إلزامية اللقاحات الطبية.. “أطفالنا لنا ولا دخل للدولة في شؤونهم”

بينما تتأمل البشرية جمعاء وتنتظر بفارغ الصبر ظهور لقاح جديد ناجح ضد فيروس كورونا قادر على إيقاف شبح الموت المنتشر في كل مكان، تظهر حركات ومنظمات تعارض تناول اللقاحات الطبية مُتذرعة بحجة احتوائها على مواد كيميائية خطيرة على صحة الإنسان وبشكل خاص على الأطفال.

وتضيف هذه الحركات والمنظمات أن شركات الأدوية العملاقة وبتواطؤ السلطات الصحية الرسمية في بعض الدول معها تتعمد إخفاء أضرار اللقاحات الجانبية حفاظا على مكاسبها المالية وأرباحها الهائلة.

وقد كلفت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” المنتجة والمخرجة “فكتوريا جيمس” باستقصاء حقيقة ادعاء الجهات المعارضة لتناول اللقاحات الطبية ومعرفة مدى تطابقها مع المنطق العلمي، والاستماع في الوقت نفسه لوجهات نظر الأطباء وعلماء الأوبئة حول الموضوع.

سيتسنى لمتابع الوثائقي “ملفات المؤامرة.. حروب اللقاحات” الاطلاع الواسع على وجهات نظر كل الأطراف وأخذ فكرة جيدة عن تاريخ طويل من الجدل المصاحب لظهور كل لقاح طبي في زمن الجائحات المخيفة.

فيلم.. “ملفات المؤامرة .. حروب اللقاحات”

تطعيم الأطفال الإجباري.. لقاحات طبية بنكهة تجارية

تؤكد منظمة الصحة العالمية في مركز الوقاية والسيطرة على الأمراض في ولاية أتلانتا الأمريكية موقفها الرسمي والعام من اللقاحات، وتعتبر الدعوة لمنع استخدامها على نطاق واسع خطوة إلى الوراء غير مقبولة، ويجتمع في المركز ثلاث مرات في السنة مواطنون ومنظمات مستقلة إلى جانب علماء وباحثين يُجيزون خلال هذه الاجتماعات اللقاحات الجديدة المقترحة.

يقابل الوثائقي أعضاء مشاركين في مجموعة “اللجنة الاستشارية للمناعة التطبيقية”، وتهدف إلى مراقبة عملية التصويت والتأكد من سلامة اللقاحات المقترحة، ومن بين أعضائها من ينشط في إحاطة المشاركين فيها بالأضرار الخطيرة الناجمة عن عمليات تطعيم الأطفال الإلزامية ضد الأمراض.

يبدو الانقسام واضحا بين النشطاء والمنظمات المناهضة للقاحات والتطعيم الإجباري للأطفال وبين العلماء والباحثين المؤيدين لها، يتشبث كل طرف بموقفه ويتحرك وفق قناعاته، وبينما يؤكد العلماء أهمية تطعيم الأطفال المبكر ضد الأوبئة حماية لهم من الإصابة بأمراض خطيرة، فإن ناشطين – وبشكل خاص بعض أولياء الأمور الذين أصيب أطفالهم بأمراض خطيرة يعتقدون أنها ناتجة عن تناولهم اللقاحات- يرون أن العملية برمتها عملية تجارية، والمتضرر الأكبر فيها هم الأطفال، أما المستفيد منها فهو الشركات الكبرى في مجال صناعة الأدوية والأمصال المضادة.

لا يتوقف المناهضون عن دعواتهم، وينظمون مظاهرات وينشطون في نشر المعلومات والأخبار التي تؤكد وجهات نظرهم، بينما يؤكد العلماء من جهتهم بأن اللقاحات بشكل عام هي أمينة وخاضعة لمواصفات دقيقة ومراقبة من قبل الحكومات، وأضرارها الجانبية هي أقل بما لا يقارن بفوائدها.

الكثير من العلماء يرون ضرورة تطعيم الأطفال المبكر ضد الأوبئة حماية لهم من الإصابة بأمراض خطيرة

مقاطعة اللقاحات في بريطانيا.. أطفال بلا مناعة

يعترف العلماء بفعالية نشاط المناهضين والمدعين بخطورة اللقاحات على الأطفال، لكنهم يصفونه بالنشاط المُضر استنادا على إحصائيات تشير إلى ارتفاع الإصابة ببعض الأمراض الخطيرة نتيجة رفض عائلات كثيرة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تطعيم أبنائهم ضدها.

