“ديربي ريو”.. أندية المدينة الأربعة تصنع المتعة والتاريخ والأبطال

في مدينة ريو تنتشر كرة القدم في كل مكان، الرجال والنساء يلعبون، في الأحياء الراقية وفي أحياء فافيلا؛ تلك الأحياء العشوائية الأكثر فقرا، على حد سواء، فقد بددت الكرة غيوم الفوارق الطبقية الشاسعة وباتت رمز الحياة، إنها رياضة جماعية تقع فيها الخلافات والمعارك والانتصارات والهزائم كما في الحياة اليومية.

يستعرض هذا الفيلم -الذي بثته الجزيرة الوثائقية عن مدينة ريو البرازيلية ضمن سلسلة “ديربي الكبار”- التنافسَ المحموم بين فرق المدينة التي لم تكتف بديربي واحد؛ إذ تتشاطر أربعةُ أندية قلوبَ المشجعين والألقاب والأبطال، تلمع أسماؤها في العالم كله، “فلومينينسي” و”فاسكو دا غاما” و”فلامنغو” و”بوتافوغو”، أربعة معالم لعباقرة كرة القدم الذين ربحوا كأس العالم 5 مرات.

أُنشئ أول ناد لكرة القدم في أرقى أحياء ريو في قلب البرجوازية المرفهة، ليكون دليلا على الرقي الاجتماعي في حي لارانجراس، وبين حدائق الأزهار ومباني السفارات والمساكن الراقية، أقام نادي “فلومينينسي” لكرة القدم مقره في بيت أبيض كبير سعيا منه للحفاظ على كل أناقته.

“أوسكار كوكس” مؤسس نادي “فلومينينسي” وُلد لأب إنجليزي، ودرس في سويسرا وفي إنجلترا وعاد منهما بكرة غيّر بها المدينة، وكانت كرة القدم رياضة نخبوية، فاللاعبون يدفعون مقابل الذهاب إلى النادي، وقد شارك البرجوازيون الجدد ورجال الأعمال والملاك الكبار في انتقال السلطة في البرازيل، ثم اتخذت هذه البرجوازية كرة القدم نشاطا رياضيا ترفيهيا واجتماعيا أيضا.

“فلامنغو”.. ميلاد كلاسيكو كرة القدم البرازيلية

في عام 1911 دخل أفضل لاعبي “فلومينينسي” في خلاف مع إدارة النادي، فخطر في بال “ألبرتو بورجيستي” الذي يلعب لدى “فلومينينسي”، ويُجدّف في نادي “فلامنغو” فكرة إنشاء فرع لكرة القدم في نادي “فلامنغو”. وهكذا بدأ تاريخ كرة القدم في النادي الكبير.

أُجريت أول مباراة بين “فلامنغو” و”فلومينينسي” في السابع من يوليو/تموز عام 1912 وفاز “فلومينينسي” بثلاثة أهداف مقابل هدفين أمام جمهور من 800 مشاهد تقريبا. ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه المواجهة “كلاسيكو كرة القدم البرازيلية” الذي يراه جميع البرازيليين حدثا لا يُفوّت، وسُمي لاحقا “الفلا-فلو”.

سمي كلاسيكو “فلا-فلو” بسبب أول مباراة أجريت بين “فلامنغو” و”فلوميننسي” في يوليو/تموز عام 1912

في ريو تنتشر كرة القدم في كل مكان، حيث يلعبها الناس داخل الصالات وعلى الشواطئ. وأما في ليما على طرف كوباكابانا، فتبدأ مباريات كأس الشواطئ في الصباح الباكر، وتنتهي في وقت متأخر من الليل، فكرة القدم في المدينة لا تُؤجل، بل هي ضرورية كالشمس والهواء، وهناك أيضا مباريات “كلاسيكو”، منها مباراة “آرييا” ضد “كولورادو”.

“فاسكو”.. نادٍ يفرض وجود السود في لعبة البيض

بالنسبة لسكان ريو، فإن نادي “فاسكو دا غاما” هو عملاق التلة، وقد أُسس على يد مجتمع المهاجرين البرتغاليين، وسُمي على اسم المستكشف. وفي عام 1924 شيّد مشجعوه نصبا تذكاريا تيمنا به في أعلى حي “سان جان واريو”. وحين هددت الأندية البرجوازية الكبرى باستبعاد نادي “فاسكو” الشعبي لأنه لم يكن يملك أرضه، تضافرت الجهود الجبارة، وجمعت مبالغ كبيرة لتمويل المشروع وتجهيز الملعب الترابي في غضون موسمين فقط، ومنذ ذلك الحين لم تُكسر الروابط التي تجمع نادي الصليب المالطي وأنصاره أبدا.

