هل نُعاقب “عادل إمام” على مواقفه السياسية

الشعب يريد سينما جديدة
صلاح سرميني ـ باريس

في الفيلم الروائيّ المصري “شعبان تحت الصفر” من إخراج “بركات”، وإنتاج عام 1980، يُمثل “عادل إمام” دور”شعبان”، موظفٌ بسيطٌ في الإصلاح الزراعيّ، مسكينٌ، طيبٌ، ساذجٌ، وعاشقٌ لزميلته في العمل “زينب”(إسعاد يونس)، ولكنه لا يستطيع الزواج منها بسبب فقره، فيلجأ إلى “الغطريفي بيه”(عماد حمدي) الذي تربطه به قرابة بعيدة كي يقترض منه مبلغ 2000 جنيه تُعينه على امتلاك بيتٍ صغير، ولكن “الغطريفي بيه” يبخل بتقديم فنجان قهوة لضيوفه، فكيف له مساعدة أحد منهم ؟..وفي اللقطات التالية من أحداث الفيلم، يموت تاركاً ثروةً كبيرة.
من بين الشخصيات الفاعلة، يحظى “جميل راتب” على دورٍ أكثر طولاً من أدواره في أفلام أخرى شاهدتها له حتى الآن (ماعدا “البداية” من إنتاج عام 1986 لـ”صلاح ابو سيف”)، ويمتلك حضوراً مميزاً، بملامحه، صوته، وتعبيرات وجهه.
هو فاسدٌ، مُفسدٌ، انتهازيٌّ، مُتملقٌ، سمسارٌ، وحتى قوّادٌ، لا يتوانَ عن فعل أيّ شيءٍ من أجل المال، وأكثر من ذلك، يُصيغ خطةً جهنميةً يقترحها على أقاربه الثلاثة المُتحفزين للاستيلاء على ميراث قريبهم “الغطريفي بيه” الثريّ البخيل، مُستفيداً من غياب ابنه “فريد” الوريث الوحيد الذي لا يستطيع الحصول على الميراث لأنه تورّط يوماً في قتل راقصة، وحُكم عليه بالإعدام، فهرب إلى فرنسا، ويُعتبر ميتاً في السجلات الرسمية.

