“الاستشفاء بالطبيعة”.. علاج يمسح آلام الروح في أحضان الغابات
جَمالُ الطَبيعَةِ في أُفقِها
تَجَلّى عَلى عَرشِهِ وَاِستَوى
فَقُل لِلحَزينِ وَقُل لِلعَليلِ
وَقُل للمَلول هُناكَ الدَوا
هذا ما أدركه الشاعر حافظ إبراهيم قبل سنوات كثيرة، عن قدرة الطبيعة وسطوتها المجانية تجاه زائريها، الآن وبعد توالي الأزمنة وتعاقب مرورها، تطفو من جديد تلك الأنباء المدعومة بالأبحاث العلمية، عن مدى تأثير العناصر البيئية الطبيعية على النفس الإنسانية، مما يظهر قدرتها على المساعدة على تحرير الجسد من عنفوان الشوائب المرضية التي علقت به.
ترى هل تحوي الطبيعة بين ثناياها تلك المقدرة الحقيقية على الاستشفاء؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، هنا لا بد أن يستدعى السؤال التالي من قائمة الانتظار، ألا وهو لماذا لا يلجأ الأطباء إلى الطبيعة، ويتخذونها دواء استشفائيا يمنح السكينة بعد الألم؟
تكمن الإجابة عن الأسئلة السابقة في الفيلم الوثائقي “الاستشفاء بالطبيعة”، الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية، وهو يشق الفيلم هذه الأفكار دون مواربة، عبر طرح المناوشات العلمية المثارة في هذا الشأن على قارعة الفيلم، في إطاره الزمني البالغ نحو 50 دقيقة، لكنه -على قصره النسبي- مكتنز بغبار التساؤلات، التي تنبثق منها الفكرة تلو الأخرى.
يبدو الفيلم مهموما بفرضية علمية، قد تبدو مغايرة عن المألوف، وهي العلاج بالطبيعة، بما تملكه من مقومات ذاتية القدرة على الاستشفاء، وهذا ما تيقن منه الأقدمون بطريقة أو بأخرى، أما في واقعنا اليوم، فقد بدأ تداول الفكرة ينطلق من أسر الاستحياء المستتر، إلى رحابة الممارسة والتجربة على نطاقات أوسع وأشمل.
هذا ما يقدمه الفيلم في مستواه الأول الظاهري، أما في الباطن، فالانشغال بما هو أعمق يُغزل على مهل، بين سطور السرد المتشعب الأرجاء، فالمقارنة الضمنية بين الحياة في المدن الحضرية، وبين ما يقابلها من حياة بدائية بين جدران الطبيعة التي لا حدود لاتساعها، تشكل الهوية الفكرية للفيلم.
ففي السنوات الماضية، انطلقت النظريات والدراسات العلمية المعنية بقدرات الطبيعة على المساعدة في الاستشفاء، فالجامعات والمعاهد التعليمية قد أنشأت أقساما متخصصة في هذا المجال غير المطروق، ومن ثم تصاعدت أعداد الأبحاث الميدانية، وتباينت اتجاهاتها، لكن جميعها اشترك في بؤرة اهتمام لا تحيد عنها، تنحصر في فلك السؤال التالي، هل يمكن قياس الأثر الفعلي للطبيعة على الجسد الإنساني؟
استنطاق الأمكنة.. خيوط السرد الموزعة على أرجاء الكوكب
يعرض الفيلم أشجارا كثيفة الأوراق متداخلة، ثم تتسع زاوية الرؤية، فتظهر في الناحية المقابلة أشجار راسخة القوام، ومن بين جذوعها المتينة تسير جداول الماء المنسابة برقة، هكذا يبدأ الفيلم بهذا المشهد الذي يؤسس ويصلح مدخلا للأفكار المطمورة في النسيج العام للفيلم.
ثم يرافقنا التعليق الصوتي لينبئنا بظهور أنظمة علاجية حديثة المنشأ على الساحة الطبية، تدور جداولها حول قوة الطبيعة المكنونة في الغابات والبحيرات والجبال، وقدرتها على تحسين الحالة المزاجية وتطوير الحوافز الإبداعية، استنادا للمبدأ المتوارث عن السعادة الممنوحة للإنسان، عند زيارته للمناطق المؤهلة بالطبيعة.
