“فنون الشفاء”.. تقنيات تدلك على خبايا نفسك وتعالج جراحك العميقة
خلق الله -سبحانه وتعالى- الناس في هذه الدنيا للابتلاء بأشكاله، فالغنى والفقر فتنة، والصحة والمرض اختبار، والعلم والجهل امتحان، يقول سبحانه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، وهدى الله البشر إلى ما يصلح معاشهم وأجسادهم وأنفسهم في هذه الدنيا.
فالمريض عندما يحس بألم أو صداع قد يذهب للطبيب ويأخذ علاجا أو مسكنا، ولكن هنالك أوجاع لا تنفعها المسكنات، فالآلام النفسية حين تزداد توقف تقدم حياتنا، ولذا يلجأ الناس للمعالجة النفسية بأشكالها المختلفة، لتخفيف الضغوط التي يواجهونها.
وفي هذا السياق يأتي الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، ضمن مبادرة الجزيرة الوثائقية للجميع، وعرضته على شاشتها تحت عنوان “فنون الشفاء”، ليلقي الضوء على صور غير نمطية للعلاج النفسي.
علاج الفنون.. وسيلة لمواجهة آلام النفس العميقة
تقول “بيترا روزنكرانز”، وهي فنانة تشكيلية ومعالِجة بالفنون: أنا فنانة تشكيلية، درستُ الرسم في أكاديمية الفنون، وبعد أن أنهيت دراستي بوقت طويل وأنجبت أطفالي، عدت للأكاديمية لدراسة المعالجة بالفنون، وأرى أعمالي الفنية هي مصدر أفكاري الرئيسية لعلاج مرضاي.
وتحدثت حليمة، وهي أخصائية نفسية ومعالِجة بالرقص والحركة، فقالت: أنا معالِجة نفسية منذ 2005، أعمل في مجال المعالجة الجماعية والعلاج الكلامي، وفي 2014 علمت -من خلال مؤتمر علمي- بوجود طريقة للمعالجة بالرقص والحركة، فانجذبت لهذا النوع من العلاج، لا سيما أنني نُوبيّة، والرقص عنصر أساسي في ثقافتنا.
خضعتُ لتدريب مكثف بين مصر وإيطاليا مع الدكتور “إنزو” في مدرسة “دميتر”، وتدربت كثيرا على تقنيات مختلفة من العلاج بالرقص. لقد أصبحت المعالجة بالحركة والرقص علما مستقلا، يبحث في كيفية كون الحركة المتناسقة للجسم سببا في الصحة النفسية، وتطوير الأفكار والحماية من الاكتئاب والإيجابية في الحياة.
“جئت لإعادة اكتشاف نفسي”.. تجربة العلاج بالرسم
تلتقي الفنانة التشكيلية “بيترا روزنكرانز” مجموعة من النساء يرغبن بتجربة العلاج عن طريق الرسم، فتحييهن قائلة: مرحبا بكن، سعيدة بوجودكن في هذه الدورة للعلاج بالرسم، أعرف بعضكن، وأود أن أسمع من كل واحدة السبب الرئيسي الذي دعاها للالتحاق بهذه الدورة.
- أنا آمال فؤاد، طبيبة وأحب الرسم كثيرا، وقد اشتركت في الدورة لإحساسي أن الرسم يساعد كثيرا في العلاج، بالرسم سوف أساعد نفسي وأعالج مرضاي.
- أنا داليا عمرو، جئت لهذه الدورة لأنني أريد أن أتصل بنفسي أكثر، وأعرف ما يدور بداخلي.
- أنا دعاء، هذه أول مرة أحضر فيها جلسة علاج بالرسم، جئت لإعادة اكتشاف نفسي.
- أنا هبة عاطف، أحس براحة شديدة وأنا بين الألوان وأدوات الرسم، ومؤمنة بأن الرسم يعطيني قيمة مضافة.