عادل إمام وإسعاد يونس في فيلم شعبان
تحت الصفر

وانطلاقاً من هذه الشخصية الحاضرة/الغائبة، يفكر “عبد الجواد” (جميل راتب) الاستعانة بواحدٍ آخر، وإقناعه بانتحال شخصية الابن “فريد”، ولا يجد أفضل من “شعبان” الذي حالما يشمّ رائحة الملايين، وقبل أن يمسكها بأصابعه، ويُحصيها بدقةٍ هوسية، يكشف بأنّه ليس طيباً، أو ساذجاً كما يتصوره الآخرون، حيث يوافق بسهولةٍ على هذا العرض المُغريّ، وأكثر من ذلك، يرفع حصته من 2000 جنيه كان يحتاجها إلى ثلاثة ملايين جنيه نصف الميراث، ويترك الباقي لأقاربه الأربعة، “جميل راتب”، وثلاثة آخرين، ومنهم الشقراء اللعوب “ناريمان” (ليز سركسيان)، وهكذا، يصبح بين يوم، وليلة ثرياً، ويتحول إلى فاسقٍ ينفق ثروته الطائلة، والطارئة في سهراتٍ حمراء تأخذ الحيّز الأكبر من تفكيره، ونشاطه، وفي زحمة النساء العابرات ينسى حبيبته “زينب” القلقة على مصيره، هي التي أوهمها بأنه سافر إلى القاهرة للعمل فيها.
وفي الثلث الأخير من الفيلم تظهر شخصية كنا نتوقع ظهورها في أيّ لحظة، حيث يعود “فريد” الابن الحقيقي للغطريفي بيه مُستعيناً بجواز سفر مزور، ويطالب “شعبان” بالميراث، وعندما يُواجهه بالرفض، يفاصله على المبلغ بدون نتيجةٍ لصالحه، ولا يبقَ له غير الانتقام، والإبلاغ عنه، وهنا، تطفو على السطح الملفات القديمة للجريمة، ومن الطبيعيّ بأن تتوجه الأنظار نحو “شعبان” الذي أصبح “فريد” المحكوم عليه بالإعدام، وتورّط في جريمةٍ قتلٍ لم يحسب حسابها.
هذا الكشف المُتوقع يُحوّل مسارات الحكاية، ويفرض عليه إقناع الآخرين، وخاصةً القضاء، وتقديم الإثباتات بأنه ليس “فريد” المجرم الهارب، ولكنه انتحل شخصيته للحصول على ميراث أبيه.
لن يترك السيناريو “شعبان” يتحمّل هذا العقاب الأقصى، فيقدم الحلول سريعة بالكشف عن “فريد” الابن الحقيقيّ لحظة مغادرته المطار هرباً مرةً أخرى من عقابٍ مُحتمل، ولن نسال أنفسنا لماذا لم ينتبه أحدٌ إلى جواز سفره المُزيف عند وصوله، طبعاً لو حدث هذا الاكتشاف في البداية لما توالت الأحداث التالية بنفس طريقة السرد التي ظهرت في الفيلم، وساعدت “شعبان” على التخلص من تهمة القتل.
وعلى الرغم من كلّ المُوبقات التي ارتكبها تظل “زينب” الفقيرة مخلصة في حبها له، وسوف تنتظره بصبرٍ حتى خروجه من السجن بعد أن يقضي عقوبة النصب، والاحتيال، وانتحال شخصية، وهي أخفّ بكثيرٍ من حكم الإعدام الذي سوف يكون من نصيب “فريد” ابن “الغطريفي بيه”.
في كلّ الحالات، نتوقع بأن يتعاطف الجمهور مع “شعبان” مهما كان وضعه الاجتماعي، فقيراً شريفاً، أو ثرياً محتالاً(وهو في اللاوعيّ تعاطفٌ موجهٌ نحو “عادل إمام” نفسه)، وسوف يجد له مبرراتٍ كافية تمنح الشرعية لمُمارساته، بينما لن يرحم “عبد الجواد “(جميل راتب)، والآخرين.
بدون تحليلٍ نقديّ مُعمّق، وهو ليس موضوعنا، يتضمّن الفيلم جوانب مُسلية، وترفيهيّة، ولكنها، ضمنياً، مؤذيةٌ، وخطيرة (التعاطف مع نصابٍ، فاسقٍ، ماجنٍ، منتحلٍ، وكذاب،….).
لقد تمّ إنجاز الفيلم لعرضه على متفرجين مخدّرين ذهنيّاً لن يطرحوا على أنفسهم أسئلةً كثيرةً، ومعقدةً عن السيناريو، الشخصيات، والبناء السينمائي، ومفرداته البسيطة، أكثر ما يعنيهم في هذا الأمر متابعة حكاية خفيفة، وطريفة يحملها النجم “عادل إمام” على كتفيّه، ويمضي بها مُتسلحاً بشعبيةٍ اكتسبها من جمهور متواطئٍ مع فساد صناعة سينمائية مصرية يُساهم في تدميرها .
وانتهزها فرصةً كي أتوقف قليلاً عند “عادل إمام” الممثل الذي أشاهده على الشاشة، ويجعلني سعيداً، ومبتهجاً بما يكفي، وأتساءل:
ـ هل يتوّجب علينا الامتناع عن مشاهدة أفلامه القديمة، والجديدة لأنه في بداية الثورة المصرية أدلى بتصريحاتٍ سياسية متعاطفة مع النظام السابق، ولا تتوافق مع الظروف الراهنة ؟.
وبشكلٍ عام، أصيغ السؤال كالتالي:
ـ هل يتوّجب علينا مقاطعة فنانٍ بسبب مواقفه الاجتماعية، والسياسية، وحتى سلوكياته الشخصية ؟
إذا كانت الإجابة “نعم”، فهذا يعني التوقف عن مشاهدة معظم الأفلام العربية، والأجنبية، لأننا سوف نجد في كلّ واحدٍ منها شخصاً على الأقلّ تتضارب أفكاره، ومواقفه مع أفكارنا، ومواقفنا الفردية، أو الجماعية.
دعونا نفترض عقاباً جماهيرياً صارماً ضدّ “عادل إمام”، وفي هذه الحالة، ماذا نفعل عندما نشاهد فيلماً ما، ونجده يتصدّر الأحداث:
ـ هل نقتلعه من الصورة ؟
ـ هل نضع على وجهه شريطاً أسود ؟
ـ هل نمسح حواراته ؟
ـ هل نلغيه من تاريخ السينما، وذكرياتنا ؟
وإذا تمادينا في التصدي :
ـ هل نُحرّض الجمهور بكافة أطيافه على الامتناع عن شراء تذكرة دخول لمُشاهدة أفلامه، وفي نفس الوقت نجعل العقاب يسري تلقائياً على عشرات الممثلين، الفنانين، التقنيين، والعمال الذين يكسبون عيشهم من فيلم يمثله “عادل إمام”، أو غيره من الفنانين الذين وضعهم الثوار في قائمةٍ سوداء .
ـ هل تتوقف المحطات التلفزيونية العربية عن بثّ أفلامه ؟
ـ هل نمتنع عن شراء الأقراص المُدمجة لأفلامه ؟
ـ هل يتوافق “الفعل الثوريّ” الناضج مع رغبةٍ يمكن أن تُساهم في انهيار صناعة سينمائية بكاملها ؟

