“الحليب.. حقائق واعتقادات”.. ثنائية الصحة والمرض في مشروب الطفولة

الحليب مشروب ترعرعنا عليه جميعا، وتلقينا تشجيعا على شربه لكي ننمو جيدا ونصبح أقوياء، فمنذ عقود رسخت صورة الحليب في أذهاننا على أنه مادة غذائية صحية جدا، ولا يقتصر الأمر على منتجي الحليب فمعاهد الأبحاث في مجال التغذية بكل أنحاء العالم، تشجع على استهلاك منتجات الحليب بشكل يومي.

ورغم كل ما تقدم يطرح السؤال حول إذا كان الحليب مفيدا حقا؟

فهذه الصورة الإيجابية لم تعد من المسلمات تماما، فمنذ سنوات تناهى إلى أسماعنا جدال حاد بين مؤيدي هذه الصورة ومعارضيها، ويزعم المنتقدون أن الحليب الموجود الآن يختلف عن السابق، وقد يكون سببا لأمراض العصر كالحساسية والسكري والشقيقة وحتى السرطان.

وبسبب السجال الحاد والهجوم المتبادل، أصبح الحليب المادة الأكثر إثارة للجدل في سوق الصناعات الغذائية، وهذه الحرب الكلامية دفعت المستهلكين إلى التشكيك بالمنتجات التي يشترونها، ويسألون أنفسهم: من نصدق؟

يبحث الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “الحليب.. حقائق واعتقادات” عن إجابات لأسئلة من قبيل: هل الحليب صحي حقا كما يروج له؟ هل هو منتج أساسي، أم من الأفضل تجنبه؟

“يمكنك استهلاكه وأنت مطمئن”.. جدل مبالغ فيه

للحصول على الحقيقة في شأن الحليب، يزور فريق العمل عددا من الأطباء وخبراء التغذية ومنتجي الحليب في أوروبا، والبداية ستكون مع “دومينيك شارجيه” مدير تعاونية “لايتا” الفرنسية التي تصنع جميع منتجات مشتقات الحليب، وهو يرى أن الجدل حول الحليب مبالغ فيه.

يقول “شارجيه”: خبراء التغذية يشجعون على استهلاك الحليب، إنه من المواد الغذائية الأساسية، وأول شيء نتناوله بعد الولادة، كما ينصح به البرنامج الوطني الفرنسي للتغذية الصحية، لكنه -كما هو الحال مع كافة المنتجات الغذائية الأخرى- يثير الجدل، وبفضل معايير السلامة في صناعات اليوم باتت المخاطر في أدنى مستوياتها، لكن ما زال هناك أشخاص يقولون إن الحليب مضر، ويذكرني هذا بموضوع الزبدة التي كانت تتهم منذ عشرات السنوات باحتوائها على كم هائل من الكوليسترول، في حين أنها تُعتبر اليوم مكونا غذائيا جيدا.

“الحليب.. في دقائق”.. فيديو

ويواصل “شارجيه”: نصنع مشتقات الحليب كالجبن والزبدة واللبن بنفس الطريقة التي كنا نعتمدها منذ 50 عاما، ولكن بأساليب حديثة وصحية ومراقبة ومعترف بها وتخضع لضوابط مشددة، وأظن أنه بسبب السلامة التي توفرها التقنيات المستخدمة، بات الحليب منتجا ممتازا ويمكنك استهلاكه وأنت مطمئن.

“حليب اليوم لا يشبه الحليب الأصلي”.. حقيقة لا يمكن إنكارها

لا يرى منتجو الحليب أي مبرر للحديث عن أضرار الحليب، لكن بعض الأطباء يعارضون هذه الفكرة بشدة، ولديهم أسبابهم في ذلك، ومن هؤلاء المعارضين الدكتور “ماكسيميليان ليدوخوفسكي” الخبير في مجال التغذية وعسر الهضم، فقد أوضح أن “حليب اليوم لا يشبه الحليب الأصلي سوى بنسبة قليلة، إذ يمر حليب اليوم بثلاثين مرحلة أثناء معالجته، من تسخين إلى تبريد وتجانس وبَسترة، ثم فصل فقاعات الحليب والدهون وغيرها، ولهذا يبقى الاسم هو الشيء المشترك بين حليب اليوم والحليب الأصلي”.

