كأس العالم 2022.. لوحات معمارية تستضيف عشاق الساحرة المستديرة في قطر

لم تعد المسابقات الرياضية الدورية العالمية مقتصرة على الألعاب الرياضية فقط، ولا أشير هنا إلى مسابقات ألعاب الفيديو، بل إلى السباق الذي يبدأ ويحتدم قبيل أي حدث من هذه الأحداث.

يبدأ هذا السباق قبل حتى أن تبدأ المسابقات بعدد من السنوات، وينتهي قبل بدايتها بأشهر قليلة، وهذا السباق الذي يدور في الكواليس هو سباق الفوز بتصميم الملاعب التي ستقام فيها الأحداث، إذ لا توفر المسابقات الرياضية من جنس كأس العالم لكرة القدم أو الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية فرصة لبناء مبنى من الحجم الكبير فقط، بل إنها توفر فرصة دعاية مجانية على مستوى عالمي لمصمم المبنى.

زها حديد.. صراع معماري على ملعب اليابان الوطني

في بعض الأحيان تتجاوز المنافسات كونها مجرد منافسة وتتحول إلى صراع، كما هو الحال في صراع تصميم ملعب اليابان الوطني، ففي عام 2012 أعلنت اللجنة الأولمبية في اليابان عن مسابقة معمارية لإعادة تصميم الملعب كي يتهيأ لاستضافة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في مدينة طوكيو عام 2020.

وقد فازت بهذه المسابقة المعمارية الإنجليزية ذات الأصل العراقي زها حديد، لكن عددا من المعماريين اليابانيين بالغي الشهر قدموا اعتراضات على النتيجة، وعلى عدم مناسبة التصميم لسياق المدينة العمراني والتاريخي، وطالبوا بإلغاء النتيجة وإقامة مسابقة جديدة، وهو الأمر الذي ثارت من أجله ثائرة زها حديد، فاتهمتهم بإلغاء المشروع بسبب رغبة اليابان في أن يكون مصمم المبنى يابانيا.

استمر الصراع القانوني لسنوات حتى انتصرت اليابان وقامت بإلغاء المبنى بالفعل، وإقامة مسابقة جديدة فاز فيها مصمم ياباني.

المعمارية الإنجليزية ذات الأصل العراقي زها حديد مصممة ملعب الجنوب

كما لاحظت عزيزي القارئ فإن تصميم مبنى كمبنى ملعب يستضيف بطولة رياضية عالمية هو أمر جلل، حتى بالنسبة لأشهر مشاهير مجال التصميم المعماري. على أي حال، لم يواجه كأس العالم الذي تستضيفه دولة قطر هذا العام أيا من هذه المشكلات، ونجحت قطر في استقطاب عدد من المصممين العالميين لتصميم هذه المباني، وفي هذه المقال نقدم لكم عرضا مختصرا لمصممي أهم هذه الملاعب وأعمالهم، فحتى وإن كنت غير مهتم بكرة القدم، فستجد الكثير من الثقافة والفن المحيطين بالحدث.

ملعب لوسيل.. عمالقة المعمار الرياضي تصنع معجزة الختام

ملعب لوسيل كما هو واضح من اسمه يقع في مدينة لوسيل، وهو من تصميم مكتب التصميمات الأشهر في العالم “فوستر وشركاؤه” (Foster + partners)، وقد أنشأ المكتب المعماري الإنجليزي “السير نورمان فوستر”، وتشتهر تصميماته حول العالم بملامح مميزة، مثل الأناقة الناتجة عن الخطوط البسيطة في التصميم، والبريق الناتج عن استخدام الزجاج اللامع، وشكل المبنى الذي يوحي بخفة وزنه، على العكس من الحقيقة بالطبع.

لهذا السبب نلاحظ أن شركة “آبل” (Apple) للتكنولوجيا دائما ما تلجأ إلى “السير فوستر” لتصميم فروعها المميزة حول العالم، إضافة إلى المقر الرئيسي للشركة الذي افتتح عام 2017.

