“بطل من عدم”.. أمّ تصنع من ابنها المعاق طفلا معجزة
لا يمكنك أن تشاهد الفيلم الروائي “بطل من العدم” (Zero to hero) الذي أخرجه “جيمي وان” (2021) وأن تتابع دور الأمّ في نجاح ابنها البارا أولمبي “سو وا واي” دون أن تقفز إلى ذهنك قصة “فيرينيس”.
ففي المصادر التاريخية القديمة أنّ الإغريق حظروا على النساء متابعة الألعاب الأولمبية مذ دخلت قائمتها رياضة المصارعة. ولأن الملابس كانت تعوق المتصارعين وتحول دونهم وعدد من الحركات الضرورية للمنازلة كانوا يتبارون وهم عراة. ففرضت دواعي الحشمة هذا الإقصاء.
ولكنّ فيرينيس خرجت عن هذه التقاليد، فوالدها بطل أولمبي، وأشقاؤها الثلاثة أبطال أولمبيون كذلك، وكان من الطبيعي أن تكرّس حياتها بعد وفاة زوجها لتجعل من ابنها بطلا أولمبيا أسوة بجده وأخواله.
وبالفعل شارك الابن في هذه الألعاب ملاكما شابّا طموحا. ولكن عند فوزه بالبطولة الأولمبية بدرت منها صيحة فرح تلقائية فضحت وجودها بين المدربين، وقد دفعها شوقها لرؤية ابنها يصعد إلى قمة المجد أن تتسلّل إلى منصتهم بعد أن تنكرت في زيّهم. وبسبب خروجها عن التقاليد كادت تلقى حتفها بعد أن أُخذت إلى هاوية قمة جبل كبايون لتُرمى من هناك، ثمّ شفعت لها بطولة والدها وأشقائها ومكانهم باعتبارهم أبطالا أولمبيين حينها.
سينما السيرة الذاتية..أفلام تتحدى شباك التذاكر
ينتمي فيلم “بطل من عدم” إلى جنس أفلام السير الخاصّة، وهو جنس سينمائي يستلهم حياة شخصيات حقيقية فيعمل على تنزيل ما تأتيه من أحداث في محيطها وزمنها الفعليين.
ورغم انتسابها إلى السينما الروائية يحرّض صناع هذا الجنس السينمائي على الأمانة في نقل الأحداث ما أمكن، ويظل البعد التسجيلي أحد أهدافهم المهمة.
ولئن كانت السينما تبحث باستمرار عن النماذج التي تجلب الجمهور للاستفادة منها استثماريا لتحويل ما تنتجه الشاشات من القيم والمشاعر إلى أموال تُدفع عند شباك التذاكر، فقد ظل هذا النمط السينمائي حريصا على غاياته التربوية والتثقيفية والإنسانية. ولذلك كان يركز على عرض سير المشاهير الذين أسهموا في الحياة العامة، وكانت لهم أفضال على الإنسانية.
والمفارقة تكمن هنا، فشخصية الفيلم “التي تسهم في الحياة العامة وتكون صاحبة فضل على الإنسانية” لم تكن غير طفل مريض شاء له القدر أن يولد مصابا باليرقان، وكانت له مضاعفات على عامة جسده، حيث أثر على سمعه وتوازن أطرافه، وقدّر الأطباء أن حظوظه في الحياة ضئيلة.
لكنّ عزيمة الطفل “سو وا واي” ورعاية أمه حوّلاه إلى بطل هونغ كونغ البارا أولمبي الذي يحصل على 12 ميدالية في 5 دورات من بينها 6 ذهبيات و3 فضيات و3 برونزيات. وتكريما له منح شرف حمل المشعل الأولمبي عند مروره بـ”هونغ كونغ” قبل الألعاب الأولمبية 2008 في العاصمة الصينية بكين، ولقّب بالطفل المعجزة من قبل جماهيره. واستمر تألقه العالمي لـ20 سنة أحرز خلالها بطولات أخرى. ولا يزال إلى اليوم يحافظ على الرقمين القياسيين الخاصين بمسابقتي 100 متر و200 متر ذكور. ولم يتقاعد إلا سنة 2016 عن 35 سنة.
بدأ سو وا واي مجده الرياضي عندما انتبه مدرب ألعاب القوى “بو نيكن هيم” إلى قدرته على العدو واستقدمه لفريق الألعاب الموازية. ومن هذا البون بين البداية والطفولة المهدّدة ومعانقة المجد في الشباب وجد المخرج في سيرته مضامين تربوية وإنسانية.
قصة نجاح.. احتفاء بالجسد وتوجيه لقواه
لا يمكننا فهم عمق الفيلم دون العودة إلى روح الألعاب الأولمبية وقد أعيد إحياؤها منذ سنة 1896 وباتت تمثل حدثا رياضيا عالميا يحتفي في عمق فلسفته بالجسد ويوجه طاقته للتعبير عن الإصرار والعزيمة والإرادة والحكمة ولتوحد الإنسانية في إطار متناغم تغيب فيه الفوارق الدينية والأيدولوجية وكل عناصر الفرقة بين البشر.
