“العمال والسياسة”.. صرخة بُناة الوطن المستبعدين من كتب التاريخ
يصبح الفيلم الوثائقي التاريخي ضرورة في مراحل بعينها، حين يقل الإقبال على المعرفة المكتوبة ويزداد على المعرفة البصرية السمعية، ويصبح ضرورة أيضا حين تهتز الهوية وتقوم آلات التشويه وتزييف التاريخ بعملها في كتابته، كما يرغب المنتصرون في المعارك، لا القابضون على جمرة الحقيقة.
لكن هذه الضرورات الموضوعية لا تبيح المحظورات الفنية، وتبدو تلك المقولة واضحة أمام صانعي سلسلة “العمال والسياسة” التي عرضت عام 2014 على شاشة الجزيرة الوثائقية في تسع حلقات.
تتناول السلسلة تاريخ الطبقة العاملة في الوطن العربي منذ بدء تشكل ملامح الطبقة، ثم تشكل تنظيماتها ومساهماتها الفعالة في تحرر بلادها من الاستعمار الأوروبي، وترصد هذه الحلقات “جزاء سنمار” الذي حصلت عليه الطبقة العاملة في كل بلد على حدة.
من ربيع أوروبا للربيع العربي.. صرخات قهر لا تنقطع
إذا كان الفيلم الوثائقي -طبقا لأدبيات النقد– هو ما يعرض فيه مخرجه لحقيقة علمية تاريخية أو سياسية بصورة محايدة ودون إبداء رأي، فإن سلسلة “العمال والسياسة” بعرضها المحايد قد جعلت المُشاهد يشكّل موقفا غير محايد من تلك الحقائق وأطرافها المختلفة.
ولعل المعالجة الخلاقة للواقع قد أدت إلى رؤية مغايرة، تتمثل في ضرورة أن يقدّم منظرو الطبقة العاملة واليسار في العالم اجتهاداتٍ حول مفهوم الطبقة العاملة التي أقامت بنيتَها الثورةُ الصناعية، بينما أتت عليها الثورة المعلوماتية وأدت إلى خلخلة قوامها وإضعاف قدرتها على التأثير، خاصة بعدما تحولت إلى جزر نائية بأعداد أقل من أن تجعل منها قوة حقيقية.
وبالتالي فإن أثرها الذي رصدته سلسلة “العمال والسينما” في حركة المجتمعات ليس مرشحا للتكرار، نظرا لعدم قدرة الطبقة ذاتها على استعادة ذلك القوام وتلك الأعداد المهولة، لأسباب تتعلق بالتكنولوجيا التي حلت محل العمال في المصانع، ومن خلال المفهوم الجديد للطبقة العاملة يمكن الاتفاق على آليات عمل جديدة.
أما النتيجة المباشرة التي لفتت إليها الحلقة العامة في السلسلة، فهي نموذج الربيع الأوروبي أو ثورات منتصف القرن التاسع عشر، فقد أدت إلى فاشيات عسكرية في ألمانيا وإيطاليا، وتشكُّل إمبراطورية “نابليون” في فرنسا، ورغم أن ما أوردته السلسلة إنما هو معلومات مجردة، فقد طُرح كنبوءة مرشحة للتكرار في أكثر من بلد من بلدان الربيع العربي الذي بدأ في تونس ولم ينتهِ بعد.
غياب الأرشيف.. طبقة ضعيفة لم توثق نضالها
لعل لجوء صُناع السلسلة إلى الأرشيف البصري في كل ما يخص أحداث ووقائع المؤتمرات والتظاهرات وكافة الأنشطة العمالية؛ هو اعتراف آخر بضعف الطبقة العاملة بشكل عام، وعجزها عن تسجيل وقائع راهنة تستحق العرض أو التصوير، وقد بقيت اللافتات المعلقة على مداخل نقابات واتحادات العمال حبيسة داخل إطارات حزينة تحبسها الكاميرا فيها، لتؤكد على معنى كونها أطلال أمجاد غابرة.
وقد بُنيت الحلقات التسع عبر نمط استند إلى معمار موحد، يقسم الحلقة الواحدة إلى مجموعة من الفصول، تفصل بينها عناوين مرتبطة بالمضمون اللاحق لكل عنوان، فجاءت أشبه بكتاب العمال البصري، وجاءت الحلقة الأولى بمثابة مقدمة لهذا الكتاب، وإن بدت فكرتها كما لو كانت “برومو” (إعلان تشويقي) حتى أنها بالفعل تجمع فقرات من كل الحلقات.
