“ابن الآخرين”.. قصة ترسم التطبيع مع الاحتلال على الطريقة الأوروبية
يحيلنا الفيلم الفرنسي ” ابن الآخرين” (Le Fils de l’Autre)، للمخرجة الفرنسية (اليهودية كما يوحي اسمها) “لورين ليفي” (2012)، إلى رواية غسان كنفاني الشهيرة “عائد إلى حيفا” وإلى اقتباسها في الفيلم السينمائي الفلسطيني الذي يحمل نفس الاسم، فقد صُوّر في شمال لبنان، وأُنتج بدعم من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
انطلق الفيلم من قصة تتعلق بطفل تربى في كنف زوجين ليسا والديه الأصليين، ثم اكتشف عندما أصبح ناضجا واقع وجود والدين حقيقيين له ينتميان إلى شعب عدو للشعب الذي ينتمي إليه الزوجان اللذان قاما بتربيته.
هذا الاكتشاف يطرح على الطفل -بعد أن صار ناضجا قادرا على اتخاذ قراراته الخاصة- مسألةَ الحاجة إلى تحديد هويته، فهل هو ينتمي إلى الشعب الذي تربى في كنفه، أم أنه ينتمي إلى الشعب الذي ينتمي إليه والداه الأصليان؟
نشأة في أكناف الغرباء.. زاوية مختلفة للقضية
في الرواية والفيلم الفلسطيني، ثمة طفل فلسطيني المولد تربى في كنف عائلة يهودية، وفي الفيلم الفرنسي ثمة طفلان، واحد فلسطيني المولد تربى في كنف عائلة يهودية، والثاني يهودي المولد تربى في كنف عائلة فلسطينية.
تتعلق المشكلة في الفيلمين إذن باليهود والفلسطينيين، لذلك فإن الفيلمين يدوران بالضرورة في فلك موضوع
تتعلق المشكلة في الفيلمين إذن باليهود والفلسطينيين، لذلك فإن الفيلمين يدوران بالضرورة في فلك موضوع سياسي له ارتباط بصراع مصيري مستمر بين شعبين منذ عشرات السنين.
فقد كتب غسان كنفاني روايته “عائد إلى حيفا” في الفترة التي تلت حرب حزيران/ يونيو عام 1967، والتي انطلقت فيها الثورة الفلسطينية المسلحة، عبر الفصائل المختلفة التي خلقت واقعا جديدا نتج عنه حماس ثوري، لحمل راية قضية شعب نحو الانتصار.
“عائد إلى حيفا”.. جندي يهودي يرفض دماءه الفلسطينية
في الرواية، كما في الفيلم الفلسطيني، يزور زوجان فلسطينيان بعد حرب حزيران مدينةَ حيفا التي نزحا منها قسرا في العام 1948، وتركا فيها طفلهما الرضيع وحيدا في المنزل.
وفي حيفا يلتقيان بالأسرة اليهودية التي تبنت طفلهما واحتلت منزلهما، ويلتقيان بابنهما الذي صار جنديا في الجيش الإسرائيلي، وسيرفض فورا أن يكون منتميا لهما، مفضلا أن يبقى يهوديا كما تربى، على أن يعود إلى أصل مولده الفلسطيني.
فالمقولة الأساسية التي طرحتها رواية غسان كنفاني هي أن” الإنسان هو القضية”، والقضية الآن صار عنوانها الكفاح المسلح، لهذا سيعود الزوجان إلى الأردن حيث يقيمان، وسيقرر الزوج الموافقة على التحاق ابنه الثاني بقوات الثورة الفلسطينية، بعد أن كان يمانع في ذلك.
“ابن الآخرين”.. طفلان يترعرعان في المعسكر المضاد
بعكس رواية “عائد إلى حيفا” التي ظهرت في زمن ثوري وكتبت بروح ثورية، يختار الفيلم الفرنسي” ابن الآخرين” أن يلغي الروح الثورية الفلسطينية، وأن يستبدل بها روح التطبيع التي بدأت تنتشر في زمن غير ثوري، مع أن أصل المشكلة لم يتغير، وهي متمثلة في بقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، مع ما يتبع ذلك من تعرضهم للقمع والاضطهاد.
تبدأ المشكلة في الفيلم الفرنسي “ابن الآخرين” من اكتشاف امرأة يهودية -وهي زوجة لضابط كبير في الجيش الإسرائيلي- أن ابنهما “جوزيف” الذي بلغ 18 عاما ويستعد للالتحاق بالجيش، ليس من صلبها، حيث سيتبين أن الطفل الذي أنجبته استُبدل خطأً ونتيجة لحالة ذعر خلقها انفجار صاروخ، بطفل أنجبته في نفس الوقت والمستشفى امرأة فلسطينية، وصار يدعى ياسين.
إذن، فثمة طفل فلسطيني المولد ينشأ يهوديا، وطفل يهودي المولد ينشأ فلسطينيا، وسينشأ “جوزيف” الذي يهوى الموسيقى في ظروف مستقرة، من دون أن يعاني من قضية مصيرية تؤرقه، على عكس ياسين الذي ينشأ تحت الاحتلال، ويفترض أن ترتبط حياته بقضية الحاجة لتحرير أرضه وشعبه من الاحتلال الإسرائيلي.
انكشاف الحقيقة.. واقع جديد يخلط الأوراق
تلتقي الأسرتان، اليهودية والفلسطينية، مع الطبيب الذي كان مديرا للمستشفى آنذاك، فيشرح لهما ملابسات ما حدث. فتستقبل الوالدتان الأمر بهدوء وتنسجم كل منهما مع الأخرى فورا، بينما تكون ردود فعل الآباء مختلفة، فالحقيقة المكتشفة تثير غضب كل منهما. لكن ماذا مع الشابين؟
يذهب “جوزيف” لمقابلة الحاخام الذي أشرف على تربيته الدينية، فيخبره أنه لم يعد يهوديا، لأن دمه ليس من أم يهودية، فيتقبل الجواب ببساطة.
أما ياسين العائد لتوه من دراسته في باريس، فلا تبدو عليه ردة فعل، ويتقبل الأمر ببساطة، على عكس أخيه الأكبر الحاقد على إسرائيل، فيستثار غضبا على ياسين، لكن الغضب لن يدوم طويلا، خاصة غضب الأب الفلسطيني والأخ الفلسطيني.
تطبيع العائلات.. مطلب صهيوني يأباه الواقع الفلسطيني
مع تنامي الأحداث، تجعل مخرجة الفيلم الأسرتين تتصادقان، وكذلك الأمر بالنسبة لجوزيف وياسين، فقد صارا يعدان نفسيهما أخوين صديقين.
ويصور الفيلم بعض معاناة الفلسطينيين، خاصة على الحواجز، لكنه لا يسير أبعد من ذلك، ويبدو أن المخرجة سعت إلى تحييد الجانب السياسي وتغليب الجانب العاطفي، فكل من الأسرتين تظل متعلقة بالابن الذي ربته، ولا شي يتغير في حياة الأسرتين، باستثناء أنهما صارتا متقاربتين، تتبادلان الزيارة وتتناولان الطعام معا.
أي أنهما حققا فيما بينهما حالة من التطبيع، وهذا مطلب إسرائيلي أوروبي رسمي، يحققه فيلم أوروبي، ولا يتقبله الواقع الفلسطيني الذي عنوانه العيش تحت قمع الاحتلال.