تعديل الجينات.. محاولات مريبة لإنتاج بشر خارقين

تقنية "كريسبر- كاس9" تُحدث ثورة في علوم الحياة، وتفتح آفاقا لعلاجات مبتكرة ضد السرطان، كما تقرّب الإنسانية من تحقيق الحلم الكبير وهو القضاء على الأمراض الوراثية.

لطالما عبّر الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” عن طموحه في الوصول إلى مفهوم “الإنسان الأعلى”، الذي يجسّد القيم الأخلاقية المطلقة، بمعزل عن العوامل الخارجية.

وهذه الصورة الرمزية لا تتعلق بماهية الإنسان الفيزيائية ولا مميزاته العضوية، بل بمنظومة الأخلاق والسلوكيات، التي ترفع البشر إلى مستوى حضاري متقدم على حسب وصفه. ومع أن جوانب فلسفته التي قلّلت من شأن المرجعية الأخلاقية قد أثارت جدلا، فإن “نيتشه” ظلّ يعبر بوضوح عن هذا الطموح، وعن رغبته في تحقيقه.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

وعلى شكل مماثل، ومع التعمق في علم الوراثة، يسعى مجموعة من العلماء حديثا إلى إنتاج بشر خارقين للعادة، بالتلاعب بالجينات البشرية، ربّما لا يكونون كالأبطال الخارقين الذين يملؤون الشاشات اليوم بقدراتهم الفريدة، ولكن أن يكون التعديل الجيني على مستوى التخلّص من الأمور غير المرغوبة في معظم الأحيان، مثل المرض والغباء والمعاناة والشيخوخة.

وهو طموح عدّة فلسفات حديثة، منها حركة “ما بعد الإنسانية”، التي تسعى إلى استخدام العلوم والتقنيات المتطورة عموما، لتعزيز قدرة الإنسان العقلية والفيزيائية.

أول طفلتين “مصمَّمتين وراثيا” في التاريخ

مع أن الأمر أقرب لأن يكون خيالا علميا، فإنّ الواقع ليس بعيدا عن ذلك، ففي إحدى ليالي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، خرج العالم الصيني “هي جيانكوي” إلى العلن بخبر صادم هزّ العالم.

فقد قال إنه أجرى مع فريقه العلمي تعديلا جينيا على توأمتين، وُلدتا لتكونا محصنتين ضد فيروس نقص المناعة “الإيدز”، وهما “لولو” و”نانا”، وقد أبدى فخره البالغ بأنهما أول طفلتين “مصمَّمتين وراثيا” في التاريخ.

كان هذا الإعلان المفاجئ صدمة حقيقية على المجتمع العلمي، فوقف مرتبكا أمام جرأة هذه الخطوة، لأن علم الجينات والوراثة لم يتقدم بما فيه الكفاية لكي يطبّق على البشر، وظلّت أعين بعض الناس تترقب نتائج هذه المحاولة الجريئة، مع تكهنات كثيرة بحتميّة فشلها.

لقد اعتمدت هذه التجربة على أداة “كريسبر” (CRISPR) الثورية، وهي بمنزلة “مقص جزيئي”، يتيح قص أجزاء من الشيفرة الوراثية ولصقها بدقة عالية، مستهدفين في العملية جين “سي سي آر 5” (CCR5)، الذي يسمح عادة لفيروس نقص المناعة بالتسلل إلى الخلايا واتلافها وتحطيمها.

وكانت خطة عالم الجينات “جيانكوي” تعطيل هذا الجين، فلا يكون بمقدور الفيروس التسلل إلى الجسم.

العالم الصيني “هي جيانكوي” الذي صدم العالم بإجرائه أول تعديل جيني على كائن بشري

ربّما بدت الخطة في ظاهرها يسيرة، وواعدة بفوائد عظيمة إذا نجحت، لكن ما تلاها من عاصفة استنكار عالمية وضع “جيانكوي” في مرمى نيران كثير من المنظمات الحقوقية والعلمية.