أطنان من الحليب الطازج تصل مصانع الألبان والأجبان كل يوم

فكثير من مرضى الدكتور “ليدوخوفسكي” مصابون بعرض عدم تحمل الطعام، وتعود جذور هذه الحالة إلى أساليب الطعام المعتمدة في الصناعات الغذائية الحديثة، ويرى الدكتور ليدوخوفسكي أن الأمراض التي يعالجها، إنما هي بسبب خبراء التغذية أو الأبحاث التي يجريها أطباء التغذية، ووفقا لهذا الطبيب فإن ما يقوله حقيقة لا يمكن إنكارها.

يقول د. “ليدوخوفسكي”: سبب الكثير من الأعراض لدى الناس هو تفاعل الجسم مع الطريقة التي يعالج بها الطعام، معدتنا مهيئة لهضم الحليب ومشتقاته بأشكالها الطبيعية، لكن لم يتسن بعد لها التكيف مع طريقة معالجة الحليب ومشتقاته الحديثة، وهذا يتطلب تعاقب عدة أجيال.

كلام الدكتور “ليدوخوفسكي” يدفعنا لطرح سؤال عن ما إذا كان الحليب في شكله الصناعي الحديث يشكل مشكلة لجهازنا الهضمي؟

ألمانيا وفرنسا.. كواليس إنتاج الأطنان من الحليب

يجري البروفيسور “جون ميشيل لوسير” -رئيس قسم التغذية في معهد باستور الفرنسي الرائد في هذا المجال- أبحاثا تتركز على الفكرة القائلة باحتمال وجود ضرر تحمله المعالجات الحديثة على الحليب، ويقول: إنها فكرة مضحكة، كل الأطعمة معالجة، وقد يكون لهذه العمليات آثار سلبية أو إيجابية. فكل البحوث التي أجريت كانت على الحليب المعالج، سواء بالحرارة الفائقة أو المجمد أو المبستر، لم تتبين أي آثار سلبية، وكل ما ظهر آثار إيجابية فقط، ربما طرأت تغييرات يجب فحصها وتحليلها وحتى تصحيحها، ولكن بالمجمل لا توجد آثار سلبية على الإطلاق.

تغيرت أعلاف الأبقار من طبيعية إلى خليطة كي تعطيها كمية طاقة أكبر من أجل إنتاج كميات وفيرة من الحليب

ويعتبر البروفيسور “لوسير” الحليب صحيا في الأساس، ولهذا كان من بين الداعمين لتوصيات الحكومة الفرنسية بتناول 3 من مشتقات الحليب في اليوم، ويشرح البروفيسور رأيه قائلا: هناك عاملان يجعلان الحليب مميزا لهذه الدرجة، فلديه تركيبة فريدة من نوعها، وهو من أكثر الأطعمة المغذية، والسبب الآخر الأكثر أهمية هو أنه أول طعام يتغذى عليه الطفل، وهذا ما يمنحه رمزية وقوة.

في ألمانيا توصي الجمعية الوطنية للتغذية أيضا باستهلاك الحليب ومشتقاته يوميا، فألمانيا وفرنسا رائدتان في إنتاج الألبان والأجبان في أوروبا، وقطاع إنتاج الحليب عامل مهم للبلدين كليهما، إذ تنتج فرنسا 25 طنا من حليب البقر سنويا، بينما تتفوق عليها ألمانيا بإنتاجها 32 طنا، وهذه الكميات الضخمة لا يمكن بلوغها إلا من خلال استخدام أساليب للوصول إلى أعلى إنتاجية ممكنة، ومن خلال اعتماد الأبقار كثيرة الإنتاج، وإطعامها طعاما مركزا.

“جودة الحليب باتت أفضل”.. مزرعة الأبقار المدللة في ألمانيا

يقول “فيليب كوفوليك” صاحب مزرعة أبقار في ألمانيا: يوجد في المزرعة نحو من ألف بقرة تعطي الحليب كل يوم وتحلب 3 مرات يوميا، وتنتج البقرة الحلوب حوالي 9 آلاف و500 ليتر في السنة، وعادة ما نتجاوز المعدل، ونريد من خلال تحسين ظروف عيش الحيوانات زيادة إنتاجها للحليب، ولكي تعطي البقرة حليبا كثيرا، يجب أن تبقى بصحة جيدة وتشعر بالراحة.

