“شتازي أف سي”.. حقبة المخابرات السوداء في تاريخ كرة القدم الأوروبية

خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، أسند إلى كرة القدم الأوروبي دور مثير في المجهود الحربي، فقد أُريد لها أن تكون أداة دعائية وسياسية في ألمانيا الشرقية بُعيد الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال اختيار أجهزتها الأمنية والمخابراتية نادي “أف سي داينمو برلين”، ليكون مثالا على نجاح دولتهم الشيوعية، بتوفير عوامل تمنحه تفوقا على بقية الأندية الكروية.
ولتحقيق ذلك خُصصت له أموال، واختير له أفضل اللاعبين، ليضمنوا تتويجه بالبطولات المحلية والمشاركة في البطولات الدولية، ولتغدو نجاحاته مقرونة بنجاحات سياسات بلدهم وسمعته الدولية، حتى لو جاء كل ذلك على حساب غيره من الأندية، وعلى حساب لاعبين يدفعون في أحيان كثيرة ثمن رفضهم لهذا الدور غاليا، ما بين زجهم في السجون، واغتيال بعض الهاربين منهم في الخارج.

هذا هو الموضوع الذي تدور حوله رحى الفيلم الوثائقي التاريخي “شتازي أف سي” (Satsi FC)، الذي أخرجه “دانييل غوردون” ومساعداه “أرنه بيركنستوك” و”زكريا رحماني”، وقد أنتج عام 2023.
“إيريخ ميلكه”.. رجل المخابرات الذي اقتحم ملاعب الرياضة
في سياق تحليله التاريخي لظاهرة استغلال كرة القدم في الحياة السياسية الألمانية الشرقية خلال سبعينات القرن المنصرم، يبرز أمام صانعي الوثائقي اسم “إيريخ ميلكه”، وهو رئيس جهاز المخابرات الألمانية الشرقية المعروف اختصارا باسم “شتازي”، وتخطيطه لجعل نادي (أف سي داينمو برلين) الأهم والأفضل في الدوري الألماني، على حساب بقية الأندية، وعلى حساب روح كرة القدم ومبادئها الأخلاقية.

فخلال فترة السبعينات أضحى “ميلكه” من أهم الشخصيات السياسية في البلد، وأكثرهم سطوة وامتلاكا للسلطة بحكم مركزه رئيسا للمخابرات، وأيضا لتشدده الفكري وصرامة تعامله مع خصوم النظام الذي يتبنى فكره بالمطلق. ففي عهده غابت شمس الحريات، وأضحت ألمانيا الشرقية دولة معزولة، ومواطنوها يخضعون لرقابة صارمة، تحرمهم من حرية التعبير عن أفكارهم وآرائهم.

في هذا الوضع وجد الناس في ملاعب الكرة فرصة للتعبير عن معارضتهم للنظام بأساليب يصعب على أجهزة الأمن السيطرة عليها، أو القبض على إنسان بعينه، لأن الشعارات المرفوعة والصرخات المعارضة لا تأتي في هذه الحالة من إنسان واحد بل من جموع كبيرة، يستعصي على رجال المخابرات تحديدها.
ومن أجل لجم تلك الحركة المعارضة في الملاعب، قرر “ميلكه” أن يولي اهتماما أكبر بلعبة كرة القدم وملاعبها، حتى يتسنى لأجهزته مراقبة جمهورها بشكل أدق، ويلجم الأصوات المعارضة التي تتصاعد خلالها.
كرة القدم.. سوء حظ اللعبة الأكثر شعبية في العالم
كان من سوء حظ الكرة الألمانية أن مدير المخابرات كان محبا لها، وقد توصل إلى قناعة جديدة تفيد بأن الاهتمام باللعبة الأكثر شعبية في العالم، هو أجدى وأكثر فائدة من الرهان السابق على الألعاب الأولمبية، من أجل الفوز بأكبر عدد من ميدالياتها الذهبية.
على ضوء قناعته الجديدة، وضع “ميلكه” خطته لاختيار نادٍ كروي معروف واحد، يكون تابعا لجهاز المخابرات، يسيره ويديره كما يشاء. ومن أجل تعزيز المصداقية التاريخية، يلتقي صناع الوثائقي بعدد من اللاعبين هربوا من النظام الشمولي، وتعرضت حياتهم وحياة عائلاتهم للخطر بسبب مواقفهم.

تجمع تلك الشهادات بين التجربة الكروية، وبين الموقف السياسي الرافض لهيمنة جهاز المخابرات على كرة القدم ونواديها، وتنقل شهاداتهم حال الكرة في ذلك العهد، فقد أضحت خاضعة لمخابرات تكرس إمكانياتها لدعم ناد كروي، أرادوا أن يكون ممثلا للنظام، وخاضعا لسياسة الحزب الشيوعي الذي يقود البلاد.
بطل الدوري 10 سنوات متتالية.. مفارقة كروية نادرة
يقول “غيرد فيبر” لاعب وسط “دينامو درسدن” ما بين 1974-1981، إن ناديه كان مسيطرا خلال فترة السبعينات على الدوري الألماني، إلا أن تدخل أجهزة المخابرات في الحياة الرياضية جعله يتراجع بسبب إجبار أفضل لاعبيه على الانتقال إلى نادي “أف سي دينامو برلين”.