فقد صُنفت تجربته خرقا صارخا للمعايير الأخلاقية، إذ تعامل مع مستقبل مخلوق بشري كأنه يجري تجربة معملية على فئران. وطرحت تلك المنظمات أسئلة محورية: ماذا لو تسبب هذا التعديل في أمراض أو تشوهات جديدة؟ وماذا لو ظهرت طفرات مجهولة لاحقا في حياة الطفلتين، أو حتى في الأجيال القادمة؟

ثمّ لم تمض سوى شهور قليلة، حتى وُضع “جيانكوي” خلف القضبان بأمر من السلطات الصينية، بعد إدانته بممارسة الطب ممارسةً غير قانونية، وقد بلغ عقابه الجزائي 3 سنوات، وغرامة كبيرة تبلغ 3 ملايين يوان صيني (نحو 430 ألف دولار). ثم مُنع مدى الحياة من المشاركة في أبحاث الطب الوراثي.1

أما التوأمان “لولو” و”نانا”، فقد اختفت قصتهما عن الإعلام، كأن ستارا سميكا أسدل عليهما، فغيّبتا تماما عن المشهد، ولا يعرف أحد اليوم كيف تكبران أو تبدوان، وهل التغييرات التي أدخلت على جيناتهما ستحميهما، أم تفتح بابا لمشاكل لا تخطر على بال.

عند تاريخ كتابة هذا المقال، يفترض أن عمرهما قد تجاوز 5 سنوات.

تقنية “كريسبر” للتعديل الجيني

كانت تجربة العالم الصيني محاطة بسريّة بالغة، لأنها تخالف لوائح الحكومة الصينية فيما يتعلق بالتعديل الجيني، وقد قالت إحدى محاكم مقاطعة قوانغدونغ إن دافع هذه العملية هو المال والشهرة.

وقد اعترف الفريق العلمي -المكوّن من 3 علماء- بأنهم أجروا عمليتين على امرأتين، إحداهما كانت حاملا بتوأمين. وقد ذكرت التقارير أن والد التوأمين كان يعاني من مرض نقص المناعة، وهو سبب آخر كان مشجّعا لهم لإجراء التجربة.

فيروسات تسمى العاثيات، تهاجم البكتيريا بالالتصاق بخلاياها، وحقن حمضها النووي، الذي يندمج مع مادتها الوراثية

أخذ العلماء بويضات من الأم، وحيوانات منوية من الأب، وكان حاملا للفيروس، ثم خُصبت البويضات خارج الجسم، لتكوين أجنة في المختبر، وقد نمت الأجنة في المختبر مدة قصيرة، لمراقبة التغيرات الجينية، والتأكد من أنّ التعديل أجري إجراء صحيحا، ثم زرعت الأجنة مرة أخرى في رحم الأم.

لقد استهدف العلماء تقنية “كريسبر كاس-9″، وهي أداة ثورية في علم الأحياء الجزيئية، تتيح تعديل الشيفرة الوراثية في الكائنات الحية بدقة غير مسبوقة، وتعمل كأنها “مقص جزيئي”، قادر على قص أجزاء محددة من الحمض النووي، ثم إدخال تعديلات دقيقة، إما بإصلاح الجينات المعطوبة، أو بإضافة جينات جديدة.

تكمن إحدى أبرز مزايا “كريسبر” في السرعة والدقة، مقارنة بالتقنيات السابقة، فبينما كانت عمليات تعديل الجينات في الماضي تستغرق سنوات، وغالبا ما تعاني من ضعف الدقة، فإن هذه الأداة تتيح استهداف جين محدد، وإجراء التعديل المطلوب في وقت قصير، وهو ما فتح آفاقا واسعة في الطب والزراعة والأبحاث البيولوجية.

تعديل البشر، على الصفحة الأولى من مجلة “ذي إكونمست”

وقد ظهرت ملامح تقنية “كريسبر” أول مرة في أوائل التسعينيات، حين لاحظ العلماء وجود تسلسلات غريبة متكررة في حمض البكتيريا النووي، لكن استخدامها العملي أداةً دقيقة للتعديل الجيني لم يظهر إلا في عام 2012.