إن جودة الحليب وتركيبته تعتمد على طريقة الاعتناء بالبقرة وصحتها وطعامها، وفي مزرعة “كوفوليك” تحصل الأبقار على الطعام المليء بالطاقة والمكون من الذرة والحبوب وبذور الكولزا، ومن دون هذا الطعام لا تستطيع إنتاج هذا الكم الهائل من الحليب. ولكن ألا تأكل الأبقار الأعشاب في طبيعتها؟

الدكتور “توماس راو”: إذا تغير علف البقرة يتغير إنتاجها، فالعلف مهم لأنه يؤثر على إنتاج الحليب

يشرح “كوفوليك” قائلا: الأبقار في أيامنا هذه تحتاج إلى طعام مفعم بالطاقة، فإذا وضعنا الغذاء التي نعطيه للأبقار والقش والأعشاب جنبا إلى جنب، فإنها ستختار غذاءنا أولا، لأنها لديها عطش معين للطاقة، وعلينا أخذ ذلك بعين الاعتبار، ولا يمكننا المقارنة بين هذه البقرة الحلوب والبقرة قبل ألفي عام، فالبقرة التي تنتج الكثير من الحليب صحتها أفضل من غيرها، فعملية إدرارها للحليب ليست بهذه البساطة، لأنها تتطلب الرعاية.

ويتابع: بقيت عناصر الحليب كما هي، ولم تجر أي تغييرات منذ 20 أو 30 سنة، بل على العكس تحسنت جودة الحليب، إذ تفحص جودة حليب كل بقرة مرة في الشهر، أستطيع القول بكل راحة ضمير أن جودة الحليب باتت أفضل.

“إن الحليب تغير جوهريا منذ 1983”.. عودة إلى العلف العضوي

يقول الدكتور “توماس راو” رئيس الأطباء في عيادة باراسيلسوس للطب التكميلي في سويسرا: إن البقرة تغيرت وتغير علفها، فالعلف مهم لأنه يؤثر على إنتاج الحليب، وبحسب الدراسات فإن الحليب تغير جوهريا منذ عام 1983، وبات يحتوي على نسب عالية من بروتين الحليب (البيتا لاكتروبروتين)، كما أنه فقد أحماضه الدهنية من نوع (أوميغا 3)، إضافة إلى فقدانه لبعض العناصر الأخرى، وهكذا تغير الحليب المغذي ليصبح مادة غذائية صناعية ولم يعد كسابق عهده.

وبحسب نصيحة الدكتور “راو”، فإن عليك شرب الحليب العضوي فقط، ولكن ما الفرق بين الحليب العضوي والحليب الذي نعرفه اليوم؟

يجيب “مارتين أوت” صاحب مزرعة أبقار عضوية في سويسرا، قائلا: البقرة الأكثر إنتاجا للحليب تنتج ألفي كيلوغرام سنويا، أما اليوم فتنتج 27 ألف كيلو، وهذا يؤدي بها إلى الهلاك، من جهة أخرى لدينا فائض من الحليب الذي لا حاجة لنا به، وهذا يؤدي إلى خفض الأسعار، عليك فقط فهم البقرة، افهمها وامنحها التوجيه التي تحتاجه، والمهمة التي تريدها منها هي الدور الذي طالما لعبته، ألا وهو أكل العشب.

كثير من الناس لا يستطيعون شرب الحليب، والسبب هو عدم تحمل أجسامهم لمادة سكر الحليب اللاكتوز

الحليب التي يُباع في هذه المزرعة العضوية أغلى من الحليب العادي، لأنها تعتمد على الزراعة فقط والمصادر المستدامة، ولهذا فهو نموذج يقابل تربية المواشي الحديثة التي تغذى على الأعلاف المليئة بالطاقة.

يقول صاحب المزرعة العضوية “أوت”: إذا لم نغير النظام، واستمرينا في إنتاج كمية الحليب نفسها، فلن يبقى أي أمل بالحصول على الحليب العضوي، المنتج العضوي ثمرة نظام كامل، والحليب الناتج عن العشب سيكون محدودا بسبب الأبقار، فإذا اعتمدنا على الإنتاج العضوي ستصبح الكمية أقل والسعر أغلى، ويلعب الحليب دوره في التغذية، ولن يكون مجرد منتج ينتج بكميات هائلة، ويستطيع أي كان استخدامه صناعيا أينما كان وبأي شكل نريد.

