تمارين الصيام.. شعيرة دينية تعزز صحة الأبدان وتنقية الأرواح

ضمن برامجها الرمضانية للعام 2025، عرضت قناة الجزيرة الوثائقية ثلاثية الصيام في الأديان، لتسليط الضوء على شعيرة تعبدية، وتجربة جسدية وروحية ضاربة في الزمن، وقد تناولت فيها العادات والتقاليد المرتبطة بالصيام في الموروث التشريعي والثقافي والاجتماعي، في الإسلام والصابئة المندائية والإيزيدية.
تدعونا هذه السلسلة الوثائقية إلى التعرف على واحد من أقدم الطقوس التي مارستها البشرية على مدار العصور، وتقرب المشاهد من سياقاتها التاريخية والحضارية.
البطن على التحقيق ينبوع الشهوات، ومنبت الأدواء والآفات.
(أبو حامد الغزالي – إحياء علوم الدين)
يعد الصيام من الممارسات الروحية والعقائدية المنتشرة لدى أتباع عدد من الديانات، التوحيدية منها وغير التوحيدية. ففي المخيلة اليهودية-المسيحية، ينظر إليه غالبا على أنه تقشف صعب ومؤلم، يقوم أساسا على حرمان الذات للتكفير عن الذنوب.
ويكون الصيام -وفقا لهذا التصور- معاناة تقدم لله فداءً، لكنه في المنظومة التعبدية والتشريعية في الإسلام، بشتى مذاهبه الفقهية والعرفانية، يصبح شكلا من أشكال الاستقامة التامة أمام الخالق، لا تتحقق إلا بترجمتها في سلوك الصائم الفردي والاجتماعي.
هكذا يبدو أن أحد أسباب انتشار الصيام في الديانات يكمن في كونه تجربة روحية بحد ذاتها، فهو يمنح قدرة على تعزيز البصيرة، ويجعل الجهد البدني سبيلا لتحقيق وضوح ذهني وشفافية في القدرة على اتخاذ القرارات، كأن العقل يصبح أكثر صفاء.
يفتح تحليل منظومة الصيام أفقا جديدا للتفكير، لا بصفته امتناعا مؤقتا عن الغرائز فحسب، بل ممارسة تعيد تعريف العلاقة بين الرغبة والضرورة، بين الامتلاء والفراغ، وبين الطاعة والاختيار. فالصيام تجربة تعيد رسم تخوم الجسد والروح، سواء ارتبط بنذور شخصية في المعتقدات الوثنية، أو كان وسيلة للتقرب إلى الله في الديانات التوحيدية.
فكيف يؤثر الجوع والامتناع عن شهوات الجسد -بما في ذلك رغبة الكلام- على إدراكنا للذات والعالم؟ هل يكون الالتزام بالطقوس كافيا لتحقيق تلك الغاية الروحية المنشودة؟ أم أن الصيام يتحقق في جوهره بوصفه فعلا تأمليا يعكس علاقتنا بالمقدس؟ ومتى يخرج هذا الفعل من دائرته الذاتية والوجدانية ليصير مظهرا من مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية في شتى تجلياتها اليومية؟
تمارين وجدانية تحررنا من أنفسنا
إلى جانب أبعاده الطقوسية، يمثل الصيام تجربة روحية عميقة، تضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع الجوع والعطش، مما يخلق حالة من الوعي الذاتي المتزايد بالجسد وحدوده، فلا يكون الجوع مجرد حرمان، بل أداة للتأمل في العلاقة بين الحاجة المادية والوعي الروحي.
هكذا، داخل عالم غارق في التجارة والتسويق والسرعة، يظهر الصيام تمرينا فلسفيا على غرار ما كان يسمى عند القدماء “التمارين الوجدانية”، وهي ممارسة منتظمة لحالات تأملية بطيئة ومركزة، تتجاوز إطارها الأولي، لتحدث آثارا جذرية على مجالات أخرى من الوجود، لا سيما الأخلاقية والسياسية منها.