ورغم أن المبالغة في التبسيط قد تبدو مخلة، فإن النسق الثابت الذي وضعه صُناع العمل والتزموا به لنحو تسع ساعات، أخرج من النظام والبساطة في طرح المعلومات درسا حقيقيا في تاريخ الطبقة العاملة، وملهما لما قد يتعلق بها مستقبلا.
زخم المعلومات.. تناقض المواقف التاريخية يربك السلسلة
تميزت الموسيقى والاختيارات الغنائية المصاحبة لحالة كل دولة على حدة، وجاء الغناء الوطني المرتبط بمجتمعه ليميزه بشكل يجمع بين الشجن والتحريض، أما الموسيقى فكانت -بالإضافة إلى الملامح البصرية والموضوعية- بمثابة حبل الوصل الذي يربط الحلقات باعتبارها وحدة واحدة ذات ملامح واضحة، وجاء التعليق الصوتي سلسا ودقيقا إلى حد كبير.
وفي ظل الزخم المعلوماتي وامتداد الحراك العمالي لما يقرب من قرن من الزمان أو أكثر، بدا البحث المعلوماتي كأنه قد التزم بمصادر وتوجهات بعينها دون الأخرى، فقد احتاجت بعض المواقف التاريخية إلى أكثر من مصدر، للتدقيق في بعض المعلومات المتناقضة التي ذكرت في مصادر مختلفة.
يتجلى ذلك خاصة في قصة إعدام العاملين المصريين مصطفي خميس ومحمد البقري عام 1952، فهي تحفل بكثير من التناقض المعلوماتي والجدل حتى الآن، ويتعلق أساسا برفض ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة للإعدام، وهم جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين ويوسف صديق.
وبدا مع الزخم المعلوماتي أن ثمة خلطا حدث بين اسمي خميس والبقري في الحلقة السابعة (الجزء الأول لتاريخ الحركة العمالية المصرية)، فقد ذكر آخر كلمات مصطفى خميس قبل إعدامه، لكنه أطلق عليه اسم محمد خميس.
تلاحم الأمة العربية.. همٌّ كفاحي واحد لشعب واحد
جسدت السلسلةُ الفكرةَ الأهم فيها، حيث يمكن اعتبار النضال العمالي في تاريخ الوطن العربي مؤشرا قويا على ذلك التلاحم العضوي الذي لا يمكن فصله بين مجتمعات الأقطار العربية، باعتبارها شعبا واحدا لا تختلف همومه ومعارك كفاحه.
إذ تنتقل من النقابي اللبناني فؤاد الشمالي الذي طردته السلطات المصرية، بسبب عمله النضالي العمالي في مصر، إلى اغتيال القيادي الأسطوري التونسي فرحات حشاد الذي أضحى شرارة الحركة النضالية التي حررت المملكة المغربية من الاحتلال الفرنسي، ثم مشاركة الحركة الوطنية المصرية في منظمة التحرير الفلسطينية والتطوع للحرب إلى جوار مناضليها.
وقد أثبتت السلسلةُ برصدها الدقيق القدرةَ المدهشة لحركة النضال الثوري العمالي، على العمل كضوء كاشف لكل الخيانات والأمراض السياسية والمجتمعية التي أصابت جسد الوطن، والعمل أيضا كضوء ساطع على تلك الروابط العظيمة بين الشعوب العربية في الثقافة والدين والتاريخ والظروف المعيشية والتعرض للقهر والنهب الاستعماري.
زعماء التحرير.. قيادة استعمارية تأكل رفقاء الدرب
ظهرت بين طيات التاريخ العمالي والنضالي العربي بشكل عام استنتاجاتٌ مهمة، تتعلق بالتاريخ العربي الحديث، فقد أطاح كل زعيم نُسب إليه تحرير بلاده بالحركة العمالية.
ورغم أن الحلقات قد التزمت بموضوعها، فإن استمرار البحث قد يؤدي إلى التأكيد على أن كل من طفا من الزعماء على سطح حركة التحرير في بلاده، لم يتخلص من الشراكة مع النضال العمالي فقط، ولم يقمعه فحسب، بل تخلص من كل شركاء النضال، سواء العمال أو غيرهم ممن بذلوا الغالي والرخيص، من أجل استقلال البلاد، بل ربما سقط هو نفسه فيما يسمى “متلازمة ستوكهولم” في علم النفس، إذ مارس مع زملائه وخصومه السياسيين أبشع أنواع الممارسات الاستعمارية.