سكر الحليب.. رفض المعدة المسبق للمشروب الأبيض

يقول البروفيسور “برنارد فاتزل” رئيس قسم الفيزيولوجيا والكيمياء البيولوجية في معهد ماكس روبنر للدراسات في ألمانيا: إن ما نطعمه للأبقار يؤثر على حليبها، وهذا يعني أننا بسبب أنظمة الإنتاج العضوي نستطيع التأثير على تصنيع الأحماض الدهنية، مما يؤدي إلى تركيبة أفضل ومستويات غذائية أعلى في الحليب العضوي.

ووفقا لمعهد الدراسات الوطني الألماني للغذاء والتغذية، فإن الحليب مفيد والعضوي مفيد بدرجة أعلى بقليل، ومع هذا فإن هناك كثير من الأشخاص لا تستطيع أجسامهم تحمل الحليب، والسبب الأكثر شيوعا هو عدم تحمل مادة سكر الحليب لاكتوز.

يمكن لمشتقات الحليب المختلفة من أجبان وزبدة ولبنة أن تعطي نفس فوائد الحليب

ففي أوروبا الوسطى هناك من بين كل 7 أشخاص شخص مصاب بهذا العرض، وهذا الرقم رفع الوعي في المجتمعات الأوروبية بعدم تحمل اللاكتوز، ولهذا ازداد عدد الأشخاص الذين يعتقدون أنهم مصابون به، ولكن ماذا يعني هذا العرض؟

يجيب الدكتور “ليدوخوفسكي” قائلا: إن عدم تحمل اللاكتوز أمر طبيعي، ووفقا للتعداد السكاني العالمي، فإن 75% من الناس يفقدون القدرة على هضم اللاكتوز بعد الرضاعة، وإذا لم تهضم هذه المادة فإنها تتخمر بواسطة جرثومة موجودة في الأمعاء، وهذه المواد المتخمرة تسبب مشاكل كآلام المعدة والإسهال والانتفاخ وغيرها.

وبحسب الدكتور “ليدوخوفسكي”، فإن نسب عدم تحمل اللاكتوز في ارتفاع، ولكن المشكلة تكمن في مكان آخر، إذ يقول: إن زيادة استهلاك الحليب هي من عوامل عدم تحمل لاكتوز.

“مشتقات الحليب تضعف جهاز المناعة إلى الأبد”

ليس بالضرورة أن الذي يعاني من مشاكل مع مشتقات الحليب لا يتحمل جسمه الحليب، لأن ثمة احتمالا آخر وهو الحساسية، ولهذا فإن الدكتور “توماس راو” -رئيس الأطباء في عيادة “باراسيلسوس” للطب التكميلي في سويسرا- ينصح مرضاه بأن يتوقفوا عن تناول مشتقات الحليب.

ويلخص الأمر قائلا: كل المنتجات البروتينية المُعدّة من حليب البقر كاللبن والجبن والكريمات وغيرها، نعتبرها مسببة للمشاكل والحساسية، فمادة بروتين الحليب (بيتا لاكتوبروتين) تسبب معظم أنواع الحساسيات من بين الأطعمة الأخرى، وهو أكثر من اللاكتوز والغلوتين والمكسرات وغيرها.

لطالما كان الحليب الشراب الأول والأهم في حياة الأطفال فهو يعطيهم الفيتامينات والكالسيوم

ويرى الدكتور “راو” أن هؤلاء الأشخاص لديهم مستويات أعلى من “الهيستمين” في أجسامهم، ولديهم ردود فعل أقوى على الحساسيات الثانوية، ويقدر المصابين بالحساسيات الثانوية” في أوروبا الوسطى، بـ1%، وبحسب الدكتور “راو” فإن مشتقات الحليب تضعف جهاز المناعة إلى الأبد، كما تؤدي لازدياد حالة الالتهاب بالخناق المزمن والتهاب الجيوب المزمن.

