هل وصلت القَرصَنة الإلكترونية لنقطة اللاعودة؟

محمد موسى

يبدو حال شركات السينما والتلفزيون، وهي تُواجه مُعضلة القَرصَنة الإلكترونية اليوم، مثل من يُبحر بقارب مُهتريء البنيان. فكلما سدَّ ثقب ما، انفجرت ثغرات أخرى، ليتأرجح هذا القارب بين الإبحار الشاق والغرق البطيء. فبعد شهرين من التوقف الذي لا يُعرف أسبابه، عاد قبل أيام إلى الحياة مجدداً، موقع “قاعدة القراصنة” (بايرت بي) الإلكتروني الشهير لتحميل الملفات. لتحظى عودته باهتمام إعلامي مُهم، وصل إلى صفحات الصحف والمجلات المرموقة. كما لم يعد غريباً، ومنذ سنوات، أن تستحوذ أخبار القَرصَنة على متابعات إعلامية دورية. فمؤسسات إعلامية عريقة مثل: صحيفة “النيويورك تايمز” الأمريكية، أو موقع “بي بي سي” البريطاني باللغة الإنكليزية، تنشر بوتيرة مُنتظمة، إحصائيات عن أكثر الأفلام والمسلسلات قرصنة في العام، لأن هذه الأرقام، أصبحت تساعد المختصون في دراسة مزاج الجمهور، إذ لم تعد مداخيل الصالات السينمائية، أو إحصائيات المشاهدة التلفزيونية، هي الوحيدة التي تشي بنجاحات مُنتج فنيّ ما، فهناك الحياة الأخرى، التي يعيشها هذا المُنتج في دهاليز الشبكة العنكبوتية.

والحال أن اختفاء موقع “بايرت بي” المُؤقت (على الأرجح بسبب المشاكل القضائية التي تطارد مؤسسيه منذ سنوات)، لم يؤثر فعلياً على زخم القَرصَنة الإلكترونية، فهناك من أعاد تقديم محتويات الموقع الشهير الضخم،  متستراً بأسماء مواقع  أخرى، كما لم يعد الموقع السويدي الأصل، ومنذ سنوات، الموقع الأبرز للقرصنة في العالم، فهناك الكثير من المواقع الإلكترونية الأخرى التي توازيه أهمية، تقدم مجاناً أفلاماً ومسلسلات للراغبين. نشاط هذه المواقع لم يتأثر كثيراً بالحصار الذي يحاول موقع البحث الأشهر في العالم (غوغول) أن يفرضه عليها. فمواقع القَرصَنة بتنوعاتها، أو ما يطلق عليها: مواقع “تبادل الملفات عبر الإنترنت”، لا يُمكن العثور عليها بسهولة عبر موقع البحث، كما أن “غوغول” يقوم بحذف الآلاف من المواقع الخاصة بتبادل الأفلام والمسلسلات كل ساعة، ليغدو العثور عليها بدون هذا الأخير، مُهمة صعبة أحياناً لغير المطلعين.

ولعل التطور الشديد الجديّة في موضوعة القَرصَنة، والذي برز على غيره في الأشهر القليلة الماضية، هو الصعود

المفاجيء والقوي لمواقع المشاهدة الحيّة للمنتجات الفنيّة المُقرصنة، والتي لا تتطلب تحميل الملفات على أجهزة الكمبيوتر الخاصة، بما تتضمنه هذه من عمليات مُعقدة أو خطرة أحياناً، إذ يكفي فتح واحد من مواقع المشاهدة الحيّة تلك، واختيار فيلما ما ومشاهدته. تشكل هذه المواقع خطراً جسيماً لشركات تجهيز المواد الفنيّة حسب الطلب الحديثة العهد (شركة “نتفليكس” الأمريكية المُعروفة على سبيل المثال)، والتي كان ينتظر كُثر أن تكون بديلاً “شرعياً” عن القَرصَنة، وأن تنقذ ما تبقى من شركات السينما الصغيرة، لرخص الاشتراك في خدماتها. كما كان يؤمل أن تعيد “نتفليكس” ونظيراتها، النموذج الناجح لشركات تقديم المحتوى الموسيقي عبر الإنترنت، والتي تشير إحصائيات أخيرة تمت في أكثر من بلد أوروبي، بأنها ساهمت في خفض مُعدلات القَرصَنة للموسيقى على الإنترنت إلى حدود مُقبولة.

