“الفلبين.. أزمة الممرضات”.. بلد يصدّر ملائكة الرحمة للعالم ويحرم نفسه

توفر الفلبين للعالم موردا نادرا منذ أكثر من نصف قرن، إنهن الممرضات البارعات، ولكن هذا البلد الفقير كثيف السكان يعاني من نقص هذه العملة النادرة التي يقدمها للعالم، فقد كشفت جائحة كورونا مدى الفقر الذي تعيشة الدولة على المستوى الصحي، وعن سوء الإدارة والتوزيع الذي تعانيه المقاطعات والأقاليم البعيدة عن العاصمة.

يقدم هذا الفيلم الذي عرضته الجزيرة تحت عنوان “الفلبين.. أزمة الممرضات”، صورة بائسة عن الحال التي تردّى إليها القطاع الصحي في الفلبين، والمستوى المتدني من الاهتمام الذي توليه الحكومة للرعاية الصحية، ومدى الإهمال الذي تعاني منه الكوادر الصحية، وخصوصا الممرضات.

“لا نستطيع إرسال ممرضاتنا إلى الخارج”.. سجن في الوطن

في مارس/آذار 2020 سجلت الفلبين أول حالة كورونا، وفرض حظر التجول على 12 مليون إنسان في العاصمة لكبح جماح الفيروس، ودخلت البلاد حالة طوارئ. وفي أبريل/نيسان 2020 حظرت الحكومة الفلبينية إرسال العمالة إلى الخارج، منهية بذلك أحلام الممرضات اللاتي أمسين غير قادرات على مغادرة البلاد والعمل خارجها.

“شارمين” واحدة من الممرضات اللواتي فقدن وظائفهن في الخارج وعدن إلى الوطن

تقول الممرضة “شارمين”: “كان عمري 21 عندما عملت 4 سنوات في مدينة أبها بالسعودية، كان عصيبا أنْ ابتعدت عن والديَّ كل هذا الوقت، وعانيت من الحنين للوطن، وأعلم أن ما أجنيه هنا ليس متاحا ببلادي، واضطررت للعودة للفلبين بعد أن أغلقت عيادة أبها بسبب كورونا ولم تجدد إقامتي، وأنا الآن عالقة في وطني بسبب الحظر، رغم العروض أتلقاها من الخارج.

“شارمين” ليست الوحيدة، فقد عانت آلاف الممرضات من تبعات الحظر، فابتكرن مصطلح “الممرضات السجينات”، فبعد أن فقدن وظائفهن ومصادر دخلهن، طالبن بإجابات من الحكومة، وأجبرت هذه الاحتجاجات وزير العمل على عقد عدة لقاءات عن بُعد مع نقابات العاملين في القطاع الصحي، فالقطاع الصحي في البلاد يحتاج 23 ألف موظف على الأقل.

ويعلق وزير العمل قائلا: لدينا 150 ألف إصابة، ولا نستطيع إرسال ممرضاتنا للخارج، ونحن بحاجة إليهن أكثر من أي وقت مضى.

موظفو القطاع التمريضي يقيمون إضرابا ضد تدني الأجور ومنعهم من السفر خارجا

أما ممثلو القطاع الصحي فهم يصرخون: نظام الرعاية الصحية متهالك ويعاني نقص الموارد، والأطباء يحذرون من انهيار وشيك، لأن تفشي الجائحة يقتضي إصابة بعض الكوادر الصحية بالفيروس ووجوب عزلها، ونحن بحاجة لثلاثة أضعاف عدد الموظفين، فقد طال الوقت علينا كثيرا، ونحن نفقد بيوتنا، وقد خسرنا مصدر رزقنا.

ولكن لماذا تمتنع الممرضات من العمل في الفلبين؟

رواتب العمل.. فقر في الوطن وثروة مضاعفة في المهجر

تتحدث “ياسمين” وهي دكتورة علم الاجتماع عن أسباب عزوف الممرضات عن العمل في الفلبين قائلة: نحن ندرس حالة الممرضات وهجرتهن منذ 10 سنوات، ومن خلال المقابلات مع الممرضات المتضررات من الحظر، وجدت أن الممرضة تحتاج 10 سنوات لتتأهل للعمل بالخارج، فشهادة التمريض تكلف الكثير، فعليها اجتياز اختبار المجلس التمريضي، والحصول على خبرة عامين لتصبح مؤهلة للعمل الخارجي، إنهن يدفعن النقود لتقديم امتحانات كثيرة كامتحان اللغة، وكل هذه الوثائق لها تاريخ انتهاء وعليهن البدء من الصفر إذا انتهت الصلاحية، وهذه مضيعة للوقت والمال.