ويختم الدكتور “راو” بقوله: إن ليتر الحليب ينتج من آلاف الأبقار التي يجري تطعيمها بالمضادات الحيوية وتتغير بروتيناتها من خلال عملية البسترة، في منطقتنا توجد 30 ألف بقرة يخلط حليبها، هذا يعني خلط 30 ألف هوية مناعية، إنه انهيار معلومات مناعية على أجسام أطفالنا الصغار.

“الحليب يسبب آثارا سلبية كثيرة للأطفال”.. أساطير الطفولة

منذ عقود، كان يقال إن على الأطفال بالذات أن يكثروا من شرب الحليب لأنه مفيد ويقوي العظام ويجعل الطفل أقوى، وهذه فكرة نشأنا عليها، ويؤكدها البروفيسور “جون ميشيل لوسير” -من معهد “باستور” الفرنسي- قائلا: الحليب يتمتع بقيمة غذائية عالية جدا، ويحتوي على بروتينات مهمة جدا للنمو.

البروفيسور “كارل ميشالسون”: وجدنا أن خطر انكسار العظام أعلى بكثير عند النساء ولدى كبار السن، وأن معدل الوفاة أعلى لدى مستهلكي الحليب بكثرة

لكن منتقدي الحليب مثل الدكتور “ليدوخوفسكي” يرون عكس ذلك، إذ يقول: منذ سنوات حضرت مؤتمرا علميا في ألمانيا، وعرضت الدراسة الوطنية الألمانية حول الطعام، وقد أثبتت هذه الدراسة أن هناك علاقة بين البروتينات الحيوانية والسمنة بسن المراهقة، والبروتين المقصود هو بروتين الحليب، وعليه فإن الحليب لا يجب أن يحظى بحيز أساسي من غذاء أي شخص يبلغ من العمر أكثر من 5 سنوات.

وبنفس الاتجاه يسير الدكتور “راو” الذي يقول: إن الحليب يسبب آثارا سلبية كثيرة للأطفال، من بينها الإصابة بالحساسيات والربو وأمراض المناعة الذاتية، والتهاب المفاصل والسكري.

تقوية العظام.. دعاية الحليب التي يكذبها الواقع

لا يرى معهد ماكس روبنر الألماني أي ترابط بين هذه الأمراض والحليب، بل العكس. ويقول البروفيسور “برنارد فاتزل”، رئيس قسم الفيزيولوجيا والكيمياء البيولوجية في المعهد: البيانات العلمية تظهر أن ما من آثار سلبية لاستهلاك الحليب على الطفولة المبكرة وما بعدها، وفيما يخص السمنة والسكري فالحليب يلعب دورا وقائيا.

وعلى نفس منوال “فاتزل” ينسج البروفيسور “لوسير” الذي يقول: جميع التجارب السريرية التي أطعم فيها الأفراد منتجات غنية بالحليب أو الكالسيوم، أظهرت أن كثافة عظامهم وتركيز الكالسيوم لديهم ازداد، وتبين الأبحاث أن منتجات الحليب تساعد على مقاومة هشاشة العظام، لكنها لا تكون العامل الوحيد، لأن هشاشة العظام مرض معقد تدخل فيه عوامل عدة.

ورغم أن غنى الحليب ومشتقاته بالكالسيوم أمر مؤكد، فإنه لم يقنع الدكتور “ليدوخوفسكي” إذ يرد على ذلك قائلا: إذا أخذنا بمقولة إن الإنسان يحتاج إلى 1200 مليغراما من الكالسيوم لتكون عظامه قوية، أي بمعدل ليتر حليب يوميا، وبالتالي فإن الناس الذين لا يستطيعون تحمل اللاكتوز يجب أن يصابوا بهشاشة العظام، إلا أن ما نراه في الواقع هو العكس، ففي الدول التي يتفشى فيها عارض (عدم تحمل اللاكتوز) تسجل نسب هشاشة عظام أقل من الدول التي لديها نسب الإصابة بعارض (عدم تحمل اللاكتوز) أقل.

كسر العظام والموت المبكر.. أضرار الحليب القاتلة

ترتفع معدلات استهلاك الحليب كثيرا في السويد، حيث نشرت دراسة منذ سنوات تسببت بضجة عالمية، وزعمت أن الأشخاص الذين يشربون الحليب بكثرة لديهم قابلية أكبر لكسر عظامهم، وحتى أنهم يموتون أبكر.

