هل تصل أفلام نتفليكس إلى الصالات؟

محمد موسى

هل يجد فيلم سكورسيزي الجديد "الأيرلندي" طريقه لصالات العرض في 2019؟

لا تريد شركة نتفليكس الأمريكية أن تحسم الآن مسألة عرض جديد المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي “الأيرلندي” في الصالات السينمائية في الولايات المتحدة في عام 2019، إذ يتهرب مسؤولو الشركة من الإجابة الحاسمة عن السؤال حول هذا الفيلم الذي يمثل أول تعاون للشركة مع المخرج المعروف، أو فيما يخص أفلام الشركة الأخرى بشكل عام، حيث مازالت نتفليكس تحاول أن تجد آلية خاصة لعرض أفلامها في الصالات التجارية الأمريكية، تحافظ فيها على وعدها بإطلاق هذه الأفلام على خدمتها لتزويد المواد الترفيهية عبر الإنترنت في نفس يوم عرضها في الصالات، وهو الأمر الذي لا يرضي الشركات العملاقة التي تملك الصالات السينمائية في الولايات المتحدة، والتي تصر على فترة زمنية تفصل بين موعد العرض السينمائي ووصوله إلى خدمة نتفليكس.

ولعل النقاش والتكهنات عن عرض أفلام شركة نتفليكس الخاصة في الصالات السينمائية التجارية لم يكن ليتواصل وتزداد حدته في السنوات الأخيرة، لولا إصرار نتفليكس نفسها على الظفر بأبرز المواهب والقامات السينمائية والتي كانت الصالات السينمائية تشكل دائماً نقطة انطلاقها البديهية، ففيلم الإيرلندي مثلاً هو عودة للمخرج سكورسيزي إلى نيويورك وعوالم رجال العصابات، والفيلم يجمع أيضاً روبرت دي نيرو (نجم أفلام سكوسيزي في سبعينيات القرن الماضي) ، آل باتشينو، وجو بيشي العائد من الاعتزال. هذا الفيلم، الذي يضم عناصر قلما تجتمع في فيلم سينمائي حديث، ربما لن يصل إلى شاشات الصالات السينمائية، وسيتم مشاهدته بالمقابل على شاشات هواتف وكمبيوترات لوحية وشاشات من كل الأنواع، وحيثما تتوفر الإمكانات الإلكترونية لاستلام خدمة شركة نتفليكس.

وإذا كانت الأسماء اللامعة التي تقف وراء فيلم “الإيرلندي” هي التي أعادت النقاش أخيراً حول مستقبل أفلام نتفليكس بالعلاقة لعرضها في الصالات السينمائية الأمريكية، فمن المتوقع أن يتواصل النقاش في الأشهر القليلة القادمة ومع اقتراب موعد إطلاق إنتاجات جديدة للشركة، بعضها لا ينسجم مع الخط الإنتاجي لنتفليكس، الذي يركز بالعادة على الأفلام ذات القصص الاجتماعية والتي تبرز أداء الممثلين والممثلات. إذ من المقرر أن يصل إلى خدمة نتفليكس في العام القادم، فيلم الخيال العلمي “برايت” الذي يقوم ببطولة النجم الأمريكي ويل سميث، والذي صرفت الشركة حوالي 90 مليون دولار على إنتاجه، ويُعَّد أول تجربة للشركة مع أفلام الخيال العلمي ذات الميزانيات الكبيرة، وهي الأفلام التي تَعَزز حضورها في الصالات السينمائية في الأعوام الأخيرة بسبب مشاهدها الواسعة ومؤثراتها الصورية والصوتية الصاخبة التي تناسب طقس المشاهدة في الصالات السينمائية.

تعتزم نتفليكس إنتاج 80 فيلما في 2018 وإنفاق 8 مليارات دولار على مجموع إنتاجها السينمائي والتليفزيوني.

يبرز في النقاش المتواصل على قضية أفلام شركة نتفليكس اتجاهان أساسيان: الأول ينطلق من الخوف على مستقبل السينما، والذي يعتبر طقس مشاهدتها في الصالات السينمائية أمراً لا يستغنى عنه لتطورها وبحثها عن آفاق جديدة. يُدافع عن هذا الاتجاه الشركات التي تملك الصالات السينمائية بالتحديد، والتي ستكون أول الخاسرين إذا تواصل تشتيت انتباه المشاهد العادي وإغراقه بالأفلام الجديدة التي تعرض حصراً عبر خدمات تزويد الترفيه عن الطريق الإنترنت (نتفليكس وأمازون مثلاً). في حين يهتم البعد الآخر بآثار ظاهرة عرض الأفلام الجديدة على الإنترنت فقط على المشهد السينمائي بشكل عام وبالتحديد على جوائز الأوسكار، إذ تشترط الأخيرة فترة أسبوعين على الأقل من العرض في الصالات في الولايات المتحدة، ليكون الفيلم مؤهلاً للترشيح لجوائز الأوسكار، وهذا ربما يعني أن فريق فيلم “الأيرلندي” سيكون بعيداً عن سباق الاوسكار بعد عامين.