الكثيرون اتهموه بعلاقته بأبناء مبارك

الأسئلة، والتساؤلات كثيرة، وسوف تتضاعف يوماً بعد آخر، ولكنّ حرية التعبير التي تُطالب بها الثورات العربية تمنحني الحقّ بأن أكون على خلافٍ مع بعض الآليات.
بالنسبة لي، “عادل إمام”، ومهما تلوك الألسنة حكاياتٍ عنه، كان، وسوف يظلّ واحداً من كبار الممثلين في السينما المصرية، أشاهد أفلامه بمتعةٍ مهما كانت غارقةً في جماهيريتها، وأتحفظ في بعض الأحيان على نوعية الأفلام التي يُشارك فيها.
ببساطةٍ، سوف أستمرّ في مشاهدة أفلامه مهما كانت أفكاره السياسية، متعاطفة، أو مناهضة، لأنّ الأفلام نفسها، جيدة، أو رديئة، وكلّ ما تحتويه من عناصر فنية، هي التي تعنيني في المقام الأول، أما الحياة الشخصية للممثل، أفكاره، سلوكياته، أخلاقياته،..فهي تخصّه وحده (مقولةٌ مُنافقةٌ تلك التي تدّعي بأنّ الفنان ملك الجمهور).
يُخطئ من يمنح نفسه “قداسةً ثورية”، ويسقطها عن آخرين، ويُخطئ أكثر من يضع نفسه “وصياً”، وحامي حمى ما يعتقد بأنه صواب.
من المُفترض بأننا شعبٌ ناضجٌ بما يكفي كي نخشى تأثيراتٍ مُفترضة، أو مُحتملة من كلماتٍ، أو مواقف فنانٍ، نعتقد بأنها سوف تُحيدنا عن الطريق الثوريّ المُستقيم.
كان الأحرى بنا جميعاً، ومنذ سنواتٍ طويلة، التصدي لكلّ الأفلام التي نهبت جيوبنا، وأساءت للذوق العام، وأفسدت أجيالاً بأفكارٍ أقلها التعاطف مع المجرم، السارق، النصاب، والمحتال،.. كما الحال تماماً في “شعبان تحت الصفر”، وأفلاماً كثيرة نشاهدها طوعاً، ولم نقف يوماً أمام صالات السينما نرفع شعاراتٍ كتبنا عليها “الشعب يريد سينما مختلفة”، رُبما كنا ساهمنا عن طريق هذا الفعل الاحتجاجيّ السلميّ البسيط في تغيير أشياء كثيرة فاسدة تراكمت مع الزمن.
الممثل في أيّ فيلم جيد، أو رديء، يؤدي عملاً فنياً، هو على الشاشة شخصية سينمائية لا علاقة لها بالواقع، ولكنها مُستوحاة بشكلٍ ما من الواقع مع الكثير من الخيال، ولكنه في الحياة بشرٌ مثلنا، يُصيب، ويُخطئ، والسينما، منذ بداياتها، وحتى اليوم، ترتكز على فكرة الوهم، وعندما يؤدي الممثل دوراً ما، فإنه يُوهم المتفرج بأنه هذه الشخصية، أو تلك، ببساطة، هو يُمثل دوراً، يتقمص، ويجسّد عالماً سينمائياً.
وليس من حقنا مطالبته بأن تتطابق حياته الشخصية مع تلك الأدوار المُتعددة التي نراها على الشاشة، وإذا أردنا محاسبته على موبقاتٍ يرتكبها، وهو ليس دورنا، سوف تطول القائمة، وينفضّ الجمهور عن السينما، والتلفزيون، وقد أصبح هذا الأمر مستحيلاً.
وكما اكتشفنا منذ سنواتٍ سحر الماضي في السينما المصرية، بالأبيض والأسود، أو بالألوان، وبدأنا نُعيد تقييّمنا لها، ولصانعيها، سوف يأتي يومٌ قريبٌ جداً نتذكر بكثير من الحنين “عادل إمام” الفنان، وننسى مواقفه السياسية، تماماً كما حدث مع فنانين آخرين من كلّ أنحاء العالم.