هذه الدراسة قيمت معلومات جُمعت من مئة ألف سويدي من الرجال والنساء، ويبلغون من العمر أكثر من 40 عاما.

ويقول القائم على الدراسة، البروفيسور “كارل ميشالسون” خبير التغذية في جامعة أوبسالا السويدية: وجدنا أن خطر انكسار العظام أعلى بكثير عند النساء وخاصة في منطقة الحوض، وكانت أيضا هناك هشاشة الكسور لدى كبار السن، وتبين أن معدل الوفاة أعلى لدى مستهلكي الحليب بكثرة.

البروفيسور “برنارد فاتزل” ينفي الدراسات التي تشير إلى النتائج السلبية للحليب لأنها تنقصها المصداقية

ويعزو البروفيسور هذا الأمر إلى أثر مادة الغلاكتوز المدمرة، فهي العنصر الرئيسي في سكر الحليب لاكتوز، وتبين أن الحيوانات التي أطعمت بالغلاكتوز شاخت أسرع من غيرها.

ويشرح البروفيسور ذلك قائلا: كميات الغلاكتوز التي أعطيت لهذه الحيوانات تتوافق مع كميات هذه المادة الموجودة في كوبين من الحليب، وتتوافق هذه الدراسة التي أجريت على الحيوانات مع نتائج دراستنا. وقد اكتشفنا أيضا أن ثمة ارتباطا وثيقا بين استهلاك الألبان والأجبان والأغذية المخمرة، وبين تراجع كسر العظام أو الموت، وهذا عكس ما أتت به نتائج الحليب، وتظهر دراستنا أن خطر الإصابة بكسر العظام يزيد لدى كبار السن.

وتقول معاهد التغذية في الدول إنه لا يجب التقليل من استهلاك الحليب كي تبقى العظام سليمة، بل وبقيت ثابتة على موقفها الإيجابي تجاه الحليب.

لكن البروفيسور “جون ميشيل لوسير” -من معهد باستور الفرنسي- يفند الدراسة السويدية بالقول: النساء يستهلكن هناك 600 ميليمتر من الحليب يوميا، أما في فرنسا فيستهلكن 100 ميليمتر فقط، إنهما وضعان مختلفان تماما، ويجب السؤال: كيف يكون الإكثار -وهو بالواقع إفراط- من استهلاك منتجات الحليب مفيدا؟ فالإفراط في أي شيء سيكون دائما غير مفيد.

تعميم الدراسات الفردية.. صراع التجربة الطبية والأرقام الإحصائية

تثير الدراسة السويدية مزيدا من التساؤلات منها: إلى أي مدى يمكن تعميم دراسة فردية؟

يرد البروفيسور “برنارد فاتزل” -من معهد ماكس روبنر الألماني- قائلا: هذا السؤال هو الأساسي، فما هي البيانات التي نملكها لنخرج بدراسة ذات مصداقية؟ ليست كل الدراسات بنفس الجودة، والآن لدينا معايير واضحة وضعها المجتمع العلمي، ويمكن استخدامها لتقييم الدراسات، وإلى أي مدى يمكن الاعتماد على تلك الدراسات؟ وهل هي دراسات رصدية أو تدخلية؟ وهذان نوعان مختلفان من الدارسات، وإذا أخذناهما سويا -أي الدراسات الجامعة- فيمكن أن نقول إن لدينا معلومات مقنعة.

معهد باستور في فرنسا هو مركز بحوث لكنه لا يحصل على التمويل الكافي

ويتابع: أحذر الصحفيين من الاعتماد على دراسة واحدة، فبإمكانك دائما إيجاد دراسة تدعم وجهة نظرك أو تحليلك، لكن هذا ليس صحيحا علميا، بل يجب أخذ كل الجوانب بعين الاعتبار، وهذا فقط ما يتيح لنا تقييم البيانات بتجرد كامل.

إن الأطباء الذين لا يتوافقون مع مدرسة الفكر ولا يشجعون على استخدام الحليب، لا يعتمدون بالعادة على دراسات متعلقة بالتغذية، إنهم يعتمدون على تجاربهم مع مرضاهم، حتى ولو لم يستوف ذلك شروط الدراسة.