وعلى رغم أنه من المُبكر كثيراً، الحديث عن آثار شركات “المشاهدة حسب الطلب” القانونية عبر الإنترنت على معدلات القَرصَنة في العالم، بسبب عمر هذه الشركات القصير نسبياً، إلا أن هناك ما يُشير بأنها ستواجه منافسة حادة من مواقع القَرصَنة والمشاهدة الحيّة، بسبب محدودية ما تقدمه من مواد ترفيهية، مقارنة بما متوفر على مواقع القَرصَنة، من أحدث الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، والتي يُمكن الحصول عليها بعد ساعات فقط من عرضها في الصالات السينمائية أو على القنوات التلفزيونية المنتجة لتلك الأعمال. فالوقت الطويل النسبيّ الذي يستغرقه وصول أفلام ومسلسلات إلى شركات توفير المحتوى الفنيّ حسب الطلب، ليس في صالح هذه الأخيرة على الإطلاق. كما أن نشاط مُعظم هذه الشركات محدود على دول غربية فقط (عدد المشتركين بخدمة “نيتفلكس” حول العالم تعدّى الخمسين مليون مُشتركاً، موزعين على أربعين بلداً)، وتغيب الشركة عن معظم دول العالم الأخرى، وخاصة عن تلك التي تحتلّ مواقع متقدمة في قائمة الدول الأعلى في معدلات القَرصَنة للفرد الواحد، مثل الصين أو روسيا.

ورغم المرونة التكنلوجية التي تفسحها شركات توفير المشاهدة حسب الطلب عبر الإنترنت لمستخديمها، (يمكن مشاهدة خدمتها على وسائط عدة مثل:التلفزيون الذكي، الكمبيوتر الشخصي، الكمبيوترات اللوحية، والهواتف الذكية)، إلا إن النموذج الإقتصادي لهذه الشركات، هو محل تساؤل كبير عند مختصين اليوم. فمبلغ الاشتراك الشهري لشركة نيتفليكس (أقل من عشرة دولارات شهرياً)، يبقى مبلغاً كبيراً، إذا ما تم مقارنته مع مجانية ما توفره مواقع القَرصَنة الشعبية والعديدة، خاصة مع غياب أو تعثُّر أي تشريعات قانونية في الدول الغربية، في الوصول إلى صيغ قانونية  للحدّ من القَرصَنة عبر الإنترنت، واصطدام أي نية في هذا الاتجاه  بمفاهيم الحرية على الإنترنت، وما تثيره هذه الاخيرة من مشاعر حادة عند مُنظمات المحافظة على الخصوصية، والجمهور العادي، اللذان يعتبران أي قوانين تمنح حكومات اليد التكنولوجية العليا على ما يصل عبر الإنترنت، يُمكن أن يكون بداية لرقابات فكرية، غير مُرحَّب بها على الإطلاق.

خريطة القَرصَنة في العالم!

تُركز الإستديوهات السينمائية الأمريكية وشركات الموسيقى، معركتها مع القَرصَنة الإلكترونية، في أمريكا وأوروبا ودول غربية أخرى، وما زالت بعيدة، وإلى حدود كبيرة، عن خوض المعركة ذاتها خارج هذه الدول، إذ لم تحاول عبر النظام القضائي أو الضغط من أجل إجراءات تشريعية، مواجهة القَرصَنة في الصين أو روسيا مثلاً، اللتان تُعدان الدولتين الأكبر بعدد المواد المُقرصنة في العالم. وعلى الرغم من أنه لا يوجد لليوم إحصائيات دقيقية عن معدلات القَرصَنة حول العالم ، إلا ان هناك بعض الإحصائيات الأخيرة، التي تبرز جديّة المشكلة في بعض الدول المُتقدمة مثل: بريطانيا وإسبانيا. فحسب دراسة قدمها مركز “La Coalición” للدراسات الصناعية، يقوم نصف الإسبانيين الذين يستعلمون الإنترنت بالتحميل الغير قانوني لأفلام ومسلسلات. في حين خَمَّنَ مركز “Ipsos” البريطاني للبحوث، أن حوالي 30% من البريطانيين يقومون بين وقت لآخر بالقَرصَنة الإلكترونية، والتي تكبد الصناعة السينمائية والتلفزيونية في بريطانيا ما يقارب 500 مليون باوند. في الوقت الذي بيّن بحث أجرته مؤسسة “Rockwool Foundation” الدنماركية، إن 70% من الدنماركيين لا يعتقدون إن القَرصَنة تتضمن فعلاً مُخالفة للقانون.