الأمر اللافت أن صحافة السينما في الولايات المتحدة تبدو أكثر اهتماماً بعدم ترشيح أفلام شركات الإنترنت لجوائز الأوسكار من النجوم والسينمائيين أنفسهم الذين يعملون في هذه الأفلام، إذ غابت تصريحات مهمة بهذا الخصوص من النجوم، والذين يبدون سعداء كثيراً بأن مشاريعهم السينمائية ستصل إلى الجمهور بغض النظر عن الواسطة التي ستصل عبرها. كما لا يخفى في هذا المجال أن شركات الإنترنت توفر حريات إنتاجية غير مسبوقة للمواهب السينمائية والتلفزيونية، حيث يتم في هذه الأجواء الملهمة إنتاج اليوم مجموعة الأعمال الفنيّة الشديدة التميز التي تصل إلينا بشكل دوري.

أفلام نتفليكس خارج الولايات المتحدة

كانت الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي أول مواجهة كبيرة بين المهرجانات السينمائية، والتي ترفع قيم السينما التقليدية، وظاهرة شركة نتفليكس، حيث هيج اشتراك فيلمين للشركة (“أوكاي” للكوري الجنوبي “بونغ جون هو” و”حكايات ميرويتز” للأمريكي نوا بومباخ) في المسابقة الرسمية هناك النقاشات الحادة، بخاصة أن فرنسا والعديد من الدول الأوروبية تطبق قوانين لحماية الصالات السينمائية في بلدانها، تشترط فترات زمنية تصل أحياناً إلى العامين بين عرض الفيلم في الصالات السينمائية ووصوله إلى واحدة من خدمات تزويد الترفيه على الإنترنت. لم تدفع الأزمة تلك شركة نتفليكس إلى تغيير سياستها الخاصة بخصوص وصول أفلامها الخاصة لخدمتها، فعرض فيلمي مسابقة مهرجان كان على خدمة نتفليكس أولاً، ولم يصلا إلى الصالات السينمائية (باستثناء فيلم “أوكاي” الذي عرض في كوريا الجنوبية، بلد مخرج الفيلم “بونغ جون هو”).

استفادت شركة نتفليكس كثيراً من أزمة مهرجان كان السينمائي على صعيد جذب الاهتمام لاسمها والتنويه بأعمالها، والذي تم في أكثر المناسبات السينمائية العالمية جاذبية وجدية. وعلى رغم أن أعمالها القادمة ربما لن تصل إلى مهرجان كان السينمائي في السنوات القليلة المقبلة، إلا أنها لن تغيب عن الأحداث السينمائية الكبرى في العالم، ذلك أنه لم يعد من الممكن تجاهل دورها والأعمال التي تقدمها، بخاصة مع تواصل استقطاب الشركة لأكثر الأسماء السينمائية شهرة، وصرفها الملايين من أجل التعاون معهم. كما تحولت أخبار هذا التعاون والشراكات إلى دعايات مجانية ناجحة للشركة.

تشير دراسة لنتفليكس إلى أنه ليس كل ما تنتجه الشركة يجذب الجمهور، كما أنها غير قادرة على السيطرة على صورتها وأعداد مشاهدي أفلامها

خطط قادمة

والحال أن الموقف المتشدد لشركة نتفليكس بعدم التفاوض على موعد عرض منفصل لأفلامها الخاصة في الصالات السينمائية، وإصرارها أن يكون في نفس اليوم إطلاق هذه الأفلام على الخدمة الخاصة بها، له أبعاد تتجاوز ما تعلن عنه الشركة رسمياً، بأن المشترك في خدمتها له الحق بالاستمتاع بهذه الأفلام قبل غير المشترك (الذي يدفع لشراء بطاقة الدخول لهذه الأفلام في الصالات). ذلك أن نتفليكس لا تريد أن تكرر كبوتها مع فيلم “وحوش بلا أمة” (2015)، والذي كان من أوائل أفلامها الحصرية، حيث بقي الجمهور بعيداً عن صالات السينما التي عرضت الفيلم تجارياً في الولايات المتحدة. ربما لأن هذا الجمهور فضل الانتظار حتى يشاهد الفيلم على الخدمة.

شكَّل الفيلم المذكور درساً مهماً لشركة نتفليكس، التي تهتم كثيراً بالمحافظة على الصورة المتفوقة لها، كشركة هزت وغيرت المشهد الترفيهي في العالم، فالأعداد المحرجة للجمهور الذي دفع مبالغ لمشاهدة فيلمها المذكور، كشف أن ليس كل ما تنتجه الشركة يجذب الجمهور، وأنها غير قادرة على السيطرة على صورتها وأعداد مشاهدي أفلامها، إذا تعاملت مع نظام العرض في الصالات السينمائية والمكشوف للإعلام، وهي التي تمتنع تماماً عن تقديم أيّ إحصائيات عن أعداد مشاهدي خدمتها، حتى تتحكم بسياسات الإنتاج دون أي ضغوط خارجية.

لم تقطع شركة نتفليكس الطريق تماماً أمام وصول أفلامها إلى الصالات السينمائية في الولايات المتحدة، بل يتردد أنها في طريقها لعقد اتفاقات مع سلاسل صالات سينمائية صغيرة هناك، مع الإبقاء على شرطها بعرض أفلامها في الصالات في نفس اليوم من توفيرها لهذه الأفلام على خدمتها. في كل حال من الاحوال، نتفليكس في طريقها لتتحول إلى واحدة من أهم منتجي الأفلام في العالم، حيث إنها أعلنت أخيراً بأنها تخطط لإنتاج 80 فيلماً في عام 2018 وحده، في حين ستصل الميزانية العامة لأعمالها في السنة القادمة (تلفزيون وسينما) إلى يقارب من 8 مليارات دولار.