ملعب لوسيل الذي سيستضيف المباراة النهائية لبطولة كأس العالم

على نفس المنوال أتى تصميم ملعب لوسيل الذي استخدم الخامات المعتادة المفضلة لـ”فوستر”، لكن المطلعين على مجال التصميم المعماري يعلمون أن مكتب “فوستر” يهتم بالمباني ذات الطابع الإداري (مثل برج الدوحة مثلا)، وليس لديهم خبرة كبيرة في تصميم المباني الرياضية، لهذا السبب فقد تعاونوا مع المكتب الإنجليزي “بوبيولاس” المتخصص في تصميم المباني الرياضية، والمكتب الأمريكي “مانيكا” لصاحبه “ديفيد مانيكا” ذي التاريخ الطويل في العمل على المباني الرياضية.

من المخطط أن يستضيف المبنى المباراة النهائية لبطولة كأس العالم لكرة القدم لأسباب متعددة، من ضمنها أنه الملعب الأكبر من بين الملاعب الثمانية التي ستستضيف البطولة، إذ يحتوي على 80 ألف مقعد، لكن هذا العدد الضخم من المقاعد -الذي لا يتناسب مع عدد سكان دولة قطر- ليس رقما ثابتا، فالتصميم يضع في اعتباره أن يفك نصف هذا العدد بعد انتهاء البطولة، إضافة إلى ذلك سيفك كثير من أجزاء المبنى حتى يصبح حجمه أصغر، وأكثر مناسبة لسياق دولة قطر ومدينة لوسيل.

وقد وضع التصميم لاستخدام هذه الأجزاء التي ستفكك، كي يعاد استخدامها في بناء مناطق اجتماعية وتجارية محيطة بموقع الملعب نفسه.

ملعب البيت.. مباراة افتتاحية بروح خيمة الشَعر العربي

على النقيض من ملعب لوسيل الذي سيستضيف المباراة الأخيرة في البطولة، سيستضيف ملعب البيت المباراة الافتتاحية لكأس العالم، وسيشارك فيها منتخب دولة قطر بطبيعة الحال بوصفه منتخب الدولة المستضيفة.

المبنى من تصميم شركة دار الهندسة، وشركة دار الهندسة ليست شركة تصميم معماري في المقام الأول، بل هي شركة بنية تحتية وإنشاءات، ومع نجاح أعمال الشركة فقد افتتحت قسما خاصا بالتصميمات المعمارية. نقول هذا لأن التصميم المعماري يحتاج إلى ثقافة تصميمية تنعكس على إدارة الشركات، فالشركة التي تبدأ كمكتب تصميمات ثم تضم أقساما هندسية، يختلف أسلوب إدارتها وبيئة العمل فيها بصورة جذرية عن العكس.

لجأت الشركة إلى تصميم مستوحى من الخيام البدوية العربية القديمة، لكن محاكاة شكل هذه الخيام بصورة مباشرة ليس فكرة عميقة بالتأكيد. ستكون هذه التفصيلة تقنية بعض الشيء، لكنها مهمة لفهم كيفية عمل المباني بصفة عامة.

نظام الترحال المرن.. سقف بدوي يلائم بيوت الجزيرة العربية

التحدي الأكبر وربما الوحيد في أي مبنى هو السقف لأنه هو العنصر الذي يقاوم أكبر تأثير للجاذبية.

تعتمد أغلب المباني على تقنية من اثنتين؛ النظام الهيكلي الذي يستخدم أعمدة ويصل بينها باستخدام عوارض، أو نظام استخدام القباب والأقبية، وفي الحالتين فإننا نعتمد على وحدات صلبة يستند بعضها على بعض.

توفر هذه النظم مباني ذات صلابة عالية وقدرات كبيرة على التحمل، وليست ببعيدة عنا المعابد الفرعونية في مصر التي ما زالت صامدة حتى الآن، لكن المصريين القدماء أقاموا حاضرة مركزية، على العكس من نمط الحياة الذي تميز به كثير من دول شبه الجزيرة العربية، وهو نمط الترحال المستمر.