ويرى البعض أن “فاسكو” هو الأفقر من بين جماهير أندية ريو، وهذا ما يميزه حتى الآن، كما أنه أول ناد كبير في ريو يرأسه شخص أسمر البشرة، بعد أن كان أول من يفتح أبوابه أمام لاعبين ذوي بشرة سمراء، إضافة إلى أنه النادي الأكثر انخراطا في السياسة في البلاد، وفي أول بطولة شارك فيها، تفوق “فاسكو” على الجميع وبدأ بإزعاجهم.

فريق فاسكو.. أول فريق كروي برازيلي ملون يناهض العنصرية

بدا الهجوم المضاد شرسا على فريق “فاسكو” المُلوّن، مما كشف عن العنصرية التي كان يعاني منها المجتمع البرازيلي في ذلك الوقت بعد 30 عاما فقط من إلغاء العبودية، حتى إن “فلامنغو” و”فلومينينسي” وأندية أخرى طلبت من “فاسكو دا غاما” عدم ضم أي لاعبين من السود، فجاء منه رد جعله أسطوريا أكثر فأكثر، إذ أرسل رئيسه “خوسيه أوغوستو باستوس” رسالة تُعرف الآن باسم “الرد التاريخي” استنكر فيها التمييز والابتزاز اللذين بدرا من الأندية الأخرى، وكانت الخطوة الكبرى الأولى في الثورة المختلطة للرياضة البرازيلية.

يؤكد “روبيرتو ديناميتي” اللاعب السابق ورئيس نادي “فاسكو” أن الأمور تطورّت في النادي، وأصبح الجميع من البيض والسود يتمتعون بحقوق واحدة، ولولا ذلك لما أصبح “بيليه” لاعبا. بينما بقيت قضية التمييز العرقي شائكة بالنسبة إلى نادي “فلومينينسي” فترة طويلة، ويبقى نادي “ريو” الراقي هو الأكثر ترددا في التاريخ لضمه لاعبين غير بيض إلى فرقه.

كان هناك لاعب استثنائي ولكنه أسمر، فكان يموه وجهه بمسحوق الأرز لتبييضه، وقد شارك في مباريات متعددة بذلك الشكل، غير أنه وبسبب التعرق سال المسحوق عن وجهه، فراح مشجعو الفريق المنافس يسخرون منه.

والغريب أن “فلومينينسي” قد أدخل مسحوق الأرز كعنصر رئيس في رقصاته، وحين كان اللاعبون يدخلون الملعب كان ذلك جزءا من الاحتفالات، حتى إنه أصبح رمزا للنادي.

كأس العالم في البرازيل.. عنصرية تلاحق الحارس إلى الأبد

في عام 1950، نظمت البرازيل لأول مرة بطولة كأس العالم، وشُيّد ملعب “ماراكانا” في ريو لاستقبال النصر الذي انتظره الشعب بأسره، وفي النهاية وأمام 150 ألف مشجع لعبت الأوروغواي والبرازيل، وفي الدقيقة الـ79 انطلق لاعب الأوروغواي “أليسيدس غيغيا” ومرت كرته المذهلة من تحت “مواسير باربوزا” أول حارس مرمى أسمر ضمن فريق “السيليساو”، فأصيب البلد برمته بصدمة قوية. في ذلك اليوم كان الملك “بيليه” في التاسعة من عمره، وقال إنه يرى أن البرازيل خسرت حربا كانت مكتسبة.

حارس المرمى الأسود “باربوزا” الذي حاربته كل البرازيل بسبب هدف الأوروغواي الذي دخل في مرماه في نهائي مونديال 1950

وانتشرت الفكرة التي تدين الحارس “باربوزا” لأنه أسمر، وهكذا ظهرت العنصرية التي لا يعترف بها البرازيليون باتهام “باربوزا” بكونه المسؤول عن الهزيمة، بسبب لون بشرته السمراء، رغم أنه كان حارسا مذهلا، وبعد ذلك لم يعد هناك حراس مرمى من ذوي البشرة السمراء.

