“هذه لحظتي”.. رحلة صناعة المجد في رياضة الدراجات الهوائية بأوروبا

في مفتتح فيلم “هذه لحظتي” (This Is My Moment)، كان العرق يتصبب من وجه متسابق الدراجات الهوائية الأريتري الشاب “بينيام جيرماي”، وكان يتدرب في قاعة مغلقة، وصوت التلفزيون المفتوح ينقل سباق دراجات هوائية في مكان ما.
يختزل هذا المشهد حياة الرياضي الشاب، التي همين عليها حلمه الكبير بتحقيق أعلى الإنجازات العالمية في مضمار سباقات الدراجات الهوائية.
صوّر المشهد الافتتاحي في إيطاليا، لكن رحلة “جيرماي” بدأت من أرتيريا، وهو بلد يجهله كثير من الناس، شبه مغلق في وجه كثير من الجنسيات، لكنه -كما نعرف من الفيلم- مهوس برياضة الدراجات الهوائية، وهي رياضته الشعبية الأولى، وكانت من تركات الاحتلال الإيطالي للبلد في القرن الماضي، فقد شجعها ونقل شغفها إلى أبناء البلد الأفريقي.
شاركت الجزيرة الوثائقية في إنتاج الفيلم، وقد أخرجه البلجيكي “ليفين كورثوتس”، ويعود إلى بدايات بطله “بينيام”، عندما جذبت موهبته مدربين محليين وهو ابن 16 عاما، وبعدها يرافق الفيلم بملحمية طريقه إلى المجد، وفوزه بجوائز عالمية لم يفز بها رياضي أفريقي قط في رياضة الدراجات الهوائية.
جوائز أفريقية وبحث عن العالمية
يصل الفيلم إلى “بينيام” وهو ابن 17 عاما فقط، أي بعد عام من وصوله إلى الفريق الوطني الأريتري، ثم يرافقه بعدها سنوات، ومن المسابقات الكبيرة الأولى التي سجلها الفيلم المسابقة الأفريقية للدرجات الهوائية، التي نظمت في رواندا.
بدت المسابقة مهمة جدا للمتسابق الشاب، وقد حقق ما يمكن تحقيقه في بلده من اعتراف وجوائز، وعينه اليوم على المسابقة الأفريقية الأهم في أفريقيا، لأنها إحدى الطرق المهمة للفرق الغربية، لاختيار المواهب الجديدة.

يكشف الفيلم في ربعه الأول المقاربة الفنية التي يختارها، وستكون في مجملها مقاربة تعتمد على المراقبة والتسجيل لما يجري، وندرة الحوارات المباشرة، وهذا يطبع الفيلم بأسلوبية مميزة، لا سيما أن “بينيام” نفسه لا يحب الكلام كثيرا، ولن نعرف الكثير عما يجري في داخله حتى نهاية الفيلم، وعندما سجل الفيلم حوارات له مع صحفيين غربيين، طرحوا أسئلة خاصة لم يطرحها الفيلم نفسه.
لم يصوّر الربع الأول من الفيلم في أريتريا، بسبب جنسيات فريق الفيلم، لذلك تركت مهمة التصوير هناك لبطل الفيلم ولمن من حوله، وسيقود ذلك إلى تنوع في نوعية المواد المصورة، من التي صورتها الهواتف بجودتها المحدودة، والمشاهد التي صورت في إثيوبيا وأوروبا، وتميزت باحترافيها وبحثها عن آفاق وتحديات مبتكرة، لعرض عالم “بينيام”.
بطل أريتريا.. فرصة الاحتراف في فريق أوروبي
نتعرف على شعبية “بينيام جيرماي” الكبيرة عند عودته إلى بلده، حين يُستقبل استقبال الأبطال الوطنيين، ويُحتفى به في الشوارع. وعندما نصل إلى بيته، نجد زاوية في بيته مخصصة للجوائز المحلية التي حققها على صغر سنه.
ويسجل الفيلم يومياته بين عائلته التي تنتمي للطبقة الوسطى، وفي مشهد كوميدي تمازحه جدته وهي تفخر به، فتذكره بمواهبها الرياضية.