ويُقدم بعض الأطباء أدلة ملموسة بعد انتشار حالات الإصابة بمرض الحصبة في السنوات الأخيرة بمعدلات كبيرة، ويُحيلون السبب الرئيس وراءها إلى رفض عائلات أمريكية وبريطانية تطعيم أطفالهم بأمصال مضادة تمنحهم عادة المناعة الكافية لتجنب الإصابة بها.

يقدم العلماء إحصائية للتنبيه على خطورة ما يدعو إليه أصحاب نظرية المؤامرة الطبية، وتؤكد هذه الإحصائية وفاة أكثر من 100 ألف طفل حول العالم في كل عام نتيجة الإصابة بمرض الحصبة.

لاحظ العلماء والأطباء في بريطانيا النقص الواضح في مناعة أطفالهم ضد المرض، مما دفع منظمة الصحة العالمية للإعلان بأن بريطانيا لم تعد خلال العقود الأخيرة بلدا خاليا من مرض الحصبة، وأحال العلماء السبب وراء ذلك إلى الدعاية المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي والداعية إلى إقناع الناس برفض تناول اللقاح.

رئيس الوزراء البريطاني الحالي “بوريس جونسون” يحذر من انتقال أخبار مغلوطة عن اللقاحات عبر منصات التواصل الاجتماعي

“لا للتلقيح”.. مرض الحصبة يضرب أطفال نيويورك

يثير نشاط المعارضين للتطعيم الإلزامي قلق السياسيين في ظل سرعة وقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على نقل معلومات مغلوطة وغير دقيقة حول موضوعات طبية حساسة، لدرجة دفعت رئيس الوزراء البريطاني الحالي “بوريس جونسون” التنبيه إليها ووصفها بالكاذبة.

يقف معه في نفس الموقف علماء اجتماع شخصوا تلك الظاهرة ونبهوا لمخاطرها، ومن بين هؤلاء العالمة البريطانية “سام مارتين”، وقد درست كيفية انتقال الأخبار المرعبة والمغلوطة عن اللقاحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي غدت عالمية الطابع تنتقل سريعا من موقع جغرافي إلى آخر.

وهذا ما يفسر حسب رأي العالمة “مارتين” أسباب الانتشار السريع لمرض “الحصبة” بين أطفال مدينة نيويورك على وجه الخصوص بعد ملاحظة كثرة المتفاعلين على صفحات التواصل من أبنائها مع ما ينشره دعاة “لا للتلقيح” من أخبار ومعلومات حول النتائج السلبية لها على أطفالهم.

في الهند وصلت نسبة العائلات المُشككة بجدوى تطعيم أطفالها إلى 10- 20 % من مجموع العائلات الهندية

تأثير المعلومات المغلوطة.. نظرية المؤامرة تغزو كوكب الهند

لم يقتصر التأثير -كما بيَّنت دراسة “سان مارتين- على النشطاء البريطانيين والأمريكيين فحسب، بل تعداه إلى آخرين يعيشون في مناطق بعيدة من العالم مثل الهند التي بدأت أعداد كبيرة من عائلاتها تطرح السؤال التالي: لماذا يجب على أطفالنا أخذ جرعات من التطعيم ضد بعض الأمراض قبل إصابتهم بها؟

ساهمت سعة استخدام الهواتف الذكية في وصول المعلومات المغلوطة المرسلة من الخارج إلى الهنود بسرعة، فعدد مستخدمي “واتساب” و”الفيس بوك” يقارب 400 مليون شخصا، وهي من بين أكثر بلدان العالم استخداما لوسائل التواصل الاجتماعي. وقد وصلت خلال العقد الأخير نسبة أعداد العائلات المشككة بجدوى تطعيم أطفالها إلى نسبة تتراوح ما بين 10- 20 % من مجموع العائلات الهندية.

يواجه “مزامودين أحمد” العامل في مجال نشر المعلومات الطبية في المدن الهندية -نتيجة ارتفاع هذه النسبة وزيادة المصدقين لنظرية المؤامرة الطبية- صعوبات جدية بعد أن لاحظ زيادة عدد المتسائلين عن جدوى أخذ اللقاحات، مما يهدد بانتشار الأوبئة الخطيرة في البلد.