وقد بقي “باربوزا” منبوذا في كرة القدم البرازيلية إلى الأبد. وفي عام 1993 منعته الفيدرالية من التعليق على مباراة وطنية، فكان هذا ظلما آخر في حق الحارس المشؤوم، مما جعله يقول: في البرازيل تبلغ مدة الحكم القصوى 30 عاما، ولكنني أنفذ حكما منذ 43 عاما بسبب جريمة لم أرتكبها.

“بوتافوغو”.. ألوان إيطالية تصبغ نادي الثقافة والخرافة

يتمتع نادي “بوتافوغو” بشخصية فريدة، ويؤمن مشجعو الفريق كثيرا بالخرافات، وثمة حكاية طريفة عن الكلب “بريمة” كلب قائد النادي، فقد تبول في أرضية الملعب في مباراة كان النادي خاسرا فيها، وفجأة إذا به يربح.

“بوتافوغو” هو أيضا نادٍ متعدد الرياضات، ويتخذ ألوانه من إيطاليا، حيث درس أحد مؤسسيه، وارتدى اللونين الأسود والأبيض تكريما لنادي “يوفنتوس”.

يقال إن مشجعي “بوتافوغو” هم الأكثر ثقافة، إذ يوجد من بينهم مشاهير مثل “جواو سالدانا” و”ساندرو موريرا” والمؤلف “فينيسيوس دي مورايس، ومع ذلك يرى البعض أن جمهور النادي هو الأكثر توترا وتشاؤما؛ إذ يظن مشجعو “بوتافوغو” دائما أن لا شيء سينجح، رغم هيمنة “ماني غارينشا” و”ديدي” على كرة القدم في ريو في الستينيات، وكاد يكون بقوة نادي “سانتوس” الذي لعب فيه “بيليه”.

الكلب “بريمة” كلب قائد النادي الذي جلب للنادي الحظ بعد أن تبول في أرضية الملعب في إحدى مباريات نادي “بوتافوغو”

بالنسبة إلى مشجعي “بوتافوغو”، فإن أعظم لاعب في تاريخ البرازيل ليس “بيليه”، بل “ماني غارينشا” الطائر الصغير الذي تمتعت ساقاه -اللتان لواهما شلل الأطفال في صغره- بقدرات لا يمكن أن يستوعبها أي مدافع، ولعبت روحه المتحررة كرة القدم لإسعاد الفقراء، وبالنسبة له، فقد كانت متعة اللعب أهم من النتيجة، وقد كان يجعل مشجعي “بوتافوغو” يضحكون في الملعب ويسخرون من مدافعي الفريق المنافس.

وبينما كان “بيليه” لاعبا هادئا منظما ومهذبا يعرف كيف يطيع الأوامر، فإن “غارينشا” كان طائشا ومتسرعا وتصعب السيطرة عليه لأنه كان يتسلى بلعب كرة القدم.

في عام 1962 كان “غارينشا” اللاعب الأساسي في كأس العالم في تشيلي، فقد أصيب “بيليه” فخلفه “غارينشا” قائدا لهذا الفريق الذي تُوّج بطلا عالميا، وفي عام 1966 لعب “غارينشا” في بطولة كأس العالم مجددا في إنجلترا إلى جانب “بيليه”، ولكنه لم يكن باللياقة نفسها. والغريب أن مسيرته ازدهرت خلال فترة الديمقراطية، بينما تراجعت في زمن الديكتاتورية.

“فريق البرازيل وطن أحذية كرة القدم”.. عصر الاستبداد

يروي السجين السابق “تشيكو آلينكار” أنه خلال دورة كأس العالم عام 1970، كان السجناء السياسيون في ظل الديكتاتورية من داخل زنزاناتهم بعد جلسات التعذيب يستجمعون قواهم ليتمكنوا من الاستماع إلى مباراة كرة القدم عبر راديو صغير، مثلما كان الرئيس الجنرال “إميليو غاراستازو ميديسي” -الذي أمر بتعذيب مناهضيه- يستمع إلى المباراة عبر الراديو، ويعطي رأيه في اختيار اللاعبين.

من عام 1964 وحتى عام 1985 كانت الديكتاتورية البرازيلية الأطول حكما في أمريكا الجنوبية، 21 عاما من القوة العسكرية والقمع الوحشي اللذين لم تفلح انتصارات لاعبي كرة القدم في “السيلساو” في تخفيف حدتهما.

