“كرة عائلية”.. قرية فلسطينية منسية تصنع المجد في الدوري المحلي وكأس أمم آسيا

هل خطرت لك من قبل فكرة اللعب في نادٍ كل أعضائه من عائلتك؟

في قرية منسية من قرى بيت لحم الفلسطينية، دفع عشقُ الساحرة المستديرة عائلةً فلسطينية إلى إنشاء فريق رياضي محلي لكرة القدم يحمل اسم القرية، وكل أعضائه من نفس العائلة.

يقدم فيلم “كرة عائلية” -الذي بثته “الجزيرة الوثائقية”- عرضا لطموحات الأبناء ودعوات الأمهات، وحب كرة القدم التي قادت إنشاء ناد عائلي في قرية وادي النيص.

“كرة القدم هي أكثر ما يجمع أهل القرية”

شارك توفيق أبو حماد مع منتخب فلسطين في كأس أمم آسيا مرتين، إحداهما في أستراليا عام 2015، والأخرى في الإمارات عام 2019، ويروي أن والده عرض عليه عندما أنهى الثانوية العامة إرساله إلى مصر ليدرس الطب، لكنه رفض مفضلا الاستمرار في ممارسة كرة القدم، فهي عشقه المتواصل منذ صغره. يقول أبو حماد حارس منتخب فلسطين وفريق “ترجي وادي النيص”: كرة القدم هي أكثر ما يجمع أهل القرية.

ورغم أن القرية لا تضم ملعبا كبيرا يسمح لشبابها بممارسة هوايتهم، ولديها كثير من المعوقات التي يضعها الاحتلال غالبا في طريقهم، فإن ذلك لا يمنع الحارس توفيق أبو حماد من التدرب ولو وحيدا.

أما حازم عبد الله أبو حماد فقد نشأ ضمن عائلة كروية، فستة من أعمامه كانوا يلعبون الكرة، وعندما بلغ 15 عاما انضم إلى فريق “ترجي وادي النيص”، ولم يمنعه عدم وجود ملعب في القرية من ممارسة الكرة ولو في الساحات والشوارع والجبال. وهو يقول: نحن عائلة واحدة نلعب جميعا من أجل القرية وأهلها، ولا يوجد بيت إلا وبه لاعب كرة قدم.

بنات القرية يتابعن المباراة عبر الموبايل لعدم توفر البث التلفزيوني

ويروي أشرف نعمان قائد فريق “ترجي وادي النيص” أن كرة القدم هي الشاغل الوحيد لأهالي قريته، فلا أحد يتكلم في السياسة أو غيرها، وهم يعتمدون على أنفسهم، إضافة إلى الروح التي ورثوها أبا عن جد في ظل عدم توفر أي إمكانات للقرية، ويؤكد أن فريقهم هو الوحيد حول العالم الذي يضم 7 أشقاء في تشكيلته الأساسية، إضافة إلى أن حارس الفريق هو ابن أخيهم.

ويُشير القائد نعمان بفخر إلى أن فريق “ترجي وادي النيص” هو الفريق الفلسطيني الوحيد الذي وصل إلى دور الثمانية في بطولة أبطال آسيا.

فرح العائلة.. محفز الفوز ووقود الشغف الرياضي

بينما ينطلق أعضاء الفريق في طريقهم لأداء إحدى المباريات مرددين دعاء السفر، يجمع مسجد القرية عددا من أبنائها كبارا وصغارا، داعين الله أن ينصر فريقهم، وهو ما تفعله الأمهات في بيوتهن واجتماعاتهن أيضا. ويؤكد قائد الفريق أشرف نعمان أن فريقه يحرص دائما على قراءة الفاتحة قبل بدء أي مباراة يخوضها.

يشرح المدرب خطته ومهام كل لاعب في فريقه استعدادا للمباراة، وبينما يذهب شباب القرية وراء فريقهم لتشجيعه في الملعب، يتجمع الأهالي كبارا وصغارا أمام الشاشات لمتابعة المباراة، ومع كل انتصار للفريق، تتحول شوارع وبيوت القرية إلى أفراح.