وقد وجد من خلال بحثه أن أغلب المعلومات مصدرها خارج الهند والكثير منها مضلل ولا يستند على حقائق علمية، ومن بين ما لاحظه أيضا أن الدعاية موجهة بشكل خاص إلى مجموعات معينة من المجتمع، وغالبا ما تكون مكتوبة بلغاتهم المحلية ومضامينها مثيرة للمشاعر الدينية والعرقية.

بينما توصلت عالمة الاجتماع “سام مارتين” من خلال دراستها واطلاعها على ما ينشر في الهند إلى حقيقة مفادها أن نظريات المؤامرة الطبية مستندة في قوتها على مخاوف الناس وتركيزها على فكرة أن ما يصلهم عنها هو الظاهر الجيد، أما حقيقة ما تبطن تلك اللقاحات من شرور فتظل سرية ولا تُعلن شركات الأدوية عنها للناس.

الطبيب”جون ويلسون” الذي ساهم في تعزيز المخاوف عند الناس من التطعيم في العصور الحديثة

توحد الأطفال.. أضرار لقاح السعال الديكي

يصاحب الفيلم عددا من المؤرخين والأطباء لمراجعة تاريخ بروز المخاوف عند الناس من التطعيم في العصور الحديثة، وقد أحالوا بداية ظهورها إلى ما يقرب من أربعة عقود وبالتحديد حين عرض وثائقي عن مرض “السعال الديكي” في عام 1974، وتضمن معلومة تشير إلى أن جميع الأطفال الذين طُعموا بأمصال مضادة للمرض ظهرت عليهم بعد مدة وجيزة أعراض قصور وخلل في أداء الدماغ.

من بين الشخصيات التي ساهمت في تعزيز المخاوف طبيب يدعى “جون ويلسون”، إذ أكد أن لديه أدلة قاطعة على تأثيرات لقاح “السعال الديكي” على الدماغ وأنه وراء إصابة أعداد كبيرة من الأطفال بمرض التوحد.

في بريطانيا انخفض الإقبال على تطعيم الأطفال من 80 إلى 30 بالمئة، ما أدى إلى ظهور ثلاث جوائح

جوائح فتاكة في عالم الأطفال.. ظلال المقاطعة

يقابل معدو الوثائقي “حروب اللقاحات” “الطبيب البريطاني “ديفيد سالسبوري” لمعرفة حقيقة تأثيرات الوثائقي الذي يربط التطعيم ضد مرض “السعال الديكي” بمرض التوحد، ولم يخفِ الطبيب مخاوفه من تلك المزاعم غير المستندة حسب رأيه على دعائم علمية راسخة، ومن نتائجها الخطيرة زيادة مخاوف الناس وامتناعهم عن أخذ اللقاحات الضرورية.

ففي الفترة التي تلت ظهور الوثائقي وخروج جماعات مؤيدة لما جاء في متنه في مظاهرات ومسيرات انخفض الإقبال على تطعيم الأطفال في بريطانيا من 80 إلى 30%، وأدى ذلك الانخفاض الحاد إلى ظهور 3 جوائح خطيرة أدت إلى موت آلاف الأطفال فيها.

أما بالنسبة للعلاقة الغامضة بين مرض التوحد واللقاح فلم يجد الأطباء البريطانيون رابطا قويا بينها، وتبيَّن من خلال دراستهم أن أغلبية من ظهرت عليهم أعراض التوحد كانوا في الأساس مصابين به قبل زمن من أخذهم التطعيم.

توصل لهذه النتيجة أيضا الصحفي “بريان دير” الذي كرس سنوات من عمله لمعرفة حقيقة ما جاء في الوثائقي وصحة المخاوف من تناول اللقاحات الطبية، وينبه إلى نتائج خطيرة تركتها تلك الحملات، من بينها توقف الكثير من شركات إنتاج الأدوية عن إنتاج اللقاحات الخاصة بالأطفال.

 

جمعيات مناهضة التطعيم في أمريكا أقنعت الكثير من الأمهات أن سبب خسارتهن لأبنائهن هو اللقاح الذي تناولوه

اتساع المناهضة.. أمهات ثكالى يقدن الفكرة

بدأت جمعيات مناهضة للتطعيم في التوسع في الولايات المتحدة، وكان قادتُها في الأغلب أمهات خسرن أطفالهن وكلهن على قناعة بأن المسبب الرئيس هو اللَّقاح الذي تناولوه، يرافق الوثائقي الكثير منهن ويستمع إلى آراءهن ثم يعود وينقلها إلى أطباء مختصين بعلوم الأوبئة ليعرف حقيقة ما يصرحن به ويتحركن وفقه.