وهذه القيم هي تحديث لدلالاتها الأولى حتى تناسب العصر. فقد كانت في أصلها الإغريقي تقام عند قمم جبل أولمبيوس المقدس تمجيدا للإله زوس أبي الآلهة والبشر ورب السماء والصواعق. ولطابع القداسة الذي يسمها كانت الرّسل تجوب جميع أنحاء اليونان القديمة والمستعمرات لإعلان الهدنة، وكانت الأيادي ترفع عن السلاح وتعقد هدنة تلقائية مدة جريانها، ومن ثم استمدت رمزيتها للأمن والسلام.
وأنشئت الألعاب البارا أولمبية رسميا في دورة سول عام 1988 لتكون تجمّعا رياضيا دوليا يضم ذوي الاحتياجات الخاصة وينظم مرة كل أربعة أعوام، فيشارك فيها الذين يعانون من إعاقات عضلية أو اختلال في الحركة. واكتسبت دلالات مضاعفة، ففيها تجسيد لإنسانية الإنسان واعتراف من المجتمع بأن الأشخاص أصحاب الهمم لا يتحملون مسؤولية إعاقتهم بقدر ما تتحملها المجموعة. فبعضها ناتج عن حوادث سير أو عن وراثة أو نتيجة للتلوث، وفيها إقرار بأنهم جزء منه، يتمتعون بالحقوق نفسها التي تُمنح لمن يوصفون بالأسوياء.
الأم المثابرة.. حكاية موازية لبطلة تؤمن بابنها
يبدأ الفيلم بمشهد لسو وا واي وهو يتأهب لخوض مسابقة 200 متر من ألعاب بكين 2008، فيجعل من صوت المذيع في الملعب عونا سرديا يقدم مجملا من المعلومات عن مسيرة البطل تدفع المتفرّج للتعاطف معه وتحثه على متابعة السباق بشغف. ثم تأخذنا الكاميرا إلى صوت أمه ليغوص في عمقه. فالمخرج إذن يدعونا عبر هذا الصوت إلى متابعة الأحداث انطلاقا من ذاكرة البطل.
ثم تعود بنا الكاميرا القهقرى لتعرض ملحمة سو وا واي منذ البداية، فقد تعكرت حالته الصحية لتكشف التحاليل أنه مصاب باليرقان الذي أثر على قدرته على الحركة وذهب بما يفوق الـ80% من سمعه. ويقدّر الأطباء مضاعفات كثيرة لذلك إن أسعفه الحظ وبقي على قيد الحياة، منها ضعف تحكمه في عضلاته، وضعف أمله في المشي أو في التعويل على نفسه عند الأكل.
ومع ذلك يظهر الصبي بقدرات خارقة على العدو وينضمّ إلى الاتحاد الرياضي لذوي الاحتياجات الخاصة بهونغ كونغ، فيجد الإحاطة من فونغ مدرب الرياضات البارا أولمبية والتعاون من زملائه في الفريق، ويخرج أقصى قدراته ويشارك في الألعاب البارا أولمبية أطلنطا 1996 ضمن سباق 100متر تناوب، ويسهم بفاعلية في تفوق هونغ كونغ على الفريق الأمريكي والياباني ومنحه أولى ميدالياتها في الألعاب الأولمبية، ثم تتابعت انتصاراته وأرقامه القياسية في دورتي سيدني 2000 وأثينا 2004. ليلقبه إعلام بلاده بالطفل المعجزة ويتحوّل إلى نموذج للتحدّي والنجاح.
وبالموازاة مع سيرة الطفل المعجزة يعرض الفيلم سيرة الأم وهي تكافح لتدفع ابنها نحو تحدي إعاقته. ولعلّنا نذكر مشهدين مؤثرين عينة على دورها في تحويل ابنها إلى بطل من عدم.
فترفض في الأول أن يعامل ابنها معاملة من منطلق الشفقة، وتصيح في وجه بائع العصائر “لماذا تهدي إلى ابني المشروب مجانا؟ لماذا لا تهدي إلى الآخرين مثله”. وتقول لابنها: لا تسمح لأحد أن يعاملك معاملة الشخص العادي، فلتكن شخصا مميزا.
وتدفعه في الثاني إلى المشي دفعا بعد أن طال قعوده، وتضعه على البساط المتحرك الذي يأخذ الملابس إلى آلة الطحن لتثير الرّعب في نفسه وتدفعه إلى الحركة بفعل غريزة حب البقاء بعد أن وبّخها مديرها في العمل عن إهدار وقت المصنع بسبب جلبها لابنها معها. وبالفعل يشرع الطفل في الحركة ليس حبّا في الحياة وإنما تعاطفا مع أمه بعد إحساسه بالذنب وهو يتابع ما تتحمّله من الإهانة بسببه.