البرازيلي “غارينشا” الذي لعب في بطولة كأس العالم 1966 في إنجلترا إلى جانب “بيليه”

في ذلك الوقت ربط الحكام فكرة الوطن المجيد والقوة والتطور والفخر الوطني بفريق كرة القدم، حتى إنهم استعاروا جملة جميلة من الكاتب “نيلسون رودريغز” تقول “فريق البرازيل وطن أحذية كرة القدم”.

لكن الصحفي “جوكا كفوري” يقول إنه لا ينبغي الاستخفاف بذكاء الشعب والاعتقاد بأنه يمكن أن يخلط بين انتصار رياضي ونظام سياسي، فهذا استغباء للناس، ويذكر تاريخ البرازيل الديكتاتور “ميديسي” بصفته القائد العام للتعذيب، لا بطل العالم، فلطالما كان أبطال العالم هم “غيرسون” و”بيليه” و”جارزينيو”.

“ماراكانا”.. بركان المجد الذي فقد روحه في كأس العالم

لكرة القدم معبد في ريو، وهو أشهر ملعب في العالم، وقد بُني ملعب “ماراكانا” قرب المركز التاريخي ليحتضن بطولة كأس العالم لعام 1950، وشُيّد في عاصمة البرازيل آنذاك في غضون عامين بسواعد أكثر من 1500 عامل، واختار موقعه الصحفي “ماريو فيليو” الذي يحمل الملعب اسمه اليوم، وقد ضم نحو 200 ألف مقعد، واستقبل أجواء لا توصف.

وبمناسبة بطولة كأس العالم لعام 2014 خضع ملعب “ماراكانا” لعملية تجميل جذرية بلغت تكلفتها 350 مليون يورو من الاستثمارات لتحديثه، وخفضت سعته إلى 79 ألف متفرج.

ويرى “سامويل آرواجو” -الذي يعمل دليلا في الملعب- أنه قد يكون من باب الوطنية المبالغ فيها القول إن “ماراكانا” هو قلب عالم كرة القدم، لكنه بلا شك قلب كرة القدم البرازيلية. وقد جعل المشجعون هذا الملعب مكانا بالغ الأهمية، فهو واحد من أكثر الأماكن شعبية تماما كالشواطئ.

“ماركانا” ملعب كلاسيكو “الفلا-فلو” قبل وبعد التحديث

لكن آخرين يرون أنه بعد إزالة المقاعد في المدرجات السفلية -وقد كانت الأقل تكلفة- لم يعد بإمكان الفقراء أن يأتوا إلى الملعب، فقد أصبح “ماراكانا” مكانا نخبويا يستبعد منه الفقراء، وقد بلغ سعر أرخص التذاكر في نهائيات كأس العالم 2014 نحو 2500 ريال برازيلي (750 يورو). ويشدد هؤلاء على ضرورة أن تخصص 25% من المقاعد للشعبويين والفقراء الذين يصنعون لاعبي المستقبل.

وبينما يتحدث مسؤولون عن إعادة تصميم “ماراكانا” لتوفير مزيد من الراحة للمشجعين، وتحديثه مع الحفاظ على روح الملعب القديم، يرى البعض أنه لم تعد له علاقة بذلك الملعب الذي جعل البرازيليون يحلمون في الماضي، فقد نُسخ وفقا للمعايير الأوروبية، فأصبح مجرد شبح للبركان الذي كان عليه، لقد فقد روحه، أمر يصفونه بـ”الخيانة العظمى في تاريخ كرة القدم البرازيلية”.

شغف الحفاة والصيادين والمحترفين.. لعبة توحد الشعب

أعظم مهاجم في تاريخ “فاسكو دا غاما” كان “روبيرتو ديناميت” وسيبقى إلى الأبد أحد أبطال “ماراكانا”؛ ففي نهائي بطولة ريو عام 1976 تغلب في الدقيقة الأخيرة على “بوتافوغو” بهدف لا يُنسى. ويقول عن هذا الهدف: إن السحر الحقيقي لكرة القدم هو الارتجال، ولو إن طُلب مني تسجيل الهدف نفسه فلن أستطيع فعل ذلك بنفس الدقة.

