تحليل البصمة الوراثية.. كعكة تسيل لعاب أسواق الدواء والمال والتأمين

ملايين من الناس في أنحاء متفرقة من العالم، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، يُقبِلون على معرفة أنسابهم وصلات القربى، بإجرائهم تحاليل سريعة لبصماتهم الوراثية (DNA).
تحاليل تروج لها شركات عملاقة عبر شبكة الإنترنت، تهدف لجني الأرباح من بيعها مستلزمات عملية مسح اللعاب من قبل المُستهلك نفسه، ومن تكاليف الفحص المختبري التي يدفعها للشركة.
وبالإضافة إلى الجانب التجاري، فهناك أغراض سرية أخرى من التحليل تخفيها الشركات، منها تكوين قاعدة بيانات عملاقة، يمكن التصرف بها بحرية من دون إرادة المستهلك أو علمه.
يخوض في ذلك الوثائقي الفرنسي “تجارة الحمض النووي.. الجانب الخفي لاختبارات المستهلك” (ADN Business, la face cachée des tests grand public)، فيستكشف الجوانب الخطيرة والسرية في عملية فحص الحمض النووي عبر الإنترنت، وإمكانية استخدام المعلومات الشخصية المستخلصة منها لأغراض ربحية بحتة، لا تراعي الأمانة العلمية، ولا تحترم حقوق الأفراد وخصوصيتهم.
خصوصية تعصف بها رياح الشركات التجارية
لكشف الغايات السرية التي تتحفظ عليها الشركات، يختار صانع الوثائقي “أوليفر توسكر” أكثر الشركات ترويجا لفكرة تحليل البصمة الوراثية السريعة، مثل “أنسستري” (Ancestry) و”23 آند مي” (23andMe) الأمريكيتين، و”ماي هيريتيج” (Myheritage) الإسرائيلية، وقد توصل -بمعونة علماء وأطباء وصحفيين مختصين- إلى الغايات السرية وراء الترويج لمبيعاتها، وإلى أسباب تخفيض أسعارها اللافت للانتباه.

يتبيّن للوثائقي أن أول تلك الأغراض هو أخذ حق التصرف بنتائج الفحص والمعلومات الشخصية الملازمة له، ويأتي هذا بطلب ملء المستهلك استمارة معلومات، تتضمن أسئلة منها مثلا: من أين أنت، ومن يشبهك من الأقارب، وما وضعك الصحي؟
ناهيك عن المعلومات التي يوفرها التحليل المختبري، وتجعل صاحبها عرضة للكشف، وقد قال أحد العلماء “إذا استطاع أحد قراءة تركيبة بصمتك الوراثية، استطاع معرفة كل شيء عنك!” من هنا يجد العلماء خطورة في نشر التحليل عبر الإنترنت وتوسيعه، لأن خصوصية الأفراد تصبح عرضة للكشف والاستغلال.
جشع الساسة والتجار يفسد علما نبيلا
أضحى علم الجينات من العلوم الطبية المهمة، التي تساعد في تشخيص الأمراض ومعالجتها، لذلك يحرص الوثائقي على التمييز بين الرصين منه وبين التجاري، فيقدم نبذة عن تطوره منذ بداية القرن العشرين، وتوصل العلماء بعد جهد كبير إلى معرفة التركيبة الجزئية للحمض النووي، وما فتح ذلك من اكتشافات عظيمة في المجال الطبي، فقد سهل تشخيص الأمراض المبكر بمعرفة الصلة الوراثية بين الأفراد وتاريخ عوائلهم المرضي.