ومع الهدوء البادي على شخصية “بينيام”، فقد كان لا يكل على مطاردة حلمه، فشارك في أكثر مسابقات الدراجات شهرة في العالم، وكانت عينه على سباق فرنسا للدراجات، الذي لم يشترك فيه -إلى عام 2019- إلا أربعة متسابقين سود. وقد لفتت موهبة “بينيام” فريقا سويسريا للدراجات، فوفر له المحطة القادمة في طريق احترافه.
يتصل “بينيام” من هاتفه بالسفارة السويسرية من أجل التأشيرة، وكانت الطرق مفتوحة أمامه، على عكس أبناء بلده الذين يخاطرون منذ سنوات بحياتهم للجوء إلى أوروبا.
يتابع الفيلم رحلته، فيرافقه في إثيوبيا، وفي الطائرة التي تحلق به إلى سويسرا، ويبدأ من هناك المحطة الأكثر إثارة في حياته الرياضية، التي ستمهد لسلسلة من الجوائز العالمية الكبيرة.
زلزال كورونا في حقول فرنسا
لم تكن بداية رحلة “جيرماي” الأوروبية هينة، فلم يكن يتحدث لغة الأوروبيين ولا حتى اللغة الإنكليزية، ومكانه في الفريق الاحترافي يواجه تحديات كبيرة ومنافسة شرسة من عشرات الموهوبين حول العالم الذين يتمنون مكانه.
كما أنه كان يعيش ظروفا مناخية مختلفة في جغرافية جديدة، وليس على يقين من اجتياز كل الفحوص الطبية المطلوبة للانضمام للفريق الغربي.
يأتي وباء الكورونا ليوقف مؤقتا رحلة الرياضي الشاب، فتتوقف جميع المسابقات الرياضية والتجمعات العامة، ويرغمه الوضع الجديد على البقاء في حقل زراعي بفرنسا، بعيدا عن بلده وعائلته وخطيبته الشابة.
يعرفنا الفيلم على خطيبته من دون أن يفصل كثيرا، فنراه عندما كان في أريتريا برفقة فتاة جميلة، كان يلقاها في مقهى صغير بالبلد.

يلقى “بينيام” أصعب أيام حياته في زمن الحجر الصحي، فقد بدا مستقبله كله في مهب الريح، مع غموض الرؤية التي سببها الوباء العالمي. وفي مشهد معبر ركزت الكاميرا على بدلته الرياضية المعلقة على حبل الغسيل، كناية عن مستقبله المتوقف.
يسجل الفيلم حياته اليومية في الحقل الصغير بفرنسا، والضجر الذي كان يعيش فيه، قبل أن يبدأ التدريب مرة أخرى مع مدرب خاص، كان يدربه في تلك المنطقة الريفية.
زواج وطفلة وعودة إلى المنافسات
يعود “بينيام جيرماي” بعد انتهاء أزمة كورونا، لكنه لا يعود إلى فريقه الأول، فقد أصابته مشاكل مادية، ثم يجد فريقا إيطاليا يؤمن بمواهبه، وتزداد سرعة إيقاع الفيلم في ربعه الأخير، لتناغم الإنجازات الكبيرة التي بدأ يحققها، وفوزه بالجوائز الكبيرة في أرفع المسابقات الأوروبية.
وتأخذ حياته الشخصية انعطافات جديدة، فيعود إلى بلده ويتزوج خطيبته ويرزقان طفلة، ويشرف بنفسه على بناء شقة الزوجية، ويبدو أن حياته بين أوروبا وأريتيريا كانت تمر بسلاسة، مع أنه كان يشتاق لابنته الصغيرة وعائلته.

وقد كان مشغولا بما يحقق من جوائز كبيرة، والتقدير المرموق الذي بدأ يناله من الصحافة الإيطالية، بعدما صار يمثل أحد نواديها، وأيضا من الجمهور الإيطالي العادي، الذي كان يقابله في الشارع، ويطلب التصوير معه، ويعامله معاملة النجوم.
خجول لا يحب الشهرة
نقترب من شخصية “بينيام” من خلال حوارات أجراها في الشارع أحيانا مع صحافة من كل الأنواع، وسجلها الفيلم أثناء مرافقته له، فنكتشف أنه لا يحب الشهرة بل يكرهها، لكنه يعي أنها تفصيل أو ضريبة للنجاحات، ولا سيما في رياضة شعبية مثل الدراجات الهوائية في بعض الدول الأوروبية.
وهو لا يريد أن يكون داعية ولا ناشطا في قضية حضور الرياضيين الأفارقة في رياضة الدراجات الهوائية، بل يرى أن التعب والنجاحات التي يحصدها هو وغيره من الأفارقة أفضل من عشرات الخطب، فنجاحه في هذه الرياضة هو تعبيد للطريق للرياضيين الشباب من أبناء قارته.

ما يبنيه الفيلم هو أن طريق “جيرماي” إلى النجاح لم يكن صعبا كثيرا، فإخلاصه للرياضة التي يحب فتحت له الأبواب جميعها، وربما لهذا السبب لم يتضمن الفيلم مفاجآت ولا انعطافات درامية كبيرة.
كما لم يتقرب الفيلم كثيرا من شخصيته الرئيسية، وبقينا نراقبها عن بعد، فيما عدا بعض المشاهد القليلة التي فتحت نافذة على خوفه وهواجسه، مثل ذلك المشهد الصامت الذي سجل الفحص الطبي الأوروبي الأول للرياضي، والتوجس الذي كان باديا عليه، فقد كان يمكن لفشله في الفحص الطبي أن ينهي مسيرته الرياضية، حتى قبل أن تبدأ.

وكانت المقاربة الفنية الغالبة في الفيلم هي التوافق مع حركة الدراجات الهوائية، سواء على صعيد حركة الكاميرات التي رافقت مسابقات الدراجات الهوائية، أو حتى في المشاهد التي سجلت حياة “بينيام” اليومية، ولا سيما في الجزء الأوروبي، فقد ظهر النضوج والتخطيط فيها واضحا، مقارنة بتلك المشاهد التي صورت في أريتريا وإثيوبيا.