وتعلّق “بيترا” على الحضور قائلة: أغلب الذين يشاركون في جلسات العلاج بالرسم هم من النساء، هذه هي الحال في مصر، وأيضا في ألمانيا. ومن تجربتي أرى أن الرجال لديهم صعوبة في الاعتراف بحاجتهم للعلاج النفسي.
تطلب “بيترا” من المشارِكات وضع لوحاتهنّ بشكل رأسي، وستكون البداية بالألوان التالية: الأصفر الليموني، والأحمر الكارميني، والأزرق الفاتح، والأزرق الغامق الذي يميل إلى الخُضرة. ينبغي مسح اللوحة بقليل من الماء بشكل متجانس، وترتيب الفُرش والألوان، “فالتحضير جزء من الرسم”.
“الاكتئاب هو العجز عن إيجاد معنى للحياة”
سيكون موضوع اللوحة “الفاتح والغامق”، وكما نعلم فاللون الأصفر هو أفتح الألوان التي نستخدمها، وينبغي التعامل معه بحساسية شديدة، فهو يغضب غضبا شديدا إذا اختلطت به نقطة صغيرة من لون آخر.
سيبدأ الآن مهرجان اللعب بالألوان، وفي النهاية ستكون كل لوحة لصاحبتها، لن تكون هنالك مناقشات للوحات في النهاية ولا أحكام أو درجات، بل ستكون فرصة ليستكشف المرء نفسه من خلال لوحته.
تتحدث “بيترا روزنكرانز” عن مرض الاكتئاب قائلة: يعاني كثيرون من الاكتئاب هذه الأيام، وأنا أرى أن الاكتئاب هو العجز عن إيجاد معنى للحياة، ومرضى الاكتئاب يرون الأشياء متشابهة، متساوية، بلا معنى، ولا داعي لبذل أي جهد، فهو لن يفيد.
أبدأ مع هؤلاء الناس بخطوات صغيرة، ففي جلسة الرسم “المبتلّ”، وبضربة واحدة لطيفة من فرشاة الألوان على اللوحة سيبدأ اللون بالانسياب، فالمجهود البسيط يحدث تأثيرا.
سنبدأ بلونين أو ثلاثة تمتزج فيما بينها بسهولة، والتأثير المدهش لهذه الطريقة أنها توقظ حاسة البصر، فتوقظ الإحساس بالعالم من حولنا، وذلك ما تفتقده هؤلاء الفتيات، فالحواس هي بواباتنا على العالم، وإذا لم ندرّب حواسنا فسنفقد تواصلنا مع الأشياء حولنا.
“نبذل جهدا لنمنع المريض من الاختباء خلف كلماته”
تقول إحدى المشاركات: كنت أشعر بالضغط، فبدأت أرسم وأخلط الألوان عشوائيا، شعرت براحة في ذلك، بدأت بالألوان الفاتحة كالأصفر، وأعطاني ذلك طمأنينة وسكينة، ولكن عندما نظرت للوحات الآخرين شعرت بنوع من الغيرة، أحسست أنهم يعرفون ما يفعلون، ولهم اتجاه معين، بعكس عشوائيتي.
ولكن في نفس الوقت أحسستُ بالتعاطف معهم، فلوحتي ألوانها فاتحة، بعكس لوحاتهم التي استخدموا فيها ألوانا قاتمة، ومن هنا بدأت أزيد نسبة الألوان الغامقة في لوحتي لأقترب منهم، كان ذلك ثقيلا على نفسي. الآن بعد أن جفّت اللوحة أحسست أنها تمثلني، أحببتها بكل ما فيها، كأنها تمثل أحاسيسي المتناقضة من الغيرة والتعاطف.
وتعلق المدربة “بيترا روزنكرانز”: في العلاج بالرسم نكتشف أن أيدينا أسرع من أفكارنا، نرى أولا ما على اللوحة ثم نفهم ما حدث، في الرسم تستطيع أن تتعلم اتخاذ القرارات؛ أي الألوان ستزيد وأيها ستخفف، وهذا يولّد لديك دافعية للاستمرار، ويعطيك مزيدا من الشجاعة والثقة بالنفس في حياتك اليومية.