ظهرت هذه الجمعيات بشكل خاص بعد بروز أزمة جديدة تزامنت مع الكشف عن وجود مواد خطيرة في التركيبة الكيميائية للقاحات مضادة لأمراض “الحصبة الألمانية” والنكاف” وغيرها، ومن بين أبرز تلك المواد الكيميائية مادة “تيومرسال” و”ذرات الفضة” و”الألمنيوم” وغيرها من المعادن الثقيلة، وقد قام العلماء لحل تلك المسألة بإبعادها من التركيبة الكيميائية مع معرفتهم الكاملة بقلة نسبها التي لا تشكل خطرا على صحة الإنسان.

إعلان في الولايات المتحدة الأمريكية يُشجع على تناول اللقاحات، بينما الرئيس ترامب في حملته الانتخابية طالب بوقف تناولها

إخفاء المعلومات الطبية.. بطاقة عبور رابحة في الانتخابات

إن فكرة أن الشركات المنتجة لهذه اللقاحات تخفي معلومات مهمة عن مستخدميها وأنها تعمل وفق مصالحها الخاصة ولا يهمها صحة المواطن تجد استجابة وقبولا عند قطاعات واسعة من الناس ويستغلها السياسيون في حملاتهم الانتخابية.

يعود الوثائقي إلى فرنسا ويشخص تحركا لليمين الفرنسي بهذا الاتجاه الذي يدعم أفكارهم المنادية بتفكيك الاستقرار والهيئات الرسمية، وتشجيعهم على قبول فكرة ارتباط العلماء والخبراء الطبيين بشركات صناعة الأدوية من دون تقديم أدلة قوية على ذلك.

يذهب الوثائقي بعدها إلى الولايات المتحدة ليتعرف على مدى قوة تأثير خطابات الرئيس “ترامب” خلال حملته الانتخابية على الناخبين في الولايات التي تكثر فيها المطالبة بوقف تناول اللقاحات عبر تأكيده على صحة مخاوفهم من قلة سلامتها على صحة أطفالهم وأن بعضها يسبب مرض التوحد بالفعل.

تستمر في المقابل كثير من الدول في سياستها الطبية وتُلزم الأطفال بالتطعيم الإجباري مستندة على قرارات منظمة الصحة الدولية وعلى رأي علمائها وخبرائها، ففي فرنسا مثلا قررت الحكومة العام الفائت إلزام كل طفل فرنسي بتناول 11 لقاحا قبل دخوله المدرسة.

متظاهرون أمريكيون يرفعون شعارات رافضة لتدخل الحكومة في شؤون أبنائهم فيما يخص إلزامية التلقيح

“جسدي ملك لي”.. صراع لم يحسم منذ القرن التاسع عشر

تشير الباحثة “سوزان سيبكر” تاريخيا إلى ظهور قرارات إلزامية التلقيح خلال القرن التاسع عشر، وقد صاحبتها حملات معارضة وتشبث بشعارات مثل: “جسدي مُلك لي ولا أحد له الحق في التحكم به!” و”أطفالنا لنا.. ولا دخل للدولة في شؤونهم”.

أما في الوقت الحالي فيُرجع الباحث في الصحة الكونية “جوناثان كندي” ارتفاع حدة الأصوات المعارضة تجديدا في الأنظمة التي يحكمها قادة شعبويون أو معارضون للغرب وثقافته، وقد لاحظ أن النبرة العالية نفسها موجودة بين مؤيدي ترامب وبين داعمي الزعيم الروسي بوتين، والأخير يريد من وراء إشاعة المخاوف ونشر فكرة تواطؤ السلطات والحكومات الحاكمة مع شركات صناعة الأدوية تعزيز القناعة بفشل الغرب وديمقراطيته.

بينما يرى الصحفي “بريان دير” أن كل ذلك الكلام لا ينفع الناس ولا يستند على أرضية علمية تدعم فكرة عدم جدوائية اللقاحات الطبية وغلبة تأثيراتها الجانبية السلبية على فوائدها الكبيرة في الحد من انتشار الأوبئة والأمراض الخطيرة.


إعلان