كان ذلك حين استطاعت العالمة “جينيفر دودنا” وزميلتها “إيمانويل شاربنتييه” تطوير نظام “كريسبر-كاس9” (CRISPR-Cas9)، ليكون مقصا جزيئيا، يمكن أن يبرمج لاستهداف أي جين. وقد صنف هذا الإنجاز ثورة في علم الأحياء، واستحقتا بسببه نيل جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020 عن جدارة. 2

حدود المسموح والممنوع

يرى المجتمع الدولي أن استخدام تقنية “كريسبر” ممكن في الحالات السريرية، ويعرض الفيلم الوثائقي “تعديل الجينات.. تحدٍّ أخلاقي جديد” -على منصة الجزيرة الوثائقية- إحدى أولى الحالات التي أجريت عليها هذه التقنية، وهي حالة الكاهن “يوهان كرامر” في النمسا.

فقد كان ميؤوسا من حالته، بسبب ورم في الأنسجة الليمفاوية، وكان لا يكاد يستطيع المشي، لأن الورم كان يضغط بقوة على أطرافه، مما عرضه لخطر الشلل النصفي، ولم يعد بإمكان الجسم مقاومة ورم الغدد اللمفاوية.

فأزيلت خلايا مناعية من جسمه، ثم عمل العلماء على تعليمها كيفية التعرف على الخلايا السرطانية، ثم مهاجمتها بأساليب الهندسة الوراثية، مثل تقنية “كريسبر”، ثم أعيد إدخال هذه الخلايا المناعية المعدلة إلى جسم المريض بالحقن. وبعد نحو 5 سنوات، عادت صحته كما كانت، وانتهى المرض بنسبة عالية.

الكاهن النمساوي “يوهان كرامر” الذي عدلت خلاياه المناعية جينيا ثم أعيدت له

كما أجريت تجارب سريرية أخرى على نطاق محدود حول العالم في الصين والولايات المتحدة، ثم توسّعت لتشمل علاج أمراض منها سرطان الدم، والأورام المختلفة، ومرض السكري من النوع الأول، بتعديل الخلايا المنتجة للأنسولين.

لكن يُمنع هذا الإجراء إذا أجريت هذه التقنية على مستوى التعديل الوراثي قبل تكوّن الجنين، إذ يُحوَّر بها جينوم الفرد، وتحدث تغييرات قابلة للتوريث، تستمر في السلالة، وتنتقل إلى الأجيال القادمة، مما يشكّل تدخّلا في الفطرة الإنسانية، وتغييرا دائما في الخلق، قد تترتب عليه عواقب غير متوقعة علميا وأخلاقيا.

ومع الضغط المستمر من المجتمع الدولي، لتقنين استخدام هذه التقنية في الحالات السريرية فقط، فقد أُعلنت حالات جديدة بعد حادثة العالم الصيني، الذي ذكرنا في البداية.

فمن ذلك إعلان العالم الروسي “دينيس ريبريكوف” أنه يعمل على تعديل الجينات المسببة للصمم الوراثي، في مقال نُشر في دورية “نيتشر” نهاية عام 2019، وقد قال إنه لن يزرع هذه الأجنة المعدّلة، إلا بعد الموافقة التنظيمية اللازمة.3

استخدام مزدوج.. سلاحٌ فتّاك

تنتمي عمليات تعديل الجينات إلى مجال واسع، يعرف بالهندسة الوراثية، وقد ظهر هذا العلم أول مرة في السبعينيات، حين استطاع العلماء إدخال جين من بكتيريا إلى أخرى، فكانت تلك نقطة انطلاق الهندسة الوراثية الحديثة.

ثم بدأت التجارب على النباتات بتقنيات نقل الجينات، لا سيما عبر بكتيريا “أغروباكتيريوم راديوباكتر”، التي تستطيع نقل الجينات إلى خلايا النبات.

عملية قص جين مريض واستبداله بجين آخر

وفي عام 1983، أنتج أول نبات معدّل وراثيا، وهو التبغ المقاوم للمضاد الحيوي “الكانامايسين”، ولاحقا طرحت أول ثمرة تجارية معدلة وراثيا في الأسواق، وهي طماطم “فلافر سافر” (Flavr Savr) في الولايات المتحدة، التي طورت لتأخير التلف وزيادة مدة الصلاحية.