أراد العلماء أن يُستَثمر هذا الحقل المهم لصالح البشرية، لا للتمييز بين الأقوام والجماعات العرقية، ولا لأغراض سياسية كما استخدمه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لكسب أصوات سكان ولاية مينسوتا الأمريكية، حين قال لهم أثناء الحملة الانتخابية “إن جيناتكم جيدة!” تلميحا على نقاوة عرقهم الأمريكي وانحيازهم له.
ومثل أي علم أو حقل معرفي، يحاول أصحاب المشاريع التجارية الدخول إليه واستغلاله، وهذا ما وقع في حقل الجينات، فقد سارعت شركات تجارية كبيرة لدخوله، باستغلالها فضول الناس ورغبتهم في معرفة أصولهم وأنسابهم العائلية. ويثبت الوثائقي بالأرقام أن أكثر من 50 مليونا أجروا تحليلا لبصماتهم الوراثية عبر الإنترنت.
سعر رخيص لجذب الزبائن
ينتبه أحد الصحفيين المختصين إلى تراجع تكلفة معدات المسح اللعابي باستمرار، وانخفاض تكلفة التحليل المختبري بصورة لافتة للانتباه، ويحيل ذلك إلى أن الشركات الكبرى لم تعد تهتم بكسب الأرباح بالدرجة الأولى، بل جمع المعلومات الشخصية الحساسة، لغرض توسيع قاعدتها البيانية.

المعادلة الحاصلة من وراء إجراء التخفيض هي كالتالي: تقليل تكلفة التحليل، لجذب أعداد كبيرة من الزبائن، يزودونهم بالمعلومات الشخصية، فيوسعون بها قاعدة بياناتهم، ويخططون للاستثمار فيها، على غرار ما تفعله “غوغل” وغيرها من محركات البحث الإلكتروني.
نعم للمال لا للعِلم!
يصف العلماء والأطباء هذا الأسلوب في التحليل بأنه ناقص غير مكتمل، فالتحاليل العلمية التي تجرى في مستشفيات الدولة ومختبراتها تقوم على مبادئ رصينة، وتتصف بالتعقيد والدقة المتناهية، لذا تأخذ وقتا أطول وجهدا أكبر، أما الشركات التجارية فتسعى إلى النتائج السريعة، ولا تعبأ بدقة التحليل أو بمدى تطابقه مع المواصفات العلمية الأكاديمية.
يتفق موظف الشركة مع تقييم العلماء، ويقول إن الشركة التي يعمل فيها لا تجري دراسات علمية للمتوفر عندها من عينات، ولا تقدم للزبائن ولا للمؤسسات الرسمية وصفا دقيقا لآلية فحصها.

يفسر هذا للعلماء سبب اكتفاء الشركات بعرض مسطح لآليات عملها المختبري، خالٍ من البيانات والمقارنات الدقيقة، كما يفسر أسباب عدم اهتمامها بنشر بحوثها في الدوريات العلمية الرصينة، وبدلا من ذلك تكرس أموالا طائلة للدعاية لمنتجاتها، وتكلف بذلك شخصيات عامة ومشهورة.
تجربة ناقصة تكتمل في وادي السيليكون
يجد الوثائقي في التجربة الأيسلندية ما يستحق التوقف عنده، ففي ذلك البلد الصغير اقترح الباحث “كاري ستيفانسون” إنشاء قاعدة بيانات جينية خاصة بالمستشفيات، تتضمن عينات من البصمات الوراثية، مأخوذة من كل سكان الجزيرة، واشترط لتحقيق مشروعه أن تُجمع كلها في قاعدة بيانات شركته.
أثار طلبه جدلا كثيرا بين السكان، فقد أخافتهم الفكرة، ثم عرض مشروعه على المحكمة العليا فرفضته، ومع ذلك استطاع أخذ الحمض النووي من نصف عدد السكان عبر الإنترنت، وظل يدعي أن مشروعه يعود بالفائدة العظيمة على صناعة الأدوية، مع أنه مرفوض رسميا.

