصرية -والتي ظل سمير فريد نفسه يحارب طويلاً من أجلها تكريسها – لا يصح ولا يجوز أن نقول أن ما كُتب قبل سمير فريد ليس نقدا. علينا – لكي نكون موضوعيين وأكثر دقة وأمانة – أن نقوم بجمع كل هذه الكتابات السابقة عليه، وننكب علي دراستها وتقييمها، ومن ثم نستخرج نتائج، تؤكد أو تنفي، وتوضح بالتحليل الموضوعي مبررات هذا الحكم المشفوع بالحجج من زاوية جمالية وفنية، لتخبرنا؛ هل النقد والكتابات السينمائية التي وجدت قبل سمير فريد كانت تندرج تحت وصف النقد أم لا؟ وهل هذه الكتابات منهجية أم لا؟!.. لماذا؟ لأن المنهج العلمي يقتضي ذلك، ولا يجوز أن نصف كتابات بأنها غير منهجية ونصادر عليها بأحكام هي الأخري لا تستند إلي المنهج العلمي ذاته،

  وإذا طبقنا أسلوب سمير فريد وتوثيقه المنهجي فلن يمكننا، بأي حال من الأحوال، أن ننفي وجود نقد سينمائي في مصر قبل الستينيات، بل سيكون العكس هو الصحيح، لعدد من الأسباب في مقدمتها، ليس فقط، لأننا لم نقرأ جميع تلك الكتابات حول السينما والأفلام، ولم ندرسها ونحللها لتقييمها. ولكن أيضاً، لأنني كباحثة اطلعت علي كتابات السيد حسن جمعة، وغيره آخرين، واستفدت منها كمرجع في بعض كتبي خصوصا بكتابي؛ ”أفلام الإنتاج المشترك في السينماالمصرية“٢٠٠٩ و”السينما المصرية في المهرجانات الدولية الكبري“٢٠١٤.إضافة إلي أن سمير فريد في كتاباته وتوثيقه للسينما أيضا استعان بكتابات السيد حسن جمعه مثلما يتضح لي من كتابه ”صفحات مجهولة من تاريخ السينما المصرية“.. ورغم أن ”كتابات السيد حسن جمعة وحسن إمام عمر كانت تفتقد المنهج والتوثيق بدليل أنها لو كانت تقوم بالتوثيق لتم تسجيل تاريخ عرض فيلم ”قبلة في الصحراء“، ولو فعلوا ذلك لحسموا الخلاف؛ أيهما أول فيلم مصري روائي طويل هل هو ”قبلة في الصحراء“ أم ”ليلي“؟“ هذا صحيح، لكن في نفس الوقت هناك كتاب صحفيون ونقاد سينما آخرون – أو نقاد فنيون كما كان شائعا في ذلك الوقت – لم يخضعوا للدراسة بعد. كما أن تلك المراجع للجيل الأول ورغم أنها تبدو أقرب إلي الكتابات الخبرية الصحفية، وتفتقد التدوين العلمي المطلوب في توضيح كافة التفاصيل وتدقيقها، لكن هذا لا يُقلل من قيمتها وأهميتها في التوثيق لتاريخ السينما المصرية، لأنه في غيابها أو من دونها كانت مهمتنا كباحثين سينمائيين ستصبح شبه مستحيلة.

 المؤكد أنه قبل أن يبدأ سمير فريد الكتابة النقدية للسينما هو وأبناء جيله في منتصف الستينيات من القرن العشرين كان النقد السينمائي في مصر قد مر بثلاث مراحل كما وثق لها سمير فريد نفسه؛ المرحلة الأولي بدأت منذ بداية الإنتاج السينمائي بمصر عام 1907، في حين بدأت المرحلة الثانية من منتصف العشرينيات وحتي منتصف الخمسينيات من القرن العشرين وتميز نقادها بأنهم كانوا ما بين سينمائيين يُمارسون النقد علي هامش عملهم في الإخراج، أو صحفيين يمارسون النقد علي هامش عملهم الصحفي، ومن منتصف الخمسينيات تبدأ المرحلة الثالثة الموسوم نقدها بالمنهجية وبأنها بداية النقد الحديث في مصر.

قبل أن يبدأ سمير فريد الكتابة النقدية للسينما هو وأبناء جيله في منتصف الستينيات من القرن العشرين كان النقد السينمائي في مصر قد مر بثلاث مراحل.