ثورات الأندية.. مقاومة الجماهير المغربية في ميادين كرة القدم

إذا أردت أن تتحدث عن كرة القدم في المغرب، فأول ما يخطر ببالك تلك اللوحات الفائقة الجمال التي ترسمها جماهير الفرق المحلية في مدرجات ملعبها، وتلك الأهازيج المدوّية التي تُخرجك من إطار كرة القدم الضيق، إلى فضاءات الحرية والمقاومة وعشق فلسطين وكل ما هو عربي.

وهذه حكاية أخرى من حكايات كرة القدم، تعرضها لنا قناة الجزيرة الوثائقية، ضمن سلسلة “حكايات عن الكرة والحرية”، وتتحدث عن نشأة كرة القدم في المغرب، وظروف اقترانها بالاحتلال الفرنسي والإسباني، وكيف كانت هذه اللعبة تجمع الجماهير، وتُوجِّه مشاعرهم نحو كُرْهِ المحتلّ ومقاومته.

ميناء طنجة.. عدوى الكرة الإنجليزية تصيب المغاربة

كانت أرض المغرب في النصف الثاني من القرن الـ19 مرتعا لصراعات عددٍ من الدول الأوروبية الاستعمارية، وفي 1912، وبموجب معاهدة الحماية التي وقّعها السلطان المغربي، تقاسمت إسبانيا وفرنسا السيطرة على الأراضي المغربية، لتحظى بلاد المغرب بنوع خاص من السيطرة الاستعمارية يختلف عن الدول العربية الأخرى.

وقد أتاحت هذه الحماية ظهور كرة القدم بشكل مختلف أيضا، فقد كان المغاربة يرون البحارة الإنجليز وهم يمارسون كرة القدم أثناء رسوِّهم في الموانئ المغربية الرئيسية مثل طنجة والدار البيضاء.

بدأت المقاومة العسكرية منذ فرض معاهدة الحماية، وانتفض رجال القبائل المغربية في وجه الاحتلال الفرنسي، خاصة في مدينة فاس، حيث سقط الشهداء بالمئات، قبل أن تسقط المدينة في قبضة المحتلين. وإلى جانب المقاومة العسكرية، كانت هنالك مقاومة سياسية وثقافية واجتماعية، شعارها أن الشعب المغربي محبّ للحياة، ولكن ليس بالطريقة التي يريدها المحتل الأجنبي، فتأسست الأحزاب السياسية والنوادي الرياضية والاجتماعية.

لكن ينبغي التنويه إلى أن الأندية في بداياتها كانت فرنسية بالكامل، من حيث الإدارة واللاعبين والبطولات، ولم ينخرط اللاعبون المغاربة بشكل جادّ في هذه الأندية إلا بعد 1920.

معاهدة الحماية.. جور يخنق جماهير الأندية المغربية المقاومة

في 1932 تأسست جمعية الاتحاد الرباطي السلوي، وهي أول نادٍ وطني لكرة القدم يتبع للسلطة الفرنسية، لكن هذا النادي لم يعمّر طويلا، فقد فَرضت عليه معاهدة الحماية الجائرة أن يضمّ بعض الفرنسيين لصفوفه، فرفض المغاربة، وكانت النتيجة حلّ النادي. ولكن بقي هاجس تشكيل أندية مغربية قائما، في مواجهة أندية المحتل التي تنتشر في عموم البلاد.

كان الدافع الأساسي لتجمع المغاربة في نوادٍ وفرق رياضية هو إثبات الذات، وأنهم ندّ قوي للمحتل سواء في الرياضة أو السياسة أو الوجود من حيث المبدأ.

جمعية الاتحاد الرباطي السلوي، أول نادٍ وطني لكرة القدم يتبع للسلطة الفرنسية

كان المحتل الفرنسي يشترط لإقامة الأندية أن تحوي لاعبين فرنسيين، وأن لا تكون أسماؤها ذات بُعد نضالي أو ديني أو قومي، وأن تكون إداراتها فرنسية بالكامل، هذه الشروط حفزت الفرق المغربية على أن تكون مبارياتها ضد الفرنسيين نضالا موازيا للنضال السياسي أو العسكري.

