كرة القدم التونسية.. ميدان رياضي لمقارعة الاحتلال وحماية الهوية

تونس الخضراء، مثلها مثل باقي دول حوض البحر الأبيض المتوسط، تعاقبت عليها الدول والممالك، وكانت مهدا لأقدم الحضارات البشرية على هذه الأرض، تشهد لها آثار قرطاج ورباط سوسة وجامع الزيتونة والقيروان.

وقد عرف أهلها كرة القدم أثناء وقوعها تحت الاحتلال الفرنسي، ومثل باقي شقيقاتها العربية والأفريقية، كانت الرياضاتُ في تونس -وعلى رأسها كرة القدم- غطاءً لنشاطات وطنية وتحررية، وقد فتحت الجزيرة الوثائقية ملفاتها، من خلال سلستها عن الكُرة والحرية، في حلقة خاصة بعنوان “حكايات الكرة والحرية.. تونس”.

دخول الاحتلال.. نار الثورة والتحرر تحت رماد كرة القدم

بعد انحسار الدولة العثمانية عن الشمال الأفريقي، وقعت تونس تحت ما يسمى “الحماية الفرنسية” في 1881، إذ قامت فرنسا بغزو تونس بحجة حماية مستعمراتها في الجزائر، وقد وافقت بريطانيا وألمانيا على الغزو فورا، بينما عارضته إيطاليا دون جدوى، لتوضع تونس قسرا منذ ذلك التاريخ تحت الاحتلال الفرنسي.

هنالك بدأت الدول الأوروبية بالتنازل عن امتيازاتها في تونس لصالح فرنسا، فوضعت أطرا جديدة للحياة السياسية والاجتماعية التونسية، فكان طبيعيا ظهور رد فعل مقاوِم من قبل التونسيين حيال ذلك.

عاشت تونس حقبة طويلة من الاستعمار الفرنسي وضعت فيها فرنسا أطرا جديدة للحياة السياسية والاجتماعية

يمكن القول إن أواخر القرن الـ19 مثّلت بدايات تكوّن المجتمع المدني في تونس، تزامنا مع الاحتلال الفرنسي للبلاد ووجود الجاليات الأجنبية واليهودية التي كانت ترفض الاحتكاك بالشباب التونسي، بينما كانت سلطات الاحتلال تتجرأ على التونسيين، وتنتقص حقوقهم، وتستهين بهم، وتمنعهم من التعليم وممارسة الرياضة.

بدأ النشاط الرياضي في تونس يتنامى بعد الاحتلال الفرنسي من خلال إنشاء المنظمات الشبابية والكشفية، وعبر تأسيس الجمعيات الرياضية، حتى جاء 1906 ليعلن عن أول جمعية رياضية هي نادي كرة القدم بتونس، وقد تغير اسمه إلى “راسينغ” التونسي، وكان يسيطر عليه الفرنسيون بالكامل، مع وجود القليل من الشباب التونسي.

أندية المقاومة.. كسر الاحتكار الأجنبي للرياضة

كان التونسيون يمارسون كرة القدم بشكل عفوي في الشوارع وساحات الأحياء، وقد أقيمت أول مباراة في هذا الإطار بين المعهد العلوي ومعهد كارنو في يوليو/تموز1907.

بعدها نظمت جريدة “الحياة الرياضية” دورة في كرة القدم، وشاركت فيها فرق “راسينغ” و”سبورتينغ” و”نادي كرة القدم” بتونس، وأغلبيته من اليهود، والمعهد العلوي ومعهد كارنو، وفاز في هذه الدورة فريق “راسينغ”.

منافسات كروية بين الأندية الفرنسية والمختلطة في تونس قبيل ظهور الأندية التونسية المسلمة

في نهايات العشرينيات من القرن الماضي بدأت فرق تونسية خالصة بالتشكل، وكانت النية الرئيسية لظهور هذه الفرق مقاومة الاحتلال الفرنسي، رغم أن تشكيل النوادي كان محفوفا بالصعوبات والمعوقات، من المؤسسين إلى التمويل، إلى تأمين الملعب والأعضاء، وأخيرا موافقة السلطات المحتلة على إعطاء التراخيص اللازمة.