ويذكر أنهم ذات مرة دخل عليهم رئيس جهاز المخابرات في غرفة تبديل الملابس، وأخبرهم بصيغة تهديد أن زمن سيطرتهم على الدوري قد ولى إلى الأبد. ويقول “فيبر” إن إدارة النادي قد فهمت الإشارة، وفهمت أن الرهان الجديد يتعدى الطابع الرياضي، إلى السياسي والأمني.
ويتحدث “فالكو غوتز” مهاجم نادي “أف سي دينامو برلين” ما بين 1980-1983 للوثائقي، فيقدم للوثائقي حول الآلية التي كانت متبعة لاختيار المواهب الكروية الواعدة في ألمانيا الشرقية، وطريقة استغلالها لصالح جهاز المخابرات.
فقد كان النظام المتبع في الأندية الكروية لاختيار المواهب الواعدة، يسير وفق قواعد تنص على أن اختيار اللاعبين الموهوبين يكون أولا عبر المناطق والبلديات التي يلعبون فيها، ومنها ينقلون إلى بقية الأندية الكبيرة، بعد موافقة اتحاد الكرة الألماني عليهم.

ونظرا لسيطرة المخابرات على مجالس الاتحاد، فقد ضمن “ميلكه” انتقاء أفضل المواهب الكروية لناديه، وبما أنه كان ذا ميزانية ضخمة ودعاية رسمية قوية، فقد صعد إلى القمة، وبدأ سلسلة انتصاراته بسرعة فائقة، ونال لقب بطل الدوري الألماني الشرقي خلال 10 سنوات متتالية، وتلك مفارقة كروية نادرة!
“عملية روميو”.. حادث اغتيال اللاعب “الخائن”
بينما كان نادي المخابرات مستمرا بالصعود، ظهر في صفوفه من يعارض الأسلوب الذي يدار به النادي، وما فيه من قمع وترهيب.
وكان من بينهم لاعبون التقى بهم الوثائقي، ليدلوا بشهادتهم حول محاولات هروبهم من جحيم “ميلكه”، وقسم آخر منهم لم يكتب لهم البقاء ليدلوا بشهاداتهم، ومنهم اللاعب الشهير “لوتز آيغندروف” لاعب وسط “نادي أف سي دينامو برلين” الذي اغتيل بحادث سير في ألمانيا الغربية، بعد وصوله إليها هاربا من النظام الشمولي.

فبعد وصوله إلى ألمانيا الغربية، طلب اللجوء السياسي وحصل عليه، وخلال إقامته لعب لنادي “كايزرسلاوترن” وكانت وسائل الإعلام تسلط عليه الضوء في تصريحاته التي لها يدين فيها النظام السياسي في بلده، مما دفع جهاز “شتازي” السري لملاحقته وتدبير عملية لاغتياله، وقد أطلق عليها عملية “العميل روميو”، ونُفذت بافتعال حادث اصطدام شاحنة كبيرة بسيارته، مما أدى إلى وفاته.
وقبل هذا التاريخ، كانت المخابرات قد عملت على تشويه سمعته، ووصمته بـ”الخائن”، ومارست ضغوطا على زوجته، فأجبرتها على البقاء وعدم الالتحاق بزوجها.
مصيدة اللاعبين.. أساليب ترهيب الراغبين في الهروب
يسرد الوثائقي مجموعة من الوقائع، تتعلق بالضغط والتهديد الذي كان ينال كل من يحاول الهروب من البلد، فقد كانت المخابرات تبيت الدسائس، فترسل عملاء يقدمون أنفسهم للاعبين أثناء اللعب في صفوف المنتخب خارج البلد، ثم يزعمون أنهم يريدون مساعدتهم على الهروب وطلب اللجوء، وذلك ما ورد في شهادات من دخلوا السجون بعد كشف نياتهم في الهروب.

تلك الشهادات المرعبة تكشف عنها وثائق الأرشيف السري لجهاز “شتازي”، التي نُشرت علنا بعد سقوط النظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية أواخر الثمانينيات.
وهناك شهادات مرعبة عن تعذيب لاعبي كرة قدم معارضين للنظام، وإجبارهم على الإدلاء بمعلومات كاذبة تحت ضغط التعذيب، منها عمالتهم للدول الغربية، وغير ذلك من التهم التي تكرس بقاءهم في غياهب السجون.
سقوط جدار برلين.. نهاية حقبة سوداء أضرت بالكرة الأوروبية
يكشف اللاعبون الناجون من تلك السجون ما أصاب عوائلهم من ضغط وحرمان من الحركة والتنقل، شملت حتى أطفالهم.
ولكن هذا الوضع لم يدم طويلا، فمع إطلاق رئيس الاتحاد السوفياتي “ميخائيل غورباتشوف” نهجه السياسي الجديد “إعادة الهيكلة” (بيريسترويكا)، بدأت جماهير كرة القدم الألمانية تحتج على سياسة القمع التي تمارسها أجهزة المخابرات علنا، فانطلقت صرخاتها المدوية من بين مدرجات الملاعب، مطالبة بإسقاط النظام الشيوعي.

وقد تحقق لها ما أرادت في لحظة سقوط جدار برلين، فانتهت بذلك مرحلة سوداء من تاريخ كرة القدم الأوروبية، أدارتها أجهزة مخابرات لم تتورع عن ممارسة أقذر الأساليب على لاعبي كرة القدم، وقد وقف عدد غير قليل منهم بشجاعة في وجهها، وعارضوا نهجها القمعي المضر بروح الرياضة وقيمها النبيلة.