فقد اختار السرد أن يبدأ مباشرة في جوهر مضمون الفيلم، دون تقديم تمهيد مبدئي للأفكار المطروحة، معتمدا على التدفق اللاحق للمعلومات، وبذلك يمكن بناء علاقة تفاعلية مع المتفرج، وستتوطد ركائز تلك العلاقة بمرور الوقت وانسيابه المدجج بالأفكار والتساؤلات عن ماهية الطبيعة ومدى قدرتها الخفية، على مد أيادي العون والدعم إلى من يبحثون عن ملاذ آمن لنفوسهم الممسوسة بالأحزان.
ولأن الفكرة التي يقوم عليها بناء الفيلم، تتمحور حول افتراضات علمية تحتاج للإثبات، إلى حين الوصول لمرفأ التسليم بالنتيجة، فلا بد إذن من تفعيل خواص التجربة والخطأ، لذا يلجأ الفيلم إلى الاستعانة بتجارب أخرى جرت وقائعها في أماكن متعددة من عالمنا، وهنا نتعرف على كاتبة صحفية ذات اهتمامات بيئية وطبيعية، فتصبح دليلنا المصاحب طوال مدة الفيلم، فالتعليق الصوتي يتبنى وجهة نظرها ويعرضها بوضوح وجلاء، وينتقل معها من هذه البلاد إلى تلك، سعيا للاكتشاف، وبحثا عن المزيد من النتائج.
وبذلك يمكن القول إن البناء الفيلمي يقوم على ستة أعمدة مكانية، كل من هذه الأمكنة يضيف خيطا جديدا إلى الإطار العام، وهكذا في متوالية محكمة البناء، بداية من اليابان التي هي حجر الأساس في هذه المصفوفة، ومرورا بالشمال والغرب الأوروبي فرنسا والسويد وبلجيكا، ووصولا إلى الولايات المتحدة وجارتها كندا، حيث ينتقل السرد من هذا المكان إلى ذاك بحريّة وحيوية، وكل خطوة في هذه الرحلة الشيقة، تحوي بين جعبتها ما لذ وطاب من أطياف التساؤلات، الساعية للوصول للجانب المقابل الفائض بالإجابات.
سلاح الدفاع الطبيعي.. مواد تحيي الإنسان وتقتل الغزاة
يبدأ الفيلم محطته الأولى من اليابان، وتحديدا من غابة هينوهارا الواقعة في العاصمة طوكيو، ويطلعنا على الأنظمة العلاجية المعتمدة هنالك، فهي تتخذ الطبيعة دواء مكتمل الخواص العلاجية، فقد شرعت الحكومة الوطنية في بناء نحو 60 موقعا علاجيا في الغابات، تستند جميعها إلى نظرية الاستجمام في الطبيعة، أو ما يطلق عليه “شينرين يوكو”، تُرى ما هذا التكنيك العلاجي؟ وهل أثبت جدواه الطبية في الاستشفاء؟
في هذا السياق تصحبنا الكاميرا في جولة حرة مع البروفيسور “تشينغ لي”، وهو أخصائي المناعة بكلية “نيبون” للطب، فيحدثنا عن النظريات المؤسسة التي تكشف ما تكنه الغابات من قدرات لا نهائية على الاستشفاء، بالاندماج والتفاعل بين الطبيعة والحواس الخمس الممنوحة للإنسان، لكن كيف تساعد هذه المحتويات الطبيعية على الشفاء؟
الواقع أن الجلوس بالقرب من الأشجار، يمكّنها من بث موائدها غير المحسوسة تجاه الكائنات المحيطة، مع أنها ترى أن ما يحيط بها ما هم إلا أعداء محتملون، مثل نقار الخشب أو الحشرات الغازية لجذوعها الممتدة، عندها تطلق الأشجار هذه المواد الدفاعية، لحماية ذاتها من الهجمات المنتظرة، فما يعد سلاحا فتاكا ضد الكائنات الأخرى، يصبح لدى الإنسان سببا للشفاء والراحة.