ويلفت الدكتور “ليدوخوفسكي” الخبير في مجال التغذية إلى أمر مهم في عالم التجارب، حيث يقول: إذا سألتموني عن الحاجة لدراسات علمية، فسأعطيكم مثالا عن الشقيقة، ليس هناك أي دراسة تثبت علميا وإحصائيا أن هناك أي صنف من الأطعمة له علاقة بهذا المرض، ومع ذلك يظهر من تجربتي وتجربة زملاء آخرين أنني عندما أتناول الشوكولاتة أصاب بالشقيقة، وإن أكلت هذا الصنف من الأطعمة أو ذاك تذهب الشقيقة، لكنني لا أستطيع إثبات ذلك من خلال الإحصاءات والدراسات، وهل هذا يعني أن هذه الملاحظة غير صحيحة رغم أنني على علم بها؟

“لا توجد أي قاعدة علمية لهذه النصيحة”.. تواطؤ المصانع والمعاهد

يرى منتقدو الحليب مشاكل أخرى في بعض الدراسات التي لا تجرى باستقلالية، أو يكون هناك رابط بين المعهد والسوق الصناعي.

ومن بين هؤلاء، الصحفي المتخصص في المجال العلمي “تيري سوكار” الذي يقول: النصيحة الفرنسية الرسمية بتناول ثلاث منتجات حليبية يوميا لا تستند إلى شيء، فلا توجد أي قاعدة علمية لهذه النصيحة، ولكنها تثبت فقط التقارب بين الحكومة الفرنسية -أي الأشخاص الذين يصدرون القرارات عن الغذاء- وبين منتجي مشتقات الحليب، وقد كشفت هذه العلاقة في كتابي، وذكرت الأشخاص المتورطين بالأسماء، ولم يعترض أحد أو يرفع علي دعوى”.

50% من النساء الأمريكيات يعانين من حب الشباب حتى بلوغهن العشرينيات وذلك بسبب شرب الحليب

ويعطي “سوكار” مثالا على ذلك، وهو معهد باستور في مدينة ليل الفرنسية، فالحالة المادية لهذا المعهد ضعيفة جدا، ولهذا يعتمد على المال الذي تدره الصناعة وتحديدا تصنيع منتجات الحليب.

ولم ينفِ البروفيسور “جون ميشيل لوسير” -رئيس قسم التغذية في معهد باستور- حصول المعهد على تمويل “بسيط” من الحكومة مؤكدا أنه يعتمد على “تمويل ذاتي بنسبة 80% وهذا ما ينطبق على معاهد البحوث الأخرى، ففي فرنسا تحصل كل منظمة تعنى بالبحوث على موارد مالية من مصادر عدة كالحكومة والقطاع الخاص، الأمر نفسه لدى الجميع”.

حب الشباب وأمراض العصر.. نظريات طبية متذبذبة

أتى البروفيسور “بودو ميلينك” -طبيب الأمراض الجلدية، والمحاضر في جامعة أوسنابروك الألمانية- بنظرية تسببت ببلبلة كبيرة في الأوساط المهنية، إذ يرى البروفيسور إشارات كيميائية حيوية تؤثر على الجسم، ويرى أن ذلك يسبب أمراضا خطيرة على الصحة.

يقول البروفيسور: بتنا نعرف أن حب الشباب بات يظهر بأعمار صغيرة، حتى أن أطفالا بعمر الثامنة والتاسعة يصابون به، وبات يدوم لوقت أطول، و50% من النساء الأمريكيات يعانين من حب الشباب حتى بلوغهن العشرينيات، وتبقى هذه الحبوب إلى أن يصبحن بعمر الثلاثين.

ويقول “ميلينك”: إن الحليب موضوع مدهش، فقد وصلت إلى أطباء الجلد رسالة في 2008 من مجموعة تعنى بالأمراض الجلدية في جامعة (هارفرد)، ومفادها أن استهلاك الحليب يسبب حب الشباب، وهذا يعني أن الحليب يؤثر بإيعازات معينة في الجسم.