والترحال لا يحب المباني الصلبة، بل يفضل المباني خفيفة الوزن التي يمكن تركيبها وحملها والتنقل بها، والنظام الأنسب لهذه المتطلبات هو نظام التعليق، أي أن سقف الخيمة لا يستخدم مواد صلبة، بل على العكس من ذلك فهو يستخدم مواد مرنة، وهذه المواد معلقة من نقطة معينة أو عدد من النقاط المختلفة.

يستخدم هذا النظام في تصميم كثير من الجسور حول العالم، وقد أبدع في تطويره بشكل خاص المعماري الألماني الراحل “فراي أوتو”، وليس أدل على ذلك من مقر ألمانيا الغربية في معرض مونتريال الدولي سنة 1967.

نلاحظ أن الإبداع التصميمي في ملعب البيت فقير بعض الشيء، على النقيض من الإبداع التقني فيه، وهو المناسب لطبيعة عمل الشركة كما ذكرنا من قبل، فسقف المبنى يمكن تحريكه بالكامل للتحكم في الضوء والظل، ومن ثم في درجات الحرارة داخل المبنى، والمبنى حاصل على عدد كبير من الشهادات الدولية التي تثبت كفاءة تصميمه البيئي.

ملعب 974.. هيكل معدني مكون من حاويات النقل

يقع ملعب 974 في منطقة رأس أبو عبود، ولهذا سمي بهذا الاسم أولا قبل أن يسمى بملعب 974، وذلك لأسباب متعلقة بتصميمه سأذكرها لاحقا.

صمم هذا الملعب المكتب الإسباني “فينويك إريبارين”، ويقع في منطقة تميزت بكونها ميناء ومنطقة صناعية، وهو ما دفع المكتب إلى استخدام حاويات الشحن كوحدة للبناء، أي أن المبنى عبارة عن هيكل معدني مصمم بحيث تكون وظيفته حمل 974 حاوية من حاويات النقل، وهذا العدد هو السبب من وراء الاسم الجديد للمبنى.

ملعب 974 الذي يتكون من 974 حاوية من حاويات النقل ويرمز الرقم أيضا للرمز الهاتفي لقطر

 

تحوي هذه الحاويات على أجزاء مختلفة من وظائف المبنى، فبعضها يحتوي على ما يسمى بالفراغات المكملة، وهي العناصر التي تضم المخازن والحمامات وغيرها من الفراغات التي ليست في صلب وظيفة المبنى، لكنها ضرورية حتى يكتمل عمل المبنى.

الأهم من هذا هو أن تصميم المبنى الصناعي يساعد على تفكيكه وتركيبه بالكامل تقريبا، ومن المخطط أن يفكك جزء كبير من المبنى بعد انتهاء البطولة والتبرع به للدول التي تحتاج إلى هذه الإمدادات في تطوير بنيتها التحتية.

إعادة التدوير.. أول ملعب قابل للتفكيك في تاريخ الفيفا

يعتبر هذا المبنى أول مبنى مؤقت في تاريخ الفيفا، ومن الواجب أن نشير إلى أن اللجوء لهذه الإستراتيجية هو قرار في غاية الشجاعة من قبل متخذ القرار، فعادة ما تلجأ الدول إلى بناء أكبر وأعظم ما يمكنهم، ثم تنتهي البطولة بعد وقت قليل، ويظل المبنى واقفا كمبنى أشباح غير مستغل، بل إن صيانته تكلف أكثر من الدخل الذي يتمكن من توفيره.

من الملفت أيضا أن استخدام حاويات النقل في البناء كان يمثل نزعة شائعة على مستوى العالم عندما أعلن عن تصميم هذا المبنى، لكن هذا النزوع لم يستمر طويلا لأسباب متعددة، ومن حسن الحظ أن الاهتمام بالحاويات حول العالم يعود مرة أخرى لأسباب غير متعلقة بالتصميم المعماري.

 

ويمر العالم بأزمة حاويات كبيرة ناتجة عن جائحة كورونا، فكثير من الدول لديها فائض من هذه الحاويات دون أن يكون لديها أي فكرة عن كيفية معالجة هذه الأزمة، وهذا الملعب سيقدم في الوقت المناسب تماما نموذجا يمكن استلهامه في مباني أخرى حول العالم.