لكن الشاب محمد الزواوي تجاوز كل هذه المعوقات، من أجل تأسيس نادٍ للشباب المسلمين دون غيرهم، في مواجهة الأندية الاستعمارية التي امتلأت بها العاصمة التونسية.

“نادي الترجّي”.. شيخ الأندية التونسية ينقلب على الاحتلال

في 1918 قرر الشاب محمد الزواوي والهادي قلّال تأسيس نادٍ في حي باب السويقة الشعبي، وبالفعل وافقت سلطات الاحتلال على تأسيس النادي، ولكن بعد أسبوعين أصدرت السلطات نفسها قرارا يشترط تسمية رئيس فرنسي لذلك النادي، وسيعرف فيما بعد باسم “نادي الترجّي التونسي”، نسبة إلى المقهى الذي كان يلتقي فيه مؤسسو النادي.

انبثق الفريق من حي شعبي تربى فيه كثير من المناضلين التونسيين، ذلك الحي الذي كان فيه مكتب المحامي الحبيب بورقيبة، وهو الذي سيكون أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال، إضافة إلى ثلة من الرجال الوطنيين الذين نالت تونس على أيديهم الاستقلال.

“الترجي التونسي” أول أندية كرة القدم التونسية ظهورا سنة 1918

وافق المؤسسون على الشرط الفرنسي، وتأسس النادي في أوائل 1918، وما هي إلا ثمانية شهور حتى استطاعوا التخلص من الرئيس الفرنسي للنادي، وحل مكانه محمد المالكي، وهو أول رئيس فعلي لنادي الترجي التونسي. ولعب النادي بالملابس البيضاء لمدة عام، ثم تغيرت إلى الأصفر والأحمر في عهد الرئيس الجديد الدكتور الشاذلي زويتن عام 1920.

“النادي الأفريقي”.. رئاسة محلية لنادٍ يحمل ألوان العلم التونسي

في حي باب الجديد بدأت محاولات لتأسيس نادٍ تونسي آخر، لكن سلطات الاحتلال وأدت الفكرة في مهدها بسبب التسمية التي اختارها المؤسسون “النادي الإسلامي الأفريقي”، لكنهم لم ييأسوا، ورغم ضغوط الاحتلال، فقد حصلوا على ترخيص “النادي الأفريقي” في أكتوبر/تشرين أول 1920 برئيس تونسي، وبألوان العلم التونسي الأحمر والأبيض.

كانت فكرة النادي الأفريقي من أوائل محاولات تصدي النخب التونسية للاحتلال الفرنسي، ومحاولاته المستمرة لمحو الهوية التونسية من خلال إقناع التونسيين أنهم لن يستطيعوا إدارة شؤونهم بأنفسهم، لكن استمرار النادي الأفريقي ونجاحاته المتتالية دحضت كل مزاعم الاحتلال. وقد حرص مجلس مؤسسي النادي الأفريقي على موضوع الهوية التونسية بشدة.

“الترجي” و”الأفريقي”.. فرسا الرهان يناطحان أندية المحتل

أصبح الناديان -الترجي والأفريقي- فرسَي الرهان اللذين يعول عليهما أبناء الشعب التونسي جميعا في النضال في الجانب الرياضي، ضد الفرق الفرنسية التي تنشط في المدن التونسية، وحظي الناديان بشعبية كبيرة في جميع أنحاء تونس، وكانا دوما أمل التوانسة في مناطحة المحتلين.

تحت مسمى “الترجي الرياضي التونسي” يتنافس فريقا الترجي والأفريقي مع الأندية الفرنسية على البطولة

صار التوانسة بجميع أطيافهم يلتفون حول الناديين، يحدوهم الأمل بالانتصار، الأمر الذي عزز من شعبية كرة القدم في تونس، بعد أن وجد أهل البلاد الأصليين مجالا يمكنهم فيه الانتصار على المحتلين.