أبناء القرية شابا وشيبا يحتفلون بفوز فريق قريتهم بعد كل مباراة

فرحة لا تستثني أحدا؛ كما يقول قائد الفريق أشرف نعمان، فرغم أن المعلومات الكروية تكاد تغيب تماما عن بعض ربات البيوت، فإن ذلك لا يحول دون مشاركتهن بفرحة غامرة في الاحتفالات.

ويصف لاعب فريق “ترجي وادي النيص” حازم عبد الله أبو حماد شعوره عند عودته للمنزل بعد انتصار فريقه قائلا: أشعر أنني في عالم آخر عندما أرى الفرحة في أعين أمي وزوجتي وأخي وابني، وهو ما يعطينا دافعا قويا في كل مباراة نخوضها. عندما نعود للمنزل بعد الفوز نجد المنسف في انتظارنا، أما في حالة الهزيمة فلا شيء، فعليك أن تدبر حالك ولو ببيضتين.

وادي النيص.. قرية تتوارث حب الكرة كابرا عن كابر

يقول أبو حماد إن عدد سكان قرية “وادي النيص” يبلغ نحو 1800 نسمة، بينهم نحو 400 طفل، وهم يلعبون جميعا كرة القدم.

تتحدث والدة أبو حماد بفخر عن قصة أسرتها مع كرة القدم التي يلعبها أبناؤها الستة، قبل أن تنتقل المهمة إلى أبناء أبنائها. يقول الابن سميح أبو حماد اللاعب السابق بفريق “ترجي وادي النيص”، إن والديه ربياه على أهمية الأخلاق في الملعب، سواء عند الفوز أو الهزيمة، ويستذكر أن الفريق كان يجمعه بأشقائه الخمسة، واثنين من أبناء خاله، واثنين آخرين من أبناء عمه، فضلا عن ابن أخيه الذي كان يحرس المرمى، ليشكلوا جميعا فريقا عائليا متكاملا.

لاعبو فريق “ترجي وادي النيص” هم أفراد عائلة فلسطينية واحدة فقط

ويروي أن والده هو من أسس نادي “ترجي وادي النيص” عام 1984، وقد بذل جهدا كبيرا لتسجيل الفريق في رابطة الأندية الفلسطينية. وهنا يقول قائد الفريق أشرف نعمان إن للحاج أبو حماد 12 ابنا بمثابة 12 لاعبا، والآن يلعب أبناؤهم في فريق القرية.

سحر العائلة.. سر يصنع الانتصارات في الملاعب

يقول توفيق أبو حماد حارس مرمى فريق “ترجي وادي النيص”، إنه خاض مباريات في عام 2015 وأمامه ستة من أعمامه، إضافة إلى ثلاثة من أبناء عمومته، وهو أمر لم يحدث من قبل أبدا في أي مكان بالعالم.

ورغم انتقاله للعب بدوري المحترفين، فإن الحارس حازم أبو حماد لا يخفي افتقاده للروح التي كان يجدها عند اللعب بجانب أفراد عائلته. وفي إحدى المباريات كان الخضِر -وهو أحد الأشقاء الستة- غائبا بداعي الإصابة، ومع تأخرهم في النتيجة اضطر للمشاركة، فقد كان الجميع يفتقد وجوده في الملعب، وقد تمكن بعد مشاركته من قلب النتيجة لصالح الفريق.

تلاوة الفاتحة تقليد إلزامي لأفراد فريق وادي النيص في مستهل كل مباراة

ولم يحل غياب البث التلفزيوني دون متابعة مباريات فريق “ترجي وادي النيص” من قِبل جميع أفراد القرية، فيكفي أن يبثها أحدهم من هاتفه مباشرة ليتابعها الجميع، ويكفي أن يُحرز الفريق هدفا لتنطلق صيحات الفرح في جميع أرجاء القرية في فرحة لا تغيب عنها بنات القرية حتى وإن كن لا يلعبن الكرة، فيكفيهن أن الفريق يتكون من أشقائهن وأعمامهن.