يقول المصور “كايو فيليا” إن كرة القدم الحقيقية هي حين ترى الصبيان يلعبون في الشوارع وعلى الشواطئ أو في الملاعب، بعضهم حفاة، يحددون المرمى بحبتين من جوز الهند أو حذائين، بالنسبة إلي هذا هو الفن في أصفى أشكاله، لقد التقطت صورا للبرازيليين من مختلف شرائح المجتمع وهم يلعبون كرة القدم، البرازيليون الهنود والأفارقة وصيادو السمك، هؤلاء اللاعبون يشكلون جميعا صورة البرازيل.

كرة القدم في البرازيل عشق يمارسه الأولاد والبنات في الأحياء والحارات وعلى الشطآن وفي كل مكان

من يناير وحتى أبريل (كانون الثاني-نيسان) تعيش ريو على إيقاع بطولة “كاريوكا” الإقليمية، وبالنسبة إلى عشاق “بوتافوغو” فهذه هي ذروة السباق ضد منافسيه “فاسكو” و”فلامنغو” و”فلومينينسي”، وفي كل مباراة يقام مهرجان حقيقي داخل الملعب تضفي عليه طبول السامبا سحرها الخاص.

ومنذ إعادة تصميم الملاعب لبطولة كأس العالم ارتفعت أسعار التذاكر، فلم يعد يسافر المشجعون إلا لحضور المباريات الحاسمة، ولم يعد لمباراة “بوتافوغو” ضد “فاسكو” الطعم نفسه الذي تمتعت به في العقود السابقة.

واليوم يغادر نجوم كرة القدم البرازيلية الشباب إلى أوروبا ويعودون في سن متأخرة إلى أكبر الأندية في البلاد، مثل “رونالدو” و”أدريانو” و”رونالدينيو”. وفي “فاسكو” كان “جونينيو” هو من أنهى مسيرته هنا. أما “فريد” لاعب نادي “ليون” ولاعب وسط ميدان المنتخب فهو من صنع لنادي “فلومينينسي” أفضل أيامه.

كرة القدم في ريو هي أيضا وقبل كل شيء اللعبة الشعبية التي يلعبها الناس في الأحياء بشغف عارم، إنها كأس أحياء الفافيلا الفقيرة، وهي أحياء ليس كل من يعيش فيها خارجا على القانون، بل هي عماد أندية كبيرة. الشغف باللعبة أكبر دافع في بطولة الأحياء الفقيرة هذه، وغالبا ما تكون أكثر صرامة وأكثر جنونا وأكثر جدية من مباريات المشاهير.

“فلامنغو”.. نادي النسور والألقاب والجماهير العريضة

“فلامنغو” هو أكثر الأندية شعبية في البرازيل على الإطلاق، فعلى الرغم من أصوله البرجوازية، فقد أصبح رمزا تعتد به جميع الطبقات الاجتماعية، وهو النادي الأعز ومحبوب الجماهير، إنه ديانة قوية لها أتباع في جميع أنحاء العالم.

وهو أيضا عملاق في رياضات متعددة، ويعد أحد أكثر الأندية تمثيلا في العالم في كل دورة ألعاب أولمبية، وفيه يجري إعداد الرياضيين الذين سيفوزون بالميداليات الذهبية، ومن حيث الألقاب ما من منافس لـ”فلامينغو” أبدا؛ إنه بطل ولاية ريو 32 مرة، وبطل البرازيل 6 مرات، ويظل النادي البرازيلي الوحيد الذي فاز بكأس “الإنتركونتيننتال”، وكان عام 1981 عاما سحريا فاز فيه “فلامنغو” مع نجمه “زيكو” بجميع المنافسات، ويحظى النادي بـ40 مليون مشجع، أي أكثر من عدد سكان الأرجنتين.

في عام 1969 أحضر مشجعو “فلامينغو” نسرا إلى داخل “ماراكانا” ليصبح اسم النادي بعد ذلك نادي “النسور”

وهنا يقول “زيكو” نجم “فلامينغو” السابق إن الشغف بهذا النادي يرتبط بالشخصية البرازيلية، فالمشجعون أغلبهم فقراء، وفي بعض الأحيان يحرمون أنفسهم من الأكل ليشاهدوا مباريات الفريق.

أطلق مشجعو الأندية الأخرى على نادي “فلامنغو” لقب “النسور”. لقد كان لقبا مهينا، خصوصا أن كثيرا من مشجعيه من ذوي البشرة السمراء.