ولم تكن الرياضة بحد ذاتها هي الداعية لإنشاء الأندية، وإنما كان الهدف تأسيس أكبر عدد من الجمعيات التي تقوم بدورها في النضال ضد المحتل، مبنية على نزعة وطنية تحررية أكثر من كونها تنافسا كرويا، وذات بُعد ثقافي واجتماعي وتربوي.

تشجيع الأندية الوطنية.. وحدة الجماهير المحلية تنتزع الألقاب

بعد ذلك تأسست جمعيات أخرى في العاصمة تونس، وفي باقي المدن التونسية، بحيث كان في كل مدينة تقريبا نوادٍ للتوانسة وأخرى للمحتلين الفرنسيين والجاليات الأجنبية وغير المسلمة، فنشأ “النجم الساحلي” في سوسة عام 1925، و”الرياضي البنزرتي” في بنزرت عام 1928، و”الرياضي الصفاقسي” في صفاقس عام 1928.

في البداية كانت المباريات فيما بينها ودية وغير منتظمة، إلى أن جاءت تلك الهيئة التي أشرفت على إقامة المنافسات الرياضية في طول البلاد وعرضها، وكانت هيئة فرنسية يديرها مسؤولون فرنسيون تابعون لسلطات الاحتلال، ثم انخرطت عام 1921 في الجامعة الفرنسية لكرة القدم.

التفاف جماهير واسع حول الأندية الكروية التونسية في مواجهة أندية المستعمر الفرنسي

انضم 43 فريقا لهذه الرابطة، وقُسمت إلى مستويات، وانطلقت مسابقات الدوري والكأس منذ ذلك التاريخ، وكانت جماهير تونس تشجع أي فريق تونسي يلعب ضد الفرق الأجنبية، فلم يكن يوجد آنذاك مشجعون لكل فريق على حدة، بل كانت الجماهير ترى أن كل فريق تونسي يمثل الفريق الوطني.

ولم تكن مشاركة الفرق التونسية من أجل المشاركة فقط، بل اجتهدت هذه الفرق حتى صارت تنافس الفرنسيين على الكؤوس، وهذا ما حصل مع “الترجي” عندما فاز بكأس تونس في 1939، ثم توالى بعد ذلك فوز الفرق التونسية بالكؤوس والبطولات التي نظمتها الرابطة التونسية، مثل “النادي الأفريقي” و”النجم الساحلي” و”البنزرتي” و”حمام الأنف”.

الجامعة التونسية لكرة القدم.. نهاية عصر الأندية الأجنبية

لم يقتصر نضال هذه الأندية التونسية على المستطيل الأخضر مع الفرق الفرنسية فحسب، بل تواصل السعي نحو حلم توْنسة إدارة المنافسات، وهو ما نجح فيه التوانسة نسبيا.

ففي 1948 أُقر مبدأ التناصف، بحيث يكون نصف أعضاء الرابطة من التوانسة والنصف الآخر من الفرنسيين، وكذلك التناصف على الرئاسة بحيث يتناوب رئيسان، تونسي وفرنسي على المنصب، وكان الشاذلي زويتن أول من استفاد من هذا القرار في رئاسة الرابطة.

في عام 1957 وبعد بعد أقل من سنة على استقلال تونس، تأسست الجامعة التونسية لكرة القدم

في 1956 وُقّع استقلال تونس عن فرنسا، بعد نضال طويل في كافة المجالات المتاحة، ولم يمرّ وقت طويل على الاستقلال حتى حُلت أندية فرنسية عدة مثل “راسينغ” و”الملعب الغولي” و”الطبيعة” وغيرها.

وعلى الفور تأسست الجامعة التونسية لكرة القدم عام 1957، لتنضوي تحت لوائها الأندية التونسية فقط، يتبادلون فيما بينهم تحقيق البطولات التي تنظمها الجامعة منذ ذلك التاريخ، ويشكلون فيما بينهم المنتخب التونسي الذي يمثل البلاد في شتى المحافل الدولية.