لكن الأكثر إثارة للدهشة، هو ما تملكه هذه المواد المنتجة ذاتيا من قوة لا يستهان بقدرتها على مواجهة الخلايا السرطانية، لذا يعمد نظام الاستجمام في الطبيعة إلى المكوث ما بين ثلاثة أيام وليلتين في رحاب الغابات، حينها سيتعزز النظام المناعي الإنساني، بل سيدوم هذا الأثر لفترة لا بأس بها بعد ذلك.
وهنا يزيح التعليق الصوتي الستار عن القدرة المذهلة للغابات في السيطرة على مواطن التوتر المتولدة تلقائيا بفعل ضغوط الحياة، فالنشاط الدماغي يهبط إلى أدنى معدلاته المتوقعة، أثناء فترات الاسترخاء بين أحضان الطبيعة، لكن محفزات هذه الأنشطة العقلية تزداد عندما ينتقل صاحبها إلى مكان آخر، يمثل الضجيج فيه ركنا أساسيا من مضمونه وتكوينه الذاتي.
حياة الإنسان الأول.. مقارنة خفية بين الطبيعة والمدينة
في لقطات بانورامية، نرى أفواجا مكدسة من البشر يعبرون طريق ما، في حين تنتظر السيارات دورها في المرور، تصحبنا الكاميرا في جولة سريعة إلى طوكيو، فالزحام والتكدس المروي والبشري سمة مسيطرة وغالبة في هذه المدينة القديمة مضمونا والحديثة شكلا، ليس هذا فحسب، بل إن البنايات المرتفعة القوام والفاقدة للذوق المعماري، تساهم أيضا في رسم لوحة سريالية للحياة في المدن الحديثة.
ثم ينبئنا التعليق قائلا، إن اليابان قد انتقلت في غضون بضعة عقود، من بيئة بدائية تجنح نحو الزراعة، إلى مجتمع صناعي حضاري، وهنا نستطيع قراءة معايير هذا التحول الجذري بين سطور السرد، فقد حدثت معضلات هذا التحول بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد إتمام السيطرة الأمريكية على مفاصل المجتمع والاقتصاد الياباني، عندئذ تبدل النمط المعيشي، واستنسخ من الحياة الغربية أسلوبا مشابها.
وعند هذه النقطة نصل إلى ما يرغب الفيلم في قوله والتعبير عنه، وهو المقارنة المستترة بين الحياة على الهامش في الغابات وأحضان الطبيعة، وما يقابل هذا النمط المعيشي من حياة أخرى تقبع في أسر المدن الحداثية، ترى ما هو الفارق بين هذه الحياة وتلك؟
أظهرت الأبحاث أن الإشارات الدماغية تتخذ أوضاعا متحفزة ومتقلبة، كلما تعرضت لمؤشرات الضجيج والزحام، فالإنسان -بحكم تكوينه الجيني المتعمق الجذور في كوكب الأرض- يميل إلى الحياة البرية، وما يجري من إيقاعات متسارعة للحياة يعدّ تدجينا للفرد، وفق مناهج مقصودة أو عفوية، لإرساء قواعد حياة مغايرة عن الفطرة، وما تعارف عليه الإنسان الأول، وتوارثته الأجيال الأحداث لا إراديا.
أما الحياة الأخرى التي اعتمدها الإنسان الأول، فهي قابعة في ربوع الغابات، وفي البعد عن مصادر الزحام والضجيج، فهما يساهمان بدرجة ملحوظة في ارتفاع منسوب الأمراض النفسية والعقلية، فالمؤثرات الدماغية تستكين بأريحية أثناء مكوث الإنسان في المناطق الطبيعية.
ومن ثم يعقد الفيلم على طول السرد تلك المقارنة المستترة، بين هذا العالم وذاك، في تعبير بليغ عن تضاد عوالم الفطرة مع النمط الحداثي للمعيشة، الذي يضع الإنسان فريسة سهلة المنال، للوقوع في براثن الأمراض وما يماثلها من معوقات نفسية، لا مناص ولا فكاك من أسرها، إلا بالعودة مجددا إلى الطبيعة.