في عام 1969 أحضر مشجعو “فلامينغو” نسرا إلى داخل “ماراكانا”، مما أثار حالة من الجنون. وبعد ذلك بيوم واحد أصبح هذا الطائر رمزا للنادي بعد أن اختلق المشجعون أسطورة، فإذا تمكن لاعب من “فلامينغو” من التقاط النسر يكون الفوز مؤكدا، ولكن إذا التقطه لاعب منافس يخسرون، ولطالما تأكدت الأسطورة بالصدفة.

وعن هذه المباريات يقول “ريفيلينو” اللاعب السابق في “فلومينينسي” إن لقاء “فلافلو” (“فلامنغو” و”فلومينينسي”) يعد مباراة كلاسيكو تماما كما في لقاء “فاسكو” و”بوتافوغو”، ولكنها مباراة كلاسيكو مفعمة بالشغف والعواطف. وكان الصحفي “ماريو فيليو” هو أول من اخترع اسم “فلافلو”، وانتقلت العبارة بعد ذلك إلى لغة جميع الصحف.

في عام 1995 وبمناسبة الذكرى المئوية لتأسيسه ضم “فلامنغو” إلى صفوفه “روماريو”، واعتبر النادي نفسه بطلا حتى قبل انطلاق البطولة.

نهائي كلاسيكو ريو “فلا-فلو” بين الفريقين العتيدين “فلومينيسي” و”فلامنغو”

كان “زيكو” أكبر هداف في “فلامنغو”، وقد أحرز 508 أهداف، وحصل “فلامنغو” على ألقاب كثيرة لم يحظ بها في تاريخه، ومنذ مغادرة الملكي “زيكو” لم يجد “فلامنغو” قائدا كاريزميا مثله، وظل النادي قاطرة كرة القدم البرازيلية، لكنه -مثل منافسيه- لم يتمكن من الاحتفاظ بلاعبيه أمام إغراءات أوروبا.

إغراءات المال.. انخفض المستوى وارتفع السعر

اليوم في ريو باتت مواجهة “فلافلو” أقل شهرة بكثير، ولكن “ديربي ريو” ما زال يثير الحماسة، وعلى الرغم من وجود لاعبين مذهلين، فإن مستوى البطولة انخفض، بينما ارتفع سعر المقاعد، وهذه هي مفارقة كرة القدم البرازيلية، إذ يكلف مقعد في مقابلة “فلافلو” 100 ريال برازيلي (نحو 40 يورو)، وهو سعر مكلف جدا بالنسبة للبرازيليين.

في يونيو/حزيران عام 2013 في ريو -كما هي الحال في بقية البلاد- نزل البرازيليون إلى الشوارع، وأمام غضب الجماهير وأثناء منتصف كأس القارات في بروفة ما قبل كأس العالم تراجعت كرة القدم، وفاز “السيليساو” (منتخب البرازيل)، لكن 15 مليار يورو أُنفقت عليه، إلى جانب فساد صناع القرار، وهما أمران يندد بهما البرازيليون، ويتساءلون: إذا كنا قد استطعنا بناء مثل هذه الملاعب المذهلة، فلماذا مستشفياتنا فقيرة جدا؟ ولماذا مدارسنا هكذا؟ ولماذا النقل العام فوضوي؟

“زيكو” أسطورة نادي “فلامينغو” بين عامي 1971 و1983، لعب معهم 637 مباراة وسجل فيها 478 هدفا

ربما لم تحظ مدينة ريو باللاعب “بيليه”، ولكنها مصنع للاعبين الكبار مثل “غارينشيا” و”ريفي لينو” و”زيكو” و”روماريو” وغيرهم، فقد أصبح بعضهم من أبطال العالم، وجميعهم ارتدوا ألوان العمالقة الأربعة، ولولا مدينة ريو لما كان تاريخ كرة القدم على حاله.

لكن المفارقة الأكبر تكمن في أن الظاهرة “رونالدو” لطالما ركض طفلا ويافعا على أرضية ملعب “ساو كريستو فاو” قبل أن يلتحق بـ”برشلونة” و”ميلان”. واليوم هو أشهر لاعب في ريو، لكنه لم يرتد قط قميص أي من الأندية الأربعة في المدينة.. إنه أسطورة أخرى تضاف إلى أساطير هذه المدينة.