ومنذ يومئذ، توسع استخدام الهندسة الوراثية في الزراعة كثيرا، لإنتاج محاصيل مقاومة للآفات والأمراض، أو لتحمّل الجفاف، أو حتى لزيادة القيمة الغذائية.4

لكن الأمر ليس دائما على هذا النحو، فعلى غرار أي تقنية أخرى، قد تستخدم الهندسة الوراثية استخداما مزدوجا، فالمخاوف من إساءة استخدامها حاضرة دائما، فتعديل الجينات قد يسبب ظهور كائنات حيّة شديدة العدوى أو مقاومة للأدوية، لتنتشر في البيئة انتشارا غير متوقع. وحتى التعديلات الصغيرة في الجينوم البشري، قد يحدث تغييرات كثيرة على المستوى الجسدي والسلوكي.

كما يثير الخبراء قلقا إضافيا، حول احتمال تطوير أسلحة بيولوجية موجهة، تستهدف جينات معيّنة لدى البشر أو الحيوانات، لإحداث أمراض أو عجز وظيفي، ويزداد الخطر مع تيسر وصول المعلومات العلمية، وشراء المعدات المخبرية في عصر الإنترنت والسرعة.

بكتيريا “أغروباكتيريوم راديوباكتر” التي تستطيع نقل الجينات إلى خلايا النبات.

يرى بعض العلماء المتحمسين لهذا النوع من التغييرات والتلاعب في الجينات البشرية، أنّ الأمر يشبه دخول البشرية في عصر جديد، يغلب عليه الانخراط المفرط في التقنية، فنحن نشهد اليوم أجهزة وأدوات تدمج في جسم الإنسان الحي، لتساعده على أداء وظيفة مفقودة، أو استعادة قدرة معيّنة، كالمشي مثلا.

وعلى المنوال نفسه، يتساءل هؤلاء: لماذا لا يكون التعديل الجيني مدخلا لإضافة خصائص فيزيائية جديدة، مستوحاة من الحيوانات الأخرى، مثل الأجنحة أو العمود الفقري المدبب أو غيرها من السمات المميزة؟

وبذلك قد ينتقل الاهتمام من معالجة الأمراض إلى إعادة تصميم البنية الجينية والهيكل البشري، وربما يصبح هذا المجال سوقا نخبوية مقصورة على الطبقات الثرية، القادرة على تسخير المختبرات والمعامل لمصالحها.

مصطلحات:

الجينوم: هو المجموعة الكاملة من المادة الوراثية، التي تحتوي جميع التعليمات اللازمة، لبناء الكائن الحي وتشغيل وظائفه.

التغييرات القابلة للتوريث: هي تعديلات في المادة الوراثية (مثل الطفرات أو إعادة ترتيب الجينات)، تحدث في الخلايا الجنسية أو في الخط الجنسي، ويمكن أن تنتقل من الآباء إلى الأبناء عبر الأجيال.

الجينوم: هو المادة الوراثية التي تحتوي على جميع التعليمات اللازمة لبناء الكائن الحي وتشغيل وظائفه

الأسلحة البيولوجية: هي عوامل حية أو منتجات حيوية (مثل بكتيريا أو فيروسات أو سموم)، تستخدم عمدا لإحداث المرض أو الوفاة أو الإعاقة، أو الإضرار بالبشر أو الحيوانات أو النباتات، وتعدّ استخداماتها محظورة دوليا، لما تمثله من أخطار صحية وأخلاقية جسيمة.

 

المصادر:

[1] نورميل، دينيس (2019). حكم على عالم صيني أنتج أطفالا معدلين وراثيا بالسجن لمدة 3 سنوات. الاسترداد من: https://www.science.org/content/article/chinese-scientist-who-produced-genetically-altered-babies-sentenced-3-years-jail

[2] محررو الموقع (2020). جائزة نوبل في الكيمياء 2020. الاسترداد من: https://www.nobelprize.org/prizes/chemistry/2020/popular-information/

[3] سيرانوسكي، ديفيد (2019). عالم روسي يبدأ بتعديل الجينات في بويضات بشرية بهدف تغيير جين المسبب للصم الوراثي. الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/d41586-019-03018-0

[4] محررو الموقع (2024). طماطم فلافرسافر: نكهة رائدة تدوم طويلا. الاسترداد من: https://foodsafety.institute/food-biotechnology/flavrsavr-tomato-long-lasting-flavor/


إعلان