ولعل الزعيم نفسه تحول فيما بعد إلى مندوب لثقافة الدولة الاستعمارية، وصار أقصى أحلامه أن يجعل بلاده صورة من الدولة الاستعمارية التي نهبت خيراتها، وأفقدتها هويتها الوطنية لسنوات طوال، مع استثناءات لبعض التجارب العربية التي ظلت محتلة مثل فلسطين، أو تلك التي تعرضت لمؤثرات طائفية أفقدتها معنى استقلالها إن لم تكن أفقدتها استقلالها نفسه مثل لبنان.
مندوب الاستعمار.. دكتاتوريات أجهزت على الحركة العمالية
لعل حسن النية وحسن الظن يسوقاننا إلى تصور أن هؤلاء الزعماء العرب لم يروا نماذج في بناء الدول سوى تلك النماذج التي اطلعوا عليها من خلال المستعمرين، فلم تتنوع خبراتهم لبناء دولة بشكل مغاير، وهو ما يشير إلى الاحتمال الأسوأ، حيث لم يملك زعيم من زعماء التحرير في بلادنا العربية -رغم رغبته الجادة في الاستقلال- مشروعا وطنيا حقيقيا يرسم خريطة ما بعد الاستقلال، وهو ما أدى بالعالم العربي إلى الوقوع تحت دكتاتوريات دفعت بالبلاد إلى الدوران حول الذات، حتى انفجر الربيع العربي.
وبصدق مشبع بالمرارة وواقعية قاسية فضّل صانعو سلسلة “العمال والسياسة” أن تنتهي الحلقات بانهيار الطبقة العاملة، ولعل الحلقة الثانية هي الأكثر بؤسا، فقد اعترف العامل حسن نعيم الدودي من قلب مصنعه أن الاتحاد العمالي العام اللبناني فقدَ مصداقيته لدى العمال.
ولا ينفرد العامل وحده بالموقف، بل إن قيادات عمالية وباحثين ومؤرخين اعترفوا في الجزء الأخير من الحلقة بانهيار الحركة العمالية اللبنانية، وقد حدث ذلك كنتيجة طبيعية للتحولات الكبرى في الصناعة وفي المجتمع اللبناني، فضلا عن المؤامرات التي حيكت للإجهاز عليها، سواء من قبل السلطة الحاكمة أو الطائفية، أو الخيانات، أو انهيار الصناعة وتحول العمال لمهن أو أعمال أخري.
جبل لبنان.. تاريخ من الكفاح والفوضى المنضمة
تؤرخ الحلقة اللبنانية لنشوء الطبقة العاملة اللبنانية عبر اقتصاد الحرير، وتحدد بصريا وصوتيا لبنان 1860 بأنه ذلك الجبل الخصب الموازي للشاطئ، ويسكنه مسيحيون ودروز ومسلمون، وهو جزء من سوريا العثمانية، وتستعرض الكاميرات بلقطات أرشيفية جبل لبنان، ثم تتابع قصة العمال والنضال في سبيل حياة كريمة، حتى تأسيس أول تنظيم نقابي لهم.
شملت الحلقة مصادر متنوعة يصل عددها إلى 18 مصدرا بين مثقف وعامل، تحدث بعضهم باعتباره أكاديميا ومؤرخا، وتحدث الآخرون باعتبارهم عاشوا وناضلوا ودفعوا الثمن من حياتهم، في سبيل حركة عمالية قوية، ويمكن التمييز بين النوعين ببساطة دون النظر إلى الاسم أو الصفة عبر مكان التصوير.
إذ تنبه المخرج إلى الفارق بين أكاديمي يتحدث من مكتب مكيف، وبين قيادي عمالي يصور معه من داخل مصنعه، أو حتى من موقع المظاهرة التي شارك فيها، ويبلغ الجهد مداه، إذ نرى على الشاشة كارمن بشارة التي شاركت في مظاهرة الـ300 ألف عامل ومواطن لبناني عام 1989، وهي التي أزالت الحواجز بين بيروت الشرقية والغربية، وأدت إلى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية.
لكن الملفت أكثر أنه -من بين الدول العربية التي استعرضت الحلقات تاريخها- لا يوجد بين قيادات الحركة العمالية نساء إلا في لبنان ومصر.
فواصل السلسلة.. استراحة ذهنية ترسم أجواء خفيفة
استعان مخرج السلسلة بالأغنيات الوطنية، باعتبارها مميزة لكل مجتمع عربي، لكن لبنان كانت له الخصوصية الكبرى، فحين يقترب المخرج من منتصف الحلقة نجد لفتة شديدة الذكاء والحساسية، إذ يمزج بين الموضوع وبين صناعة استراحة ذهنية للمتلقي، في فقرة لم يضع لها عنوانا مكتوبا كما فعل في الفواصل المختلفة.