نهاية السينما..؟

  1. لا يخلو عام واحد، من العقد الأخير، من بحوث ودراسات وإحصائيات، تحاول أن تخمن الخسائر المادية التي تتكبدها صناعة الترفيه حول العالم بسبب القَرصَنة. فالإقتصاد الأمريكي وحده، يخسر، وحسب دراسة أجرتها مؤسسة “Institute for Policy Innovation” الأمريكية، مبلغ 12,5 مليار دولار سنوياً. هذا رغم أن عائدات السينما حول العالم في تصاعد، حتى يتوقع أن تبلغ 110,1 مليار دولار في عام 2018، مقارنة بـ 88,3 في عام 2013. لا شك أن اتجاه “هوليوود”، كلاعب أساسي في الصناعة السينمائية في العالم، إلى السينما الضخمة بتكاليفها، والتي تولي المؤثرات الصورية والصوتية الأهمية الأساس، هو أحد الأسباب التي تُفسر زيادة أعداد الجمهور المتوجِّه للصالات السينمائية حول العالم. حتى أن صالة السينما اليوم، تكاد تتحول إلى حاضنة لما يشبه التجربة الحسيّة، التي تسعى أن تتميز بشدة عن تجربة المشاهدة عبر شاشة التلفزيون أو شاشات وسائط  أخرى.

ومما لا شك فيه، إن أبرز ضحايا القَرصَنة هي سينما المؤلف والسينما الفنيّة، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. فهذه السينما تكاد تنهار وتفقد كل مقومات وجودها، بسبب السرقات التي تتعرض لها مواردها القليلة، ومنافسة التلفزيون. منذ سنوات، ومنتجو ومخرجو هذه السينما لا يتوقفون عن الشكوى، خاصة عن الصعوبات المتزايدة لإنتاج أفلام فنيّة مختلفة، بسبب هيمنة ذهنية تجارية بحتة، تحاول أحياناً أن تحول صالة السينما، إلى ما يشبه صالة السيرك في القرن التاسع عشر. أي مكان لمشاهدة “الغريب” و”الشاذ” والمُختلف عن الحياة اليومية الرتيبة للمشاهد، مع فروقات مهمة كثيراً لزمننا عن ما سبق، بسبب وجود التلفزيون، والذي تحول إلى مكان طبيعي للمشاريع الفنيّة التي تقارب موضوعات صعبة وغير شعبية.

ورغم أن هوليوود تحاول أن تبرز آثار القَرصَنة على مستقبل صناعة الترفيه، وإمكانية أن تخسر هذه الصناعة معركتها مع القَرصَنة، إذا استمرت الأخيرة على نموها الحالي، دون أي محددات، إلا أن هناك في المقابل، دراسات من السنوات الأخيرة، أشارت بأن عمليات المشاهدة المكثفة للأفلام التي وفرتها القَرصَنة، حفزت كثيرين لمشاهدة السينما في مكانها الطبيعي، أي في صالات السينما. ففي بحث أجرته جامعة “بورتسموث” الأمريكية، على ستين ألف شخصاً في فنلندا، من الذين يقومون بالتحميل غير القانوني للأفلام، تبين إن النسبة الأكبر من الذين خضعوا للبحث، يقومون بالذهاب دورياً إلى السينما، وأنه يُمكن أن يتوقفوا عن القَرصَنة إذا شعروا أن تصرفاتهم، ربما تُهدد مستقبل الصناعة السينمائية.