وعبر هذه الأحداث يعمل الفيلم على ترسيخ قيمتين: أن في مشاعر الحب علاجا قد لا تقوى عليه الأدوية نفسها، وأنّ حل مشاكلنا لا يكون عبر الانفعال والاستسلام للوجع وإنما في الفعل. لذلك بدأ الطفل ينجح في تحدي إعاقته منذ أن آمنت الأم بقدرته على الحركة والتميّز وأخذته إلى مقر الاتحاد الرياضي لذوي الاحتياجات الخاصة لتضمّه إلى الفريق.
أزمة مالية.. تحد جديد يعصف بمسار الطفل المعجزة
عند إدراك الفيلم لمرحلة الانعطاف المركزي، تلك اللحظة التي تقع في منتصف مدته، يواجه الفتى تحديا جديدا يهدّد بنسف مسيرته كلها. فقد أصيب والده إصابة بالغة سنة 2006 أقعدته عن الحركة ومنعته من إعالة أسرته.
تضع هذه الأزمة الأسرة أمام تحديات جديدة. فقد غدا سو وا واي مطالَبا بإعالة العائلة والعمل لوقت كامل راميا بمستقبله الرياضي خلفه. فيعمل ساعيا للبريد، ويتوقف عن ممارسة الرياضة لسنة ونصف، وتصبح مشاركته في ألعاب بكين 2008 موضع شك.
وفي الآن نفسه تضع هذه المرحلة دور الأم موضع تساؤل، فيتهمها ابنها سو وا واي بأنها تؤكد بحرصها المبالغ فيه إعاقته، فهي لم تعامله مطلقا باعتباره شخصا طبيعيا، ويتهمها ابنها الأصغر بعدم توزيع عنايتها بين طفليها بالعدل. ويكشف الفيلم وجها آخر للأم لطالما عملت على إخفائه؛ وهو وجه المرأة التي تتحمّل قسوة المجتمع تجاهها والتي يحمّلها الجميع مسؤولية إعاقة ابنها ويلقي عليها اللوم.
وما أن تتجاوز العائلة هذه الأزمة عندما تتبنى شركة مختصة في تمثيل الرياضيين الطفل سو وا واي لدى شركات الإعلانات، حتى تطفو أزمة جديدة في الأفق، إذ إن المقابل المادي للعقود بدا للأم مغريا جدا ولا يمكن أن يقارن بما يحصله ابنها من الركض والحصول على البطولات والأرقام القياسية، وفي يوم ما سيحال على التقاعد وسيجد نفسه بلا عائل ومن حقه تأمين حياته ماديّا.
من منظور سينمائي نفهم لماذا توقف المخرج عند سنة 2008 من مسيرة العدّاء، والحال أنها تواصلت حتى 2016 وأن الفيلم أخرج سنة 2021. فقد أراد التركيز على هذه الواقعة وجعلها بؤرة الفيلم، إذ إن الانعطاف المركزي يمثل في البناء النمطي للأفلام مرحلة الشك التي تعود فيها الشخصيات إلى ذاتها لتتأمل ماضيها ولتتراجع عن بعض خياراتها، وفي الآن نفسه ليختبر المتفرّج مدى صلابتها. ورغم شدة المحنة كانت الرغبة في النجاح أقوى من الجميع. فها هو الفتى يعود إلى التدرّب استعدادا لدورة بكين قبل 8 أشهر، ثم نجده بعدئذ على المضمار وليس له من سلاح سوى صوت أمه القادم من الذّاكرة يحثه على التحدّي وشحذ عضلاته بما فيه من الحب بعد أن عز على التدريبات أن تشحذها طاقة.
فيرينيس الآسيوية.. عالم من الرياضات مشحون بالقيم
فيلم “بطل من عدم” ليس سيرة وثائقية لسو وا واي. ولا شك في أن خيال المخرج عمل على ملء الفجوات وركز على الجانب المضيء في حياة البطل ليمنح القصة تسلسلها وقدرتها على التأثير. ولكن ذلك لا يبرر في تقديرنا نزعته إلى المبالغة، فقد سكت عن إسهام أحد الفنّانين في تجاوز محنته عندما منحه عملا يخوّل له التدرب والاستعداد للألعاب.
كما أن أداء الممثل يجعل البطل أقرب إلى المعاق ذهنيا. والعودة إلى الفيديوهات المنشورة لسو وا واي عبر النت تؤكد ذلك.
ورغم قيمته الفنية المتوسطة لم يخل الفيلم من أبعاد إنسانية وهو يجسّد كفاح الأم من أجل جعل ابنها غير الطبيعي طفلا معجزة، فتكون بشكل ما فيرينيس الآسيوية الشرقية، ويصوّر إصرار الابن على رفع التحدي ومواجهة نظرة المجتمع المحبِطة بالعزيمة والتحدي. فيأخذنا إلى عالم الرياضات البارا أولمبية وما وراءها من قيم عميقة وعبر، ويعلي من قيمة الحافز الداخلي والرغبة في النصر في تطوير القدرات الذاتية.