ولكن في مدينة سان فرانسيسكو، وجدت فكرته طريقها إلى “آن فوجيسكي”، إحدى الشخصيات المشهورة في “وادي السيليكون”، التي راحت تنشط في مجال تحليل البصمة الوراثية التجاري، ويتوصل لفكرة تجارية مربحة، باستغلال ما تخزنه شركتها من معلومات شخصية للملايين، وبيعها لشركات صناعة الأدوية.
وفي عام 2018، تعقد صفقة تجارية ضخمة مع شركة “غلاسكو”، التي تعد من كبريات شركات صناعة الأدوية العالمية، وبموجبها تحصل شركة الأدوية العملاقة على كل البصمات الوراثية الموجودة في قاعدة بيانات صاحبة الشركة الأمريكية.
من الدواء إلى المال فالصحة.. اقتسام الكعكة
تنتقل قاعدة البيانات من حقل صناعة الأدوية إلى أسواق المال والبورصة الأمريكية، ويستعرض الوثائقي استغلال أصحاب شركات التحليل الجيني الرخيص معلومات الأفراد الخاصة، وبيعها لكبريات المؤسسات المالية في “وول ستريت”.

وتكشف المقابلات مع شخصيات معنية بالأمر كيفية استفادة المؤسسات المالية منها، وذلك بدراسة المعلومات التي تتضمنها الاستمارات المرفقة، وتحليل البصمة الوراثية المُبيّنة لطبيعة عمل الأفراد، وحالتهم الاجتماعية، وحجم مداخيلهم السنوية.
ولعل ذلك هو ما شجع إحدى المؤسسات المالية العملاقة على دفع 5 مليارات دولار، مقابل حصولها على قاعدة بيانات شركة “أنسيستري”، التي تضم معلومات عن نحو 18 مليون إنسان.
جمع المعلومات وبيعها لا يغوي المؤسسات المالية والدوائية فحسب، بل يتعداها إلى شركات التأمين على الحياة. فوفق التجربة النيوزلندية التي يتوقف عندها الوثائقي، تجد شركات التأمين في المعلومات المتعلقة بصحة الأفراد ما يفيدها، لكن ذلك ينعكس سلبا على المرضى منهم، عندما يحاولون نيل تأمين صحي عادل يؤمن علاجا جيدا لهم.
تمييز على أساس التحليلات الجينية
يتابع الوثائقي مريضة تلقى تمييزا في تأمينها الصحي، بسبب المعلومات التي قدمتها عن حالتها الصحية، يوم شرعت بإجراء تحليل بصمتها الوراثية عبر الإنترنت.
فإذا أراد المواطن اليوم في نيوزلندا نيل ضمان صحي إضافي عند إحدى شركات التأمين، فإنها تراجع سجله “الجيني” قبل قبول طلبه، فإذا اتضح أنه يعاني من بعض المشاكل الصحية، أو يحتمل أن يصاب بأمراض خطيرة مستقبلا فإنها ترفض طلبه، وفي هذه الحالة تصبح حالته الصحية تحت تهديد حقيقي.

تقدم المريضة حالتها أمام الوثائقي، وتصف سلوك شركات التأمين الصحي بأنه “تمييز”، تختص به دولتها عن بقية دول العالم، وذلك بربط التأمين الصحي العام بشركات التأمين الخاصة.
تشير تحاليل بصمة المريضة الوراثية إلى احتمال إصابتها بأمراض سرطانية مستقبلا، ويدفع ذلك أطباء نيوزلنديين للاعتراض على هذا النموذج السيئ، والمطالبة بفصل التأمين الحكومي العام عن شركات التأمين الصحي الخاصة، المعتمدة في قراراتها على معلومات تشتريها من قاعدة بيانات تملكها شركات تحليل البصمات الوراثية عبر الإنترنت.
هذا وتشجع وفرة المعلومات الشخصية الحساسة عصابات الجرائم السيبرانية، لأخذها من قاعدة بيانات الشركات التجارية، ويقابل الوثائقي أحد مخترقي تلك القواعد، فيُعرّف نفسه أمام صانع الوثائقي باسم “غولم”، ويخبره أمام الكاميرات أنه أخذ بيانات ملايين الناس الحساسة، وعرضها للبيع على الإنترنت، وأنه ينتظر من يشتريها.