عودة الملك إلى العرش.. أمنية المتوج بالكأس الفرنسي

تأسست في الثلاثينيات والأربعينيات أندية مثل المغربي الفاسي والفتح الرباطي والوداد البيضاوي، وكانت الجماهير تعتبر أن الأهداف التي تسجلها هذه الأندية ضد الفرق الفرنسية بمثابة رصاصات في صدر المحتل. وكانت هتافات الجماهير تستدعي دبابات المحتل لتكون رابضة عند بوابات الملاعب، لأن ختام أي مباراة كان يشكل بداية مظاهرة ضد القوات المحتلة.

اللاعب عبد السلام لاعب نادي “بوردو” الفرنسي وبعده فوزه بالكأس يطلب عودة الملك محمد الخامس

 

بل إن اللاعبين المغاربة الذين كانوا يلعبون لأندية فرنسية كان يسيطر عليهم الهاجس الوطني، وكانوا يترجمون أي إنجاز رياضي لهم ليكون إنجازا للوطن، لدرجة أن اللاعب عبد السلام الذي كان يلعب لنادي “بوردو” الفرنسي، وبعدما توّج بكأس فرنسا، سأله الفرنسيون أن يتمنى أمنية ليحققوها له، فطلب أن يعود الملك المنفي محمد الخامس إلى العرش.

“نادي الأمة”.. جماهيرية فاقت التوقع وأزعجت المحتل

اشتعلت أزمة سياسية بين فرنسا والمغرب إثر نفي الملك محمد الخامس إلى مدغشقر، كان ذلك متزامنا مع إنشاء نادي الوداد على يد محمد بن جلون، وقد تربع على عرش قلوب المغاربة، وصار اسمه مرادفا للهوية الوطنية المغربية، بل إنه كان يدعى “نادي الأمة”، وكانت مبارياته مع الأندية التي فيها تمثيل فرنسي بمثابة مواجهة عسكرية مع السلطات المحتلة.

نادي الوداد الذي أنشئ على يد محمد بن جلون يعد أول ناد مغربي وطني أكثر لاعبيه من المغاربة

كان لنادي الوداد زخم جماهيري عظيم، وكان يتفوق في جماهيريته على عدد من الأندية التي نشأت قبله، مثل الاتحاد والفوسفات والأولمبي، لأن أغلب عناصره كانوا مغاربة، وكانت مبارياته ذات طابع جماهيري خاص، وكانت قوات المحتل الفرنسي تحشد دباباتها ورجالها على بوابات ملاعبه.

وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية تأسس شكل من المنافسة الجديدة، فالمحتل الفرنسي حريص على استمرار المنافسات الرياضية التي من شأنها إطفاء جذوة الثورة عليه، وفي نفس الوقت يريد توفير الوقود والمال لصالح المجهود الحربي ضد النازيين الذين دخلوا باريس، فأسّس كأس “الحرب”، وصار يجمع الأندية بشكل جهوي مناطقي، كل جهة تمثل فريقا، وذلك لتوفير نفقات التنقل.

كأس الحرب.. سهام المحتل الخادعة ترتد إلى نحره

كان مسمى كأس الحرب رسالة تهديد فرنسية إلى الجماهير المغاربية، ففهمت الفِرق المغربية الرسالة، وانضمت أندية مغربية أخرى إلى الوداد في تأجيج الروح الوطنية لدى الجماهير المغربية، وبهذا ارتدت سهام المحتل الفرنسي إلى نحره.

الوداد المغربي يقابل برشلونة الإسباني في لقاء ظاهره الكرة وباطنه الحرية وبُغض المستعمر الأوروبي

وبعد الحرب سارت عدة مدن مغربية على خطى الدار البيضاء، وأنشأت فرقا يغلب عليها العنصر المغربي، وذلك بعد أن نجح الوداد البيضاوي في تقليص عدد اللاعبين الأجانب في صفوف فريقه إلى الحد الأدنى، وكان ذلك بالتوازي مع انتعاش الحركة الوطنية، وتقديم الأحزاب السياسية والهيئات المغربية وثيقة الاستقلال.