إن الصيام هو وسيلة لفك ارتباطنا بالأنماط الآلية التي تحكم حياتنا الراهنة، فنحن نقضي جزءا كبيرا من يومنا في شراء الطعام وتحضيره وأكله، ثم تنظيف المائدة وغسل الآنية. وفجأة عندما نصوم يتحرر هذا الوقت، وتفتح أمامنا مساحات جديدة.
تجربة توقظ العقول وتنقي الأفكار
يقول ابن عربي في “الفتوحات المكية”: اعلم -أيدك الله- أن الصوم هو الإمساك والرفعة، يقال: صام النهار إذا ارتفع، قال امرؤ القيس: “إذا صام النهار وهجرا”، أي ارتفع.. ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها في الدرجة سمي صوما، ورفعه تعالى بنفي المثلية عنه في العبادات، وسلبه عن عباده مع تعبدهم به، وأضافه إليه سبحانه.
يخبرنا ابن عربي أن الصيام ارتفاع، أي ارتقاء بالروح نحو مراتب جليلة ومشهودة من العبادة والسكينة. كما يرد تعريف آخر للصيام في كتاب “كنزا ربا”، وهو النص المقدس لدى الصابئة المندائيين، إذ يقول: من ينقي روحه من الشر، ويبتعد عن دنس الجسد، فهو صائم في عين الرب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
وكلا التعريفين يؤكدان على الجوهر لا الشكل، بيد أنهما يثيران تساؤلا حول العلاقة بين الطقوس الدينية والسلوك الأخلاقي. ففي التشريع الإسلامي يكون الصيام شعيرة تعبدية، وتجربة روحية وفلسفية ذاتية بامتياز، ففي الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به.
لكنه يصير تدريجيا نظاما اجتماعيا وسياسيا قائما بذاته، فما يميز الصيام الإسلامي عن الديانات الأخرى هو بعده الجماعي، إذ يمارس على نطاق واسع داخل الأمة، فيصبح تجربة فردية واجتماعية في آن. يقول عالم الاجتماع “إميل دوركايم”: الطقوس الدينية ليست مجرد أفعال روحية، بل هي أيضا وسائل لخلق هوية جماعية وترسيخ القيم المشتركة.

تضج المتون الأسطورية والدينية والعرفانية بنماذج وإحالات على تجارب خاضها الأنبياء والفلاسفة والمتصوفة، لعل أكثرها تعبيرا هو صيام النبي موسى قبل الصعود إلى الجبل. جاء في القرآن الكريم: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ (الأعراف، الآية 142). فامتثل النبي لأمر ربه قبيل الميقات العظيم، واقترنت هنا مناجاة الحق وتلقي الوحي منه مباشرة بفعل الصيام ذاته.
من هنا نفهم أن تجربة الصيام جذرية روحيا وفلسفيا، بحيث توقظ وعينا وتعيد إلينا إحساس الدهشة والجدة. ولهذا ليس مستغربا أن نجد عقولنا أكثر يقظة، وأفكارنا أكثر نقاء، وقراراتنا أكثر هدوءا أثناء الصيام.
ما الذي يقدر عليه الجسد؟
يستعيد عنوان هذا الفصل واحدا من الأسئلة الأساسية التي تناولها الفيلسوف “باروخ سبينوزا”، والتي يمنح الصيام بعض الأفكار لإجابتها، وهي إجابات تبدو حماسية بخصوص قوى الجسد.
قد يقدم بعض الناس الصيام على أنه تجربة “خارقة للعادة”، لكنها في حقيقة الأمر تجربة طبيعية، تعيد إلى الجسد مكانته داخل المعادلة، وتخرج الذوات من “السبات الدوغمائي”.
فكثيرا ما نسمع جملا تمجد الأكل، وتستحضر السعرات الحرارية الضرورية للجسم، ومع ذلك، فإن الامتناع عن الطعام أسبوعا وتسلق التلال والجبال يوميا، هي تجربة عادية تماما يقدر عليها كل جسد سليم.
إن ما ينطبق على الجسد ينطبق أيضا على الروح، فـ”العقل هو فكرة الجسد” كما يقول “سبينوزا”، ولا عجب إذن أن تتجلى في الروح -أو في العقل، كما تحلو للبعض تسميته- نفس التجربة التي يعيشها الجسد.
مفارقة إفراغ الجوف لتجدد الروح
إن الصيام ليس اختبارا للجسد بالفراغ، ولا بما يتعدى طاقته، بل هو بالأحرى تجربة للامتلاء، فمن المفارقة أن إفراغ الصائم جوفه لا يعني خواء ذاته، بل التحرر من كل ما يحول بينه وبين كينونته وتحققها؛ فليس الجسد مجرد أداة لتنفيذ الطقوس، بل هو وسيط فعال، أي فاعل ومتفاعل.
كذلك يمكننا الحديث عن الصيام بصفته صيرورة جسدية وروحية في آن، يساعد على تشكيل رؤية نقدية للعالم. يكتب الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” عن الصيام: هو تجدد روحي، وهو قبول بتحول مفاجئ يناقض ماضيا من اليقينيات.