يفاجأ المشاهد بصوت فريد الأطرش، ثم مشاهد من فيلم “زمان يا حب”، ليكتشف أن ما يراه ليس فاصلا غنائيا، وإنما هو تصوير لأجواء الازدهار الفني والسياحي في لبنان في سبعينيات القرن الماضي، وهو ازدهار ما قبل عاصفة 1975 المدمرة، ويأتي التعليق الصوتي ليؤكد على ذلك.
الواقع أن المعمار الذهني والجمالي للحلقات جاء مبسطا، بحيث تكاملت العناصر الصوتية والبصرية بشكل أدى إلى متعة سمعية وبصرية، لكنه أدى الوظيفة العقلية والمعلوماتية بشكل مدهش، عبر نظام السرد الذي التزم به التعليق الصوتي، بينما ترك التحليل والتفاصيل للمصادر.
وحتى في داخل منظومة السرد التي قام بها المعلق الصوتي، كانت الدوائر المحلية والعالمية وتقسيماتها واضحة، فكان الربط بينها وبين تأثيراتها على الطبقة العاملة والحركة العمالية ذا منطق درامي.
ربط الحركة العمالية بالدوائر المؤثرة.. لمسات الحيوية
ساهم الربط بين الحركة العمالية والدوائر المؤثرة عليها في إضفاء حيوية على الحلقات بشكل عام، وتفاوتت الحيوية طبقا للدراما في كل حلقة على حدة، تبعا لقسوة الحاكم أو المستعمر، ولكن الأقسى على الإطلاق جاء في مجازر واغتيالات الفرنسيين في تونس والمغرب، فضلا عن الصهاينة في فلسطين.
وعلى طريقة الفاصل الفني بفيلم “زمان يا حب”، قدّم المخرج فاصلا إعلانيا لمؤسسة “سوليدير” التي أنشأها رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني السابق ورجل الأعمال الذي مُهّد المناخ لقبوله، باعتباره المخلّص بأمواله ومشروعاته، وكان وجوده بداية لانهيار طبقة العمال اللبنانية.
ولعل أجمل ما في الحلقة هو ذلك التخليد والاستعانة بالرسم التعبيري للمناضلة الفدائية وردة بطرس، بشجاعتها وإخلاصها ورفضها لتراجع المتظاهرين، ثم استشهادها مع زملاء لها، ليأتي اليوم التالي حاملا البشارة باستقلال لبنان والإفراج عن الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح.
قوة الجماهير.. شرارة دافئة تحرر العقل العربي
ولعل الأجمل على الإطلاق في سلسلة “العمال والسياسة” هو ذلك التحرير للعقل العربي من فكرة الزعيم الفاعل لكل شيء إلى القوة الجماهيرية الفاعلة، فهي الوقود الذي يحرق الطغيان ويصنع الدفء للوطن، وفي لبنان بدأ الأمر بفؤاد الشمالي، ولم ينتهِ بوردة بطرس ومصطفى العريس وإيليا أبو رزق وغيرهم.
وفي فلسطين كان العامل عبد اللطيف حيمور الذي تقدم بطلب لتأسيس أول نقابة عمالية فلسطينية، لينهي بذلك مرحلة ضعف الوعي لدى العمال العرب والتحاقهم بالهستدروت (اتحاد نقابات العمال). وفي كل دولة عربية يوجد الزعماء الحقيقيون داخل صفوف النضال الوطني، بعيدا عن الأضواء وكراسي السلطة، لذا تأتي هذه الحلقات لتمنح هؤلاء بعض ما يستحقون.
وتبقى انتفاضةُ الحوض المنجمي في تونس خيرَ دليل على ضرورة استخلاص التاريخ من براثن الإعلام، فقد كانت ثورةُ تونس العظيمة وأبطالها وشهداؤها الشرارةَ والنبوءة الحقيقية لنور الثورة، كما تبقى مظاهرة 9 مارس 1919 لطلاب مدرسة الحقوق في مصر هي الشرارة التي أشعلت نار الثورة التي حررت مصر.
وكان ينبغي للعراق الثري بفنونه أن يفتتح قصة نضاله العمالي بصوت وموسيقى عراقية، فالحديث هنا عن استكمال تفاصيل الحالة العراقية من البداية للنهاية، لكن صوت فيروز مع جماله يبقى رمزا للبنان، أما الشيخ إمام عيسى الذي افتتح الحلقة التونسية، فرغم كونه مصريا فإن لتونس فيه مثلما لمصر، فقد ارتبط بتونس وارتبطت به، بل انطلقت شهرته للعالم منها في زمن صادرته خلاله السلطات المصرية المتتالية على اختلافها.