أمومة الطبيعة.. عناق دافئ يمسح آلام الروح
يعرض الفيلم متسعا صحراويا يفيض بالبياض الثلجي، وفي الحواف الجانبية ترتكز جذوع الأشجار الباسقة، تتدلى منها أغصان خالية من الأوراق الخضراء، فالطقس شتوي قارس البرودة، لكن طاقته الحيوية والنفسية ما تزال تعمل بجدارة، فقد انتقلت الكاميرا هذه المرة إلى شمال أوروبا، فحلت ضيفا على غابة “أوبسالا” في السويد، بحثا عن إجابة شافية للتساؤلات المنطقية عن جدوى محاربة الطبيعة للإرهاق العقلي.
في هذا الشق من الفيلم نلتقي مع “تيري هارتيغ” بروفيسور علم النفس البيئي، وتشير مداخلته إلى اختلاف البيئات الطبيعية في أوروبا عن غيرها من المناطق المماثلة في العالم، فلكل بقعة نمطها الطبيعي الذي قد يختلف من مكان لآخر، بحسب ما وهبه الله من محتويات بيئية.
ففي السويد تمثل المساحات البيضاء المغطاة بالندف الثلجية محمية طبيعية، تكفل الراحة والأمان النفسي، كغيرها من المحميات الأخرى المزدهرة الاخضرار، فلا ميزة تنافسية بين غابة وأخرى، فالكل متساوٍ في عطائه.
وقد بطّن الفيلم في نسيجه السردي، تلك الفكرة التقليدية عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، لكن التناول هنا يتباين عما نعرفه من أفلام سابقة، فإذا كانت المحاور المعتاد تناولها، تنحصر في العلاقة الشائكة بين الإنسان والبيئة المحيطة، فهنا يُبلور البناء العام للفيلم رؤية مغايرة، تتبنى وجهة النظر المقابلة، حيث الطبيعة، وما تملكه من ثروات وقدرات استشفائية، قد لا ندرك قوتها الكافية بعد.
فالقدرة السحرية للغابات على إزاحة التوتر، والمساعدة الثمينة للذاكرة والمناعة الذاتية، تصبغ علاقة الطبيعة بالإنسان، بأمومة واضحة دلالتها، ولا يوجد ما هو أقوى تأثيرا من زيارة الفرد المبتلى في روحه إلى الطبيعة، والعودة خالي الوفاض من الحزن، وهذه إحدى الأفكار الرمزية المبطنة عن قوة البيئة الطبيعية في علاج ما استعصى على العقاقير الطبية إصلاحه.
مجابهة الاكتئاب والتوحد.. ثمار الاحتكاك ببنات الطبيعة
من الشمال الأوروبي نتجه غربا نحو الشمال الأمريكي، فقد قررت الكاميرا أن تصحبنا في جولة حرة في المساحات الخضراء الملحقة بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة، حيث تجرى الدراسات والأبحاث الأكاديمية عن العلاقة بين الطبيعة والصحة العامة، فيخبرنا السرد بأن فريقا من الباحثين توصلوا عام 2015، إلى أن الطبيعة قادرة على التخفيف من وتيرة الاجترار الداخلي، الذي يعد منبع الاكتئاب النفسي.
وفي هذا الإطار نلتقي أستاذة علوم البيئة “غريتشن ديلي”، فتؤكد بأبحاثها العلمية ما تكنّه الطبيعة من مقومات ذاتية، تؤثر مباشرة على الوظائف الحيوية للإنسان، وتمتد هذه التأثيرات إلى أساليب المعيشة والأمن الاقتصادي، فجميعها مرتبطة برباط الصحة النفسية، ومن ثم يطرأ سؤال مشروع عن الأضرار المحتملة الناشئة في ضوء الابتعاد عن الطبيعة؟
تلاحقنا الإجابة من اتجاهات عدة، تتركز نقطة البداية في الزيادة الدورية في اضطرابات القلق، وما يرافقها من اكتئاب وضعف التركيز، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الأخطار قد تتلامس مع الصحة العقلية بمنتهى السهولة واليسر.