وفي العلاج النفسي نبذل جهدا كبيرا لنمنع المريض من الاختباء خلف كلماته، فنحن جميعا لدينا قدرة على الاختفاء وراء كلماتنا بذكاء، وأرى أن العلاج بالفنون ليس هدفه التحليل واستخلاص النتائج، بل إن تطور العملية الفنية هي ذاتها الدواء.
“كأنك ترى جسدك من خلال جسد آخر”.. مدخل لقراءة الذات
تقول دعاء، وهي إحدى المشارِكات: أردت أن يكون اللون الأصفر في مركز اللوحة، غير متأثر بالألوان حوله، أردت أن أحاصره بالألوان القاتمة، واكتشفت بعد وقت أنني لا أحسن السيطرة على اللوحة، وهذا ما حصل معي شخصيا خلال المدة الماضية، ولكن عندما انتهيت نظرت إلى لوحة زميلتي داليا، فوجدتها تشبه لوحتي إلى حد ما، وهذا منحني بعض الراحة.
أنظر إلى المرآة فكأنني لا أعرفني، أشعر ببعض التيه، فصورتنا الذهنية عن أنفسنا تختلف عن صورتنا في المرآة، والناس حولنا مثل المرايا، نرى أنفسنا من خلالهم، ونعرف حقيقتنا من خلال سلوكهم وردود أفعالهم تجاهنا.
سوف تقدم حليمة تمرينا بسيطا في الرقص يُدعى “المرآة”، بحيث تقف كل فتاتين وهما متواجهتان لتنفيذ نفس الحركات، كأنها انعكاس في المرآة، “كأنك ترى حركة جسدك من خلال جسد آخر، وهذا مدخل إلى تكوين صورة ذهنية عن نفسك، وقراءة أفكارك من خلال الآخرين”.
“شكل الجسد إنما هو تعبيرٌ عما يجول في النفس”
تقول سارة حسن، وهي متعالِجة بالرقص والحركة: كنت سأدخل في دوامة خطيرة، بسبب أنني لم أكن أعرف جسمي، كنت متقززة منه، أحاول دفنه وإخفاءه، نتيجة أخطاء قد لا أكون أنا السبب فيها، لم تكن لدي فكرة قبل أن أدخل دورة العلاج بالرقص.
طوال مدة الدورة لم أكن أفهم ما يحصل لي، ولكن الأكيد أن تغييرا إيجابيا كبيرا وعميقا يحصل في حياتي وداخل نفسي، فشكل الجسد إنما هو تعبيرٌ بطريقة أو بأخرى عما يجول في النفس. لقد خرجت من الدورة بشكل آخر، أحسن ثقة وأكثر إيجابية وتفاعلا مع المجتمع.
وتقول علياء تاج، وهي أيضا متعالجة بالرقص والحركة: بدأت منذ 3 سنوات رحلة لاستكشاف نفسي والتعرف عليها، وقد أخذتني هذه الرحلة في مسارات مختلفة، منها العلاج بالفن واليوغا، وأخيرا الرقص والحركة، تعرفت من خلالها أكثر على جسدي وأنني وإياه شيء واحد، ثم أحسست أن الفتيات من حولي يبادلنني نفس المشاعر، وأننا نساند بعضنا.
ضبط الإيقاع.. توفير الجهد والانسجام مع الآخر
تقول المدربة “بيترا روزنكرانز”: إذا تعرفنا على الإيقاع وحاولنا ضبطه، وفّرنا الكثير من الطاقة والمجهود الذي يمكن أن نبذل الكثير منه بلا فائدة، وضبط الإيقاع ينشر نوعا من المناخ الصحي، وهو يجعلنا متيقظين دائما، لا نصرف جهدا بدون طائل.