فاز الفريق في المباراة بثلاثة أهداف دون رد، فاستُقبل استقبال الفاتحين عند عودته للقرية.

أجور النادي.. إمكانيات ضعيفة تضارع الأندية الكبرى

يتحدث أشرف نعمان قائد فريق “ترجي وادي النيص” عن ما يعتبره إنجازا، وهو أن تُخرّج قريته الصغيرة -دون دعم خارجي- فريقا يضارع فرق فلسطين الأخرى التي انبثقت عن مدن كبرى، ولا يغيب عنها الدعم من جهات عدة.

ولأن قرية “وادي النيص” تقبع -ككل فلسطين- تحت الاحتلال، فإن أعضاء فريق القرية يعانون كما يعاني شباب فلسطين، ومن ذلك معاناتهم عند معابر الاحتلال يوميا عند ذهابهم وعودتهم من أعمالهم، فما يتقاضونه من ناديهم لا يسد بطبيعة الحال مستلزمات الحياة، ولذلك فجميعهم يعمل، وهو وضع يكاد لا يواجهه لاعبو أي فريق آخر حول العالم، كما يقول اللاعب السابق بالفريق سميح أبو حماد.

النساء في بيوت القرية يحتفلن بفوز فريق قريتهم

ويوافقه على ذلك زملاؤه بالفريق، مؤكدين أنهم يلعبون من أجل شعار القرية، فحتى إن غاب أي مقابل مادي، فإنهم على استعداد لتحمل تكلفة التنقل من أجل التدريب أو خوض المباريات.

ويقول حارس مرمى الفريق توفيق أبو حماد إن هناك لاعبين قد يضطرون للتأخر أو الغياب عن الفريق بسبب انشغالهم في أعمالهم في ظل قسوة الحياة تحت الاحتلال، لكن طموحهم وإصرارهم يقف سدا منيعا أمام الاستسلام لهذا الواقع الصعب، بل إنهم على العكس من ذلك نجحوا في الوصول إلى الدوري الفلسطيني للمحترفين، ليس ذلك فحسب بل استطاعوا تمثيل فلسطين في كأس الاتحاد الآسيوي.

جدار الفصل العنصري.. كفاح يكسر عقبات الاحتلال

من أبرز المعوقات التي تُواجه فريق “ترجي وادي النيص” جدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال، وعن ذلك يقول قائد الفريق أشرف نعمان إن هذا الجدار حال دون أن يجدوا مكانا يمارسون فيه هوايتهم الرياضية، اللهم إلا بمحاذاته. كما يشكل وجود مستوطنة صهيونية بجوار القرية عائقا إضافيا أمام شبابها.

مباراة الدوري النهائية بين فريق “ترجي وادي النيص” وفريق الخليل يفوز فيها وادي النيص ويعود محتفلا إلى قريته

ويعود حارس مرمى الفريق توفيق أبو حماد ليؤكد على أهمية أن يكون اللاعب في كامل تركيزه ولياقته البدنية والذهنية، خصوصا الحارس الذي يتعرض للوم إذا دخل مرماه هدف.

يواجه فريقُ “ترجي وادي النيص” فريقَ “الخليل” لحسم صدارة الدوري، الجميع على أهبة الاستعداد للعودة بنقاط المباراة الثلاث، تعلو هتافات من حضر المباراة من أهل القرية تشجيعا لأبنائها: “الملعب كله أزرق”، بينما يتابعها الآخرون عبر “البث المباشر” دون أن تقل حماستهم عن الحاضرين، إلى أن يعود الأبطال وقد حققوا مرادهم، فتعم الاحتفالات هذه القرية الصغيرة بمساحتها وعدد سكانها، الكبيرة بما قدمته لكرة القدم الفلسطينية.