شهادات جامعية وشهادات لغة وخبرة لا تقل عن سنتين تلزم الممرضات كي يسافرن إلى الخارج

وتقدم الدول الغربية رواتب للممرضات تفوق أضعاف الراتب الذي يتقاضينه بالفلبين، ففي ألمانيا يدفع لهن 2400 دولار شهريا، وفي بريطانيا 3000 دولار، وفي أمريكا مع ساعات إضافية قد يصل الراتب إلى 8000 دولار، فالفرق هائل، أكثر من 10 أضعاف رواتب الفلبين. ونظرا للفرق الكبير في الدخل فإن 40% من الممرضات يفضلن العمل في الخارج.

ويقول وزير العمل: إذا سمحنا للممرضات بالخروج فلن يبقى سوى المستجدات اللاتي لا يملكن الخبرة، ونحن في المركز العالمي الـ22 في أعداد الإصابات، والوطن قبل كل شيء، ولدينا شواغر في الوطن، ويجب أن يكون خيارهن الأول.

أعداد قليلة من الكوادر التمريضية تتوافر في مستشفيات الفلبين، لأن أكثرهن يسافرن إلى الخارج

ورغم استحالة السفر، تصر الممرضات المؤهلات على العمل خارج البلاد، لأنهن لن يحققن الدخل الذي يردنه، فهذه “شارمين” تقول: لدي 3 إخوة على مقاعد الدراسة، وهدفي السفر، ولن يتغير، لقد خدمتُ الفلبين طويلا ولم نحصل على حقوقنا، حتى مع قلّتها.

وتقول د. “ياسمين”: حتى لو لم يستطعن السفر فلن يعدن إلى المستشفيات، إنهن منهكات، إنهن يعملن في مراكز الاتصال، وعلى الحكومة استقطاب الممرضات اللاتي تخلين عن المهنة؛ برواتب مجزية ومزايا مناسبة وعلاوة المخاطر.

دعم الحكومة.. حقوق زهيدة يتخطفها الفساد والاحتيال

في وسط العاصمة وقفة احتجاجية للممرضات، تقول إحداهن: هذه الحكومة تقتلنا، نحن سنموت جوعا، لقد عملنا في الصحة وتعرضنا للخطر، وأنتم تحرموننا من أجورنا وعلاواتنا، ارفعوا أجورنا، لقد صبرنا طويلا، لن نتوقف عن ملاحقتكم، ارفعوا أجورنا، تقولون إننا أبطال، لكنكم تهينوننا.

ويطالبن براتب الشريحة الـ15، وهو راتب متوسط يبلغ 680 دولار كحد أدنى طبقا لقانون التمريض، لكن منذ 18 عاما تُعيَّن الممرضات على المرتبة الـ11 براتب 490 دولارا، أي أقل بـ30% من استحقاقهن، والمشكلة دائما نقص الأموال، فأكثر المشاريع لم يخصص لها التمويل اللازم، وموازنة وزارة الصحة ثابتة منذ أواخر التسعينيات.

“بولين” ممرضة في مستشفى حكومي تتناوب هي وزميلتان لها في المستشفى لعدم وجود كادر تمريضي كاف

وهذه “بولين” ممرضة في مستشفى حكومي دخلها 13 دولار يوميا، وهو يزيد 3 دولارات فقط عن الحد الأدنى للأجور، تقول: اخترت البقاء للعمل في الفلبين، لقد رأيت المرضى وهم يتوسلون إلي، فنحن نتعامل مع أشد الناس فقرا، فهم لا يملكون المال لشراء الدواء أو التنقل، فاخترت سبيل الخدمة، وعملي لا يقتصر على تنفيذ أوامر الطبيب وإزالة مخلفات المرضى، فنحن نحافظ على كرامتهم أيضا، وندفع من جيوبنا رغم غرقنا في الديون. وهذا منزل شقيقتي التي لم تتوانَ عن مساندتنا، فهي تساعد في سداد الفواتير والإيجار، لقد ساعدتنا وخففت من أعبائنا.

وقع زوج “بولين” ضحية خفض النفقات مؤخرا، فاضطرت للبحث عن مصادر أخرى للدخل، فبدأت بتجارة الإنترنت، إذ تبيع بعض القطع البلاستيكية علها ترفع دخلها قليلا. علما بأن أسرة تتكون من 5 أفراد بحاجة إلى 20 دولار يوميا على الأقل.