وفي تمرين الخيط المشدود للمعالِجة حليمة، نسعى للتواصل مع الآخرين، والحفاظ على مسافة واحدة طوال مدة التفاعل والحركة، ومن خلاله يتعرف الإنسان على نفسه ويدرك حدودها، ويستوعب مساحات التواصل مع الآخرين.
“أن تصنع شيئا فذلك يعني أنك منتج”
في تمرين الصلصال تسعى “بيترا” إلى خلق نوع من التحدي بين اليدين والطين، وفي ذلك بناء لمفهوم الإرادة، “فالذين لديهم مشكلة في الإرادة نعطيهم مادة الطين لتطويعها”.
ويعتمد سلوكنا الخارجي على قوى التفكير والشعور والإرادة، وحتى يكون السلوك سويّا فلا بد من تناغم هذه القوى، وهو ما نسعى إليه من خلال المعالجة بالفنون، لجعل هذه القوى الثلاث منسجمة.
والعمل بكامل اليد يشعرك بأنك موجود وفاعل ومنتج، تحس بما في يديك وتنتج منه شيئا مفيدا، فصنع كرة أو تشكيل حيوان أو أي شيء منتظم آخر من قطعة طين عشوائية، هذا يعني أنني بفعل يديّ أنتجت شيئا منتظما ذا معنى، هذا ينعكس على نفسي وينمّيها ويجعلها منتجة ومنتظمة.
“صدمات الطفولة تترك فينا أثرا غائرا”
تقلّب دعاء مجموعة من الصور القديمة، وتقول: ذكريات الطفولة محفورة بداخلنا، وتعيد تشكيل شخصياتنا دون أن نحسّ، وعندما نكبر ندرك مدى تأثير طفولتنا على رغباتنا ومخاوفنا، وصدمات الطفولة تترك فينا أثرا غائرا، ولكن يمكن معالجته.
والمشاكل النفسية ليست عند الكبار فقط، فالأطفال أيضا لهم مشاكلهم، ويمكن أن يكون علاجها أسهل بالفنون. تقول “بيترا”: بالفنون أستطيع معالجة جميع الأعمار، من سن الرابعة وحتى سن 85، ولكن لكل منهم أدواته التي تناسبه، وأستخدم الجلسات الفردية للذين يعانون من مشاكل خطيرة، وكذلك الأطفال الذين يعانون فرط الحركة.
وتقدم “بيترا” مثالا لحالة طفل يعاني من فرط الحركة، ولدته أمه طبيعيا قبل 5 أسابيع من موعده، ووُضع في حاضنة مدة 7 أيام، ولم يسمح لأمه بلمسه مطلقا، وهذه المدة هي التي ينمي فيها الطفل حاسة اللمس لديه، وإذا لم تفعل بشكل مستمر ينتج عنها مشاكل في المستقبل.
تمرين الخيمة الجماعي.. إحياء روح التفاعل الجسدي مع الآخرين
في تمرين الخيمة الجماعي ندرك مفهوم التفاعل الجسدي الإيجابي مع الآخرين، ويتجلى الشعور بالثقة والتسليم، والاطمئنان أن هنالك من يساعدك ويساندك، ويحمل معك الهموم والمسؤوليات.
تقول المدربة “بيترا”: في نهاية التمارين الفنية، ستجد نفسك قد أنجزت شيئا ما، أنت تملكه ويمكنك أن تستدعيه في أي لحظة تحس أنك عاجز عن الأداء.
وتقول حليمة: يوما بعد يوم يزداد تقبّل الناس للعلاج، فهم يفقدون العمل من خلال أيديهم وحواسّهم، ويجب أن ندرك أن العلاج بالفنون هو تكميليٌّ، وليس بديلا للعلاج النفسي أو الدوائي والكلامي، وينبغي دائما استشارة المعالج النفسي، عن المدة التي نلجأ فيها للعلاج بالفنون.