ملعب الجنوب.. وحي قوارب جمع اللؤلؤ التقليدية

سمي ملعب الجنوب باسم ملعب الوكرة أولا، نسبة إلى مدينة الوكرة التي يقع فيها، لكن تغير اسمه فيما بعد إلى ملعب الجنوب، وهو من تصميم الراحلة الإنجليزية ذات الأصل العراقي زها حديد، ويتميز بسقف متحرك كما هو الحال مع ملعب البيت، لكن ما يميز سقف المبنى هو شكله الانسيابي اللافت.

تستخدم زها حديد الخطوط الانسيابية في تصميماتها بشكل شبه دائم، وهذا الملعب ليس مختلفا عن بقية مبانيها من هذه الناحية، لكنه مختلف من ناحية أخرى، وهو استخدامها للخشب في تصميمه الداخلي، والسبب في المزج بين الطراز المستقبلي الجديد (neo-futurism) للسقف مع استخدام مواد أرضية دافئة كالخشب هو محاولاتها لتحقيق الشعور بالمراكب التقليدية التي تتميز بها دولة قطر.

ملعب الجنوب الذي صممته المعمارية زها حديد والمستوحى من قوارب جمع اللؤلؤ التقليدية

فقد عمل سكان قطر تاريخيا في جمع اللؤلؤ من مياه الخليج العربي، مستخدمين في تنقلهم المراكب الخشبية ذات الأشرعة البيضاء، وقد رأت زها حديد في هذا المزيج بين اللون الأبيض والشكل الانسيابي للشراع مع جسد المركب الخشبي مزيجا غير مألوف، وكأنه محاولة عقلانية للمزج بين زمنين مختلفين.

يحتوي هذا الملعب على أربعين ألف مقعد، لكن سيخفض هذا العدد إلى عشرين ألفا فقط بعد انتهاء البطولة كما هو الحال مع بقية الملاعب، وسيستضيف هذا الملعب 7 مباريات من مباريات كأس العالم، لكن من المرجح أن يكون الملعب الرئيسي لاستضافة دوري نجوم قطر في المستقبل بعد تخفيض عدد مقاعده.

قطر.. رحلة أول دولة في الشرق الأوسط تستضيف كأس العالم

لقد أصبحت قطر الدولة المسلمة الأولى في التاريخ التي تستضيف بطولة كأس العالم لكرة القدم، وكذلك الدولة الأولى من دول الشرق الأوسط التي تستضيف هذه البطولة، وهو موقف مستحق، فقطر تملك شبكة “بي إن سبورتس” (beIN Sports) ذائعة الصيت حول العالم، ومن ثم سيكون من غير الحكيم أن تكتفي الدولة بعرض البطولات دون محاولة استضافتها.

 

وعلى الرغم من فقر الدولة من حيث الخدمات والتجهيزات الخاصة بالرياضة وقت طلبها استضافة البطولة، فقد نجحت في وقت قصير نسبيا في إنشاء قدر كبير من التجهيزات الرياضية عالية الجودة، وقد استقطبت عددا لا بأس به من المصممين العالميين والمحليين لتصميم ملاعب كأس العالم، وهي مجرد جزء من الصورة الكاملة لاستضافة البطولة، بل هي الجزء الأصغر في واقع الأمر، لأن استضافة هذا الحدث يتطلب بنية تحتية لسكن اللاعبين ومدربيهم وممثلي دولهم، إضافة إلى ملاعب للتدريب قبل المباريات، وهذه الملاعب يجب أن تتسم بالتأمين والسرية حتى لا تنكشف الخطط قبل حدوث المباريات.

إضافة إلى كل هذا يجب أيضا أن تحوي الدولة على نظام مواصلات عامة مؤهل لاستضافة الكم الهائل من المشاهدين المنتظرين. وقد عملت قطر على كل هذه المحاور بالتوازي وحققت نجاحا جيدا في كل منها، والمباني التي عرضتها في هذا المقال هي أربعة فقط من ثمانية ملاعب ستستضيف أحداث البطولة.