تتاجر الممرضة  “بولين” بالبلاستيكيات كي توفر لأسرتها الطعام الذي يعجز عن سداده راتب الحكومة

وقد خصصت الحكومة 10 دولارات يوميا لتشجيع الممرضين الذين يعملون في الخطوط الأمامية لدفع الجائحة، ورغم ذلك ومع مرور 8 أشهر من صدور ذلك الأمر التنفيذي، فما زالت تلوح في الأفق نذر الخطر، فهنالك 16,764 عاملا في القطاع الصحي لم يحصلوا على علاوة المخاطر، إنه احتيال صريح، وهم يخادعون الممرضات.

قانون اللامركزية.. توزيع جائر يجافي معايير العدالة

الفلبين هي أكبر الدول المصدرة للممرضين، لكنها تعاني من أدنى مستوى عمالة تمريض جنوب شرق آسيا، وتعاني المناطق النائية فيها من نقص حاد في الكوادر التمريضية، فنسبة الممرضات في الفلبين واحدة لكل 5 آلاف نسمة، وفي المناطق النائية مثل إيتوغون فهي واحدة لكل 20 ألف نسمة.

تعمل “دارلين” في مستشفى صغير في إيتوغون منذ 10 سنوات، والصيدلية ليس فيها صيدلي، وتضطر الممرضات لصرف الدواء، و”دارلين” هي وحدها الممرضة العاملة لهذا اليوم، وتعمل في المستشفى 6 ممرضات على مدار الأسبوع، وهو عدد لا يكفي لثلاث مناوَبات يوميا. وهي تعمل أيضا في منشأة ميدانية مؤقتة لعزل مصابي كوفيد-19، ولا يمكنها رفض إدخال أي مريض مهما بلغ العدد، فهذا واجبها الإنساني.

مستلزمات الوقاية الطبية توفرها بعض المؤسسات غير الحكومية لعدم كفاية الميزانية الطبية المقدمة من الحكومة

وذكرت دراسة في 2018، أن 75% من المنشآت الطبية المحلية تعاني نقصا في الكوادر الصحية، وفي المقابل فبعض المقاطعات استطاعت تأمين نسبة مُرْضية من الممرضات.

مقاطعة باسيغ بالعاصمة مانيلا استطاعت تأمين ممرضة لكل ألف نسمة، ولأن الجائحة تفرض عدم تكدّس المرضى في المستشفيات، فلديهم مركز قيادة لتلقي الاتصالات وتصنيف الحالات؛ بين حرجة وغير طارئة، وهذا المركز جزء من مخصصات المقاطعة للرعاية الصحية، ووظّف كذلك 70 ممرضة للعمل في مركز القيادة، بعضهن للمكالمات الواردة، ويوجهن المصابين إلى وحدات العلاج المعنية، وقد عُيّنت ممرضات لمرافقة المرضى في سيارات الإسعاف، وممرضات مناوبات في منطقة الحجر الصحي.

لكن نسب الممرضات متفاوتة في المقاطعات المختلفة نتيجة قانون اللامركزية لعام 1991، فقد نقل الصلاحيات من الحكومة المركزية إلى 3000 حكومة محلية، بما فيها الرعاية الصحية، أي أن كل حكومة تحدد أجور وعدد الممرضات اللاتي سيوظفن، وتنفق الميزانية حسب أولوياتها الخاصة، ونظرا لسوء الحظ لم تنل الرعاية الصحية التمويل اللازم، وكشفت الجائحة ذلك النقص وسوء توزيع الموازنة.

وخصصت الحكومة المركزية 9.8 مليار دولار لمواجهة الجائحة، وخصص منها 277 مليونا لزيادة رواتب العاملين في الخطوط الأمامية، ولكن هنالك 16,764 عاملا في القطاع الصحي لم يحصلوا على علاوة الخطر، وتلقي وزارة الصحة اللوم على اللامركزية في الرعاية الصحية.

“تيريزا”.. اشترت القناع من مالها وقتلها الفيروس

تواصل الممرضات عملهن بإخلاص وإصرار بينما تواصل الحكومة إهمالهن، إنه شيء محبط، فلا أحد يعرف أين تذهب أموال دافعي الضرائب، وتجب مساءلة الحكومة التي تدعي أن لديها ما يكفي من اللوازم الطبية وهذا كذب، لأن الممرضات يرسَلن للخطوط الأمامية بلا وقاية، ويعملن عدة مناوبات في اليوم الواحد، وبعضهن أصبن بالفيروس لنقص مستلزمات الوقاية.

الممرضة “تيريزا” ضحية من ضحايا الإهمال المؤسسي في المستشفى الذي كانت تعمل فيه

ففي مارس/آذار 2020 أعلن الرئيس الفلبيني توفير مليون أداة وقائية بالتعاون مع القطاع الخاص، وبعد 4 شهور نفذت الممرضات مظاهرة صامتة لتجديد مطالباتهن بتوفير مستلزمات الوقاية. يقول وزير الصحة إن كافة المستلزمات متوفرة، وما عليكم سوى طلبها بالطريقة الصحيحة من خلال المستشفى، بينما يصر ممثلو القطاع الصحي أن الواقع لا يتطابق مع تصريحات الوزير.

ويلجأ العاملون للمؤسسات العامة والخاصة لتوفير متطلبات الوقاية الشخصية، وقد لجأوا إلى وسائل التواصل لجمع التبرعات، بل إن بعض الممرضات اضطررن لشرائها من مالهن الخاص. و”تيريزا” واحدة منهن، وقد أخبرت رئيسها أنها تشكو من أعراض كورونا، لكنه لم يعر الأمر اهتماما، وصارت تعاني من صعوبة التنفس، وفي اليوم الخامس توفيت المسكينة، وبعد وفاتها تأكد الطاقم أنها كانت مصابة بالفيروس.

منذ مارس/آذار 2020 توفي 82 عاملا في القطاع الصحي أثناء تأدية واجبهم

وها هي ذي ابنتها بصدد رفع دعوى ضد مدير المستشفى الذي لم يقم بالفحوصات اللازمة للتأكد من إصابتها، ولم يوفر لها مستلزمات الوقاية الشخصية. والأنكى أنها حصلت بعد وفاتها على ما يعادل دولارا واحدا علاوة المخاطر، بدل العشرة دولارات التي وعدت بها الحكومة، فهل هذه هي قيمة الممرض في بلاده؟

ومنذ مارس/آذار 2020 توفي 82 عاملا في القطاع الصحي أثناء تأدية واجبهم، وتشكل إصابات القطاع الصحي 13% من مجموع إصابات الفلبين، بينما لا تتجاوز النسبة 3% في البلدان الأخرى.

“أشعر بالحزن على أطفالي وأسرتي”

ترى “بولين” أنها محظوظة لأنها ما زالت على قيد الحياة بعد ستة شهور قضتها في مواطن حجر كورونا، ولم تعد خلالها لبيتها، حتى لا يتعرض أطفالها وأهلها للعدوى بسببها. تقول: لماذا أتعرض لكل هذا الأذى مقابل دولارات معدودة؟ أشعر بالحزن على أطفالي وأسرتي.

الفرحة تغمر وجوه الممرضات بعد قرار السماح لهن بالتعاقد مع دول الخارج

في 2019 قضت المحكمة العليا بصرف راتب الدرجة الـ15 للممرضات، لكن تنفيذ وزارة الصحة للحكم كان دون التوقعات كثيرا، فبدلا من رفع مخصصات وزارة الصحة الفلبينية نتيجة الجائحة، أسوة بالدول المجاورة، عمدت الحكومة إلى تخفيض موازنة الصحة بمبلغ 800 مليون دولار في موازنة 2021، وتخفيض عدد الممرضات، وعدم تجديد عقود أكثر من 2300 ممرضة. ببساطة، الممرضة ليست ذات قيمة للحكومة.

وبعد 9 شهور بلا عمل منذ عودتها من السعودية، حصلت “شارمين” أخيرا على وظيفة خارجية حين رفعت الحكومة حظر السفر، بعد احتجاجات متواصلة للممرضات. أما “بولين” التي خدمت بلادها 14 عاما دون طائل، فقد قررت أن تنتبه لأسرتها الآن، ولتعليم أطفالها الذين تخشى عليهم من سوء مستوى التعليم، وقررت البحث عن وظيفة في الخارج.

حان الوقت كي تدرك الحكومة أنها أساءت معاملة هذه الشريحة من المهنيين، وأن الوطن في حاجة ماسة إليهم، ويجب أن تستجيب الحكومة لمطالبهم، فهل يتحقق تغييرٌ طويل الأجل بعد انتهاء الجائحة؟