وهنا يشير البروفيسور “أندرياس ماير ليندنبيرغ” مدير المعهد المركزي للصحة العقلية، إلى العواقب المنتظرة نتيجةً تلقائية للابتعاد عن الطبيعة، لذا يقدم في حديثه نصيحة إلى مخططي المدن الحديثة، يمكن من خلالها تحسين الصحة العقلية، وهي زيادة المساحات الخضراء أثناء التخطيط العام لهذه النماذج المعيشية.
ولا تتوقف فوائد الطبيعة على مجابهة الاكتئاب فقط، لكن من الممكن الاستعانة بهذه الهِبات لتدعيم الأساليب العلاجية لأمراض التوحد، وهذا ما استطاعت تطويره الممرضة البستانية “آن ريبيس” من جمعية “بيلي بلانتس” في العاصمة الفرنسية باريس، فقد سعت بوسائلها المتاحة إلى تأسيس حديقة علمية، يلتقي في ربوعها أطفال مرضى التوحد، وبممارستهم تقنيات الزراعة اليدوية، يكتسبون مهارات جديدة للاحتكاك مع العالم الخارجي.
فهذا العالم المحيط يساهم كذلك في ارتفاع مؤشرات نسب الشفاء، فبعد التجارب السريرية التي أجراها البروفيسور “روجر أولريش” أستاذ الهندسة المعمارية لدى جامعة “شالمرز” للتكنولوجيا، تيقن بعد مراجعة النتائج الطبية لمرضى أقسام الجراحة في مستشفى بنسلفانيا، أن المرضى حين يزداد نطاق رؤيتهم للمناظر الطبيعية، فإن درجة شفائهم تفوق غيرهم بالمقارنة مع المرضى الآخرين، الذين تحاصر نوافذ شرفاتهم بقوالب الطوب المصمتة، في إشارة لا تقبل الشك، عن التأثير المتنامي للابتعاد عن مواطن الطبيعة.
عطايا الطبيعة.. مِنح نفيسة تبحث عن مستحقيها
من أطنان المعلومات التي يقدمها الفيلم للمتفرج، يبقى السؤال الأهم، عن ماهية الروابط الداخلية والخارجية التي تربط بين الإنسان والعناصر الطبيعية؟ وللوصول إلى كُنه هذه الرابطة العميقة، تنطلق الكاميرا إلى مدينة “لوفان لانوف” في بلجيكا، حيث المساحات الخضراء الشاسعة.
يخبرنا الباحث البيئي “إيريك لامبين” عن القوة الموحية لمثل تلك المقومات الطبيعية، حيث تختلف فاعليتها من منتجع بيئي إلى آخر، فالأهمية القصوى للطبيعة تخرج من أطرها الضيقة المعنية بالصحة العامة، إلى دائرة أكثر اتساعا، تشمل تعزيز الانتماء إلى هذا العالم الكبير نسبيا، الذي لا يمكن أن نحيط بكل مكنوناته.
وفي سياق مماثل يطلعنا السرد السلس المتدفق على التحول المتسارع في كندا، من تقليدية الريف إلى سطوة المدن الحضرية، وهنا تتأهب مستشعرات الخطر لدى العلماء وأخصائيي الرعاية الصحية، فالابتعاد الممنهج عن فطرة الطبيعة، سيؤدي على المدى القريب إلى ارتفاع معدلات الإصابة الصحية، لذا فقد لجأت المناهج العلمية إلى تطوير محتواها الدراسي، بحيث يُسمح بممارسة النظم التعليمية للأطفال والأجيال الأحدث عمرا بين البقاع الخضراء والغابات.
وبذلك يقدم الفيلم أطروحته عن العلاقة الحساسة بين الإنسان والبيئة الطبيعية، التي لا تزال تملك كثيرا من المنح والعطايا الباحثة عن مستحقيها، ويعرض الفيلم ذلك بأسلوب امتزج فيه الشكل بالمضمون، في وحدة عضوية متناسقة البناء السردي، وعبر رحلة علمية لا تخلو من التشويق الممزوج بالتساؤلات الفلسفية. فهل يوجد من يلبي نداء الطبيعة وينهل من فيضها الوهاب؟