فإذا كنا في اللغة نعارض الفراغ بالامتلاء، يتوجب علينا أن ندرك أن الصيام فعلا وممارسةً يقلب هذه المفاهيم. لذلك لا يتعلق الأمر بالشعور بالفراغ، بل على العكس، هو اختبار إشباع ينبع من عدم الحاجة إلى شيء، من امتلاك كل ما هو ضروري من الداخل، ومن كون الإنسان مستكفيا بذاته.
وتخرجنا هذه الممارسة من نمط العيش الاستهلاكي، ذاك الذي يستنزفنا في حركة دائمة وفوضوية، لتعيد إلينا القدرة على التباطؤ، على التحرر من التيار الجارف، والدخول في حالة من السكون، حيث ينبثق كل فعل من الداخل، من أعماق الذات.
الصيام القهري والاحتجاجي.. مآرب أخرى
بعد السابع من أكتوبر 2023، عاش الفلسطينيون في غزة -وما يزالون- تجربة جسدية جذرية، فقد ضربت قوات الاحتلال الإسرائيلي حصارا على جميع مصادر التغذية، فارضة عليهم ممارسة الصيام القهري.
يقول غزي محاصر مع أسرته: ما من خبز ولا طحين، هذا المعجون جلبته لابني من الإغاثة، عمره 6 أشهر، يأكله بدلا من الحليب لأنه مقطوع أيضا، اضطررت لأكله لأني أموت من الجوع. منذ أسابيع قلصنا الوجبات اليومية من ثلاث إلى واحدة، لكن اليوم لا نجد هذه الوجبة.

في عالم يعاد تشكيله وفق منطق السوق، وقوة المال والسلاح، يتجاوز الصيام أبعاده الروحية حتى يصبح تمرينا على المقاومة. وتظهر أشكاله الأكثر علمانية في الإضراب عن الطعام، فيصبح الامتناع عن الأكل والكلام فعلا احتجاجيا يواجه السلطة بضعف الجسد، وذلك ضعف يبرز قوة الإرادة، كما أنه يطرح تساؤلات جوهرية عن علاقتنا بالموارد الطبيعية، ويعيد النظر في الاستهلاك والفرجة، بصفتهما العلامة المشهودة للحياة المعاصرة.
إن علاقتنا بأنفسنا وبالعالم لا تتلخص في كونها علاقة استهلاكية، كما يراد لها أن تصير. ولطالما استعمال الراشدون “حيلة تربوية” شائعة لحث الأطفال على الأكل، باستحضار غول أو غولة تلتهمهم إذا هم لم ينهوا أطباقهم، فإما أن تأكُل أو تُؤكَل. هذا هو التهديد الذي يربي على الشراهة.
لكن هذه العلاقة الاستهلاكية، في جوهرها، ليست مجرد تلبية لحاجة جسدية، بل هي فعل تملك وتدمير، فعندما نستهلك، فإننا لا نمتلك فحسب، بل نفكك العالم أيضا ونجعله جزءا منا.
لكن الخطر يكمن في توهم إمكانية العيش في حالة افتراس دائمة، أي تصور أن الاستهلاك هو التغذية، بلا وعي بالحدود الفاصلة بينهما.

لقد جعلنا هذه النظرة نمط تصورنا الوحيد للعالم، مما أدى إلى اختلال التوازن تماما، ونرى اليوم العواقب التي تنتج عن ذلك، سواء على مستوى الصحة أو البيئة أو حتى على المستوى الأخلاقي والسياسي للعلاقات بين الأفراد والمؤسسات والدول.
هكذا تكون القوة التحويلية للصيام تجربة بمنزلة طاقة تشحن الجسد والعالم بالمعاني، على نحو أعجز تحقيقه كثيرا من التجارب الأخرى ذات البعد الترفيهي خاصة، وذلك في وقت وجيز.
من هنا يصبح الصيام نظاما متكاملا، لتحقيق توازن بيولوجي كوني، ومنهجية شاملة ومتكاملة للسعي إلى بلوغ صحة جسدية وروحية متوازنة. ألم يأت في الحديث: صوموا تصحوا؟