دراسات تشير إلى أن الإكثار من شرب الحليب لدى الكبار يمكن أن تسبب لهم هشاشة العظام

ويواصل: يجب أن ندرك أن للحليب أهمية بارزة، فهو وسيلة حيوية للتنشيط، لكنها ليست مادة غذائية طبيعية، والأحماض الأمينية في الحليب تحفز الكبد على إنتاج هرمون النمو.

ويتحدث عن علاقة الحليب بحب الشباب ونمو غدد أخرى قائلا: عند البلوغ يتنشط الأمر من جديد ويظهر حب الشباب، وربما يشجع نمو غدد أخرى لا نريدها، وهكذا دواليك، إلى أن نصل إلى السكري والبدانة والخرف، كما توجد علاقة وطيدة بين استهلاك الحليب ومرض الباركينسون (الشلل الارتعاشي)، وأمراض العصر لها علاقة بالنمو المفرط التي قد يسببها استهلاك الحليب.

ونصح “ميلينك” بإزالة الحليب المبستر من قائمتنا الغذائية ويوجه نصيحة إلى كل مرضاه قائلا: إذا كان ضروريا شرب الحليب، فليكن الحليب المعالج بالحرارة الفائقة.

“ميلنيك” هو الوحيد الذي يدعم هذه النظرية، فغالبية علماء التغذية يرفضونها، وأحدهم البروفيسور “برنارد فاتزل” من معهد “ماكس روبنر” الألماني، إذ يقول: إن فرضية البروفيسور “ميلينك” مثيرة للاهتمام، ولكنه لا يستطيع تقديم أي أدلة على أرض الواقع.

وهذا يعني أنه ليس هناك أي علاقة بين أمراض العصر واستهلاك الحليب، إلا مرض السرطان الذي لم يتوصل العلماء لرأي حاسم في موضوعه، فتناول الحليب يزيد من مخاطر الإصابة بسرطان البروستات بنسب بسيطة إلا أن الإصابة بسرطان القولون يقل بفضل استخدام الحليب، ولم يجد الباحثون أي علاقة بين الحليب وأي نوع آخر من السرطان.

“جماعة منتقدي الحليب هي من تخوض حربا”.. معارك الخبرة والدراسات

في الختام لا بد أن نعترف بوجود تناقض بين الأحكام المطلقة على الحليب، وأن الدراسات العلمية ليست حاسمة، مما يسبب تذبذبا وارتباكا في الصورة التي يمكن للمستهلك تكوينها.

يجيب الدكتور “ليدوخوفسكي” الخبير في مجال التغذية: من خلال خبرتي الشخصية، فأنا على حق، ربما أسبح عكس التيار، لكنني طبيب مهني، ولست طبيب علاجات بديلة، وليس لدي أي علاقات باطنية، وأعتمد فقط على دراسات قمت بها وخبرات شخصية اكتسبتها.

هذه الخبرة الشخصية تقف في مقابل الدراسات العلمية التي يمثلها البروفيسور “جون ميشيل لوسير” رئيس قسم التغذية في معهد باستور الفرنسي، فقد قال: يجب التمييز بين التغذية والأيديولوجيا، لا يمكنك جعل التغذية مفهوما أخلاقيا، الحليب لا يناسب كل الأشخاص، وهذا أمر طبيعي، وأن تكون الدراسات معقدة ومتناقضة فهذا ليس غريبا، نحن ندرس ونراقب، ولسنا في حرب، وإنما جماعة منتقدي الحليب هي من تخوض حربا.

وقد اجتهد مصنعو الحليب للمحافظة على صورته النقية، ونجحوا في ذلك رغم أنوف المنتقدين وحافظوا على هذه الصورة لدى المستهلكين.

أكن احتراما كبيرا للتسويق الذي استطاع قطاع الحليب القيام به، إنهم خبراء تمكنوا من التأثير على آراء الناس، إنها 30 سنة من غسل الأدمغة.

لا يزال النقاش بين الخبراء مستمرا: حليب أو لا حليب، أظهرت رحلتنا بأن الحليب يستطيع التسبب بمشاكل لم نكن نعلمها، ومع هذا يستفيد البعض من استهلاكهم للحليب، ولا يزال تسبب الحليب بأمراض على نطاق واسع موضع جدال، وفي نهاية المطاف يعود لكل شخص اختيار أي من الخبراء لتصديقه.


إعلان