وفي 1955 بدأت مفاوضات “إكس ليبان” من أجل استقلال المغرب، ورافقتها مظاهرات جماهيرية وطنية تدعم الفريق المفاوض، وتحركات عسكرية مغربية لرفع سقف المكاسب السياسية، وتضامنت النوادي الرياضية مع الحركة الوطنية فقامت بتأجيل بطولة كرة القدم في ذلك العام، لتوحيد المطالب الوطنية باتجاه استقلال البلاد.

دعم المقاومة المسلحة.. معارك التنكيل بالأندية الرياضية

كانت الأندية الرياضية المغربية بعمومها وجها وطنيا مشرفا للمطالبة بالاستقلال، بما أتيح لها من وسائل محدودة، وكانت تجمع لاعبيها وجماهيرها على شيء واحد، وهو مقاومة المحتل ورفع قفاز التحدي في وجهه، وبرز من هذه الأندية نادي الفتح الرباطي والمغرب التطواني والمغرب الفاسي والرجاء البيضاوي والكوكب المراكشي والجمعية السلوية وغيرها.

جنود ودبابات المستعمر تحرس الملاعب خوفا من اندلاع ثورات بعد كل مباراة

أخذت الأنشطة الرياضية للأندية المغربية أشكالا أخرى من المقاومة خلال تلك الفترة العامرة بالمشاعر الوطنية الساعية إلى التحرر والاستقلال، تلك الأشكال التي تنحو نحو الكفاح المسلح في مواجهة الاحتلال الغاشم، مثلا كان فريق الاتحاد الرباطي السلوي الذي تاسس 1932، في مشادات دائمة مع الفرنسيين، ولم ينضبط كثيرا مع القوانين الفرنسية لتأسيس الجمعيات والنوادي.

أُوقف نادي الاتحاد الرباطي السلوي في 1944 حين أنه اتضح أنه كان يخزن أسلحة، ولديه مناضلون يشاركون في العمليات الفدائية، وأُوقف أيضا نادي نجاح فاس لارتباطه بالمقاومة المسلحة المغربية، بينما جُمدت نشاطات الوداد البيضاوي للاشتباه بتورطه بعمليات نضالية ضد المحتل الفرنسي، إضافة إلى اعتقال وتعذيب عدد من اللاعبين والرياضيين المغاربة، بشُبهة دعمهم للفعاليات النضالية.

كأس العرش.. تحدي العصبة الحرة لقوانين الوصاية

كانت المنافسات والبطولات تقام تحت وصاية وإشراف الجامعة الفرنسية لكرة القدم، التي اعتبرت نفسها وصية على القطاع الرياضي في المغرب منذ 1916، وتتخذ اسم عصبة المغرب لكرة القدم، واستمرت كذلك حتى 1946، عندما أنشأ الوطنيون المغاربة كيانا جديدا يخضع للقوانين المغربية دون الوصاية الفرنسية.

جاءت العصبة الحرة لكرة القدم لتكون ندا للعصبة المغربية التي أسستها فرنسا، ودشنت كأس العرش عام 1946، مما سبّب إزعاجا للمحتل الفرنسي، خصوصا أنها حظيت باهتمام ومتابعة جماهيرية لافتة.

العصبة الحرة لكرة القدم تدشن كأس العرش عام 1946

مع مرور الوقت، ظلت كرة القدم المغربية وسيلة لإثبات عدة أشياء، فهي لم تكن ترفيهية فحسب، بل إنها أرسلت رسائل عدة من التحدي والمقاومة للمحتل الفرنسي، وما تزال الجماهير المغربية وفيّة للحرية التي دفعت من أجلها الأشلاء والدماء، بل وتطالب بها لكل الشعوب المقهورة التي ترزح تحت ظلم الاحتلال حتى يومنا هذا، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني.

لم تكن كرة القدم مجرد لعبة فقط، ربما أراد مخترعوها ذلك، لكن الشعوب التي اعتنقتها على امتداد الكوكب، وجدت فيها أداة للتعبير عن الذات، وفرض الإرادة الوطنية، بل ونيل الاستقلال